سقراط وعين كارم


معنى اسم هذا الفيلسوف والحكيم اليوناني الشهير سقراط (468 - 399 ق.م) "المعتصم بالعدل" وهو معلم افلاطون. في فلسفته حظيت الحكمة بمكانة مرموقة جدا. كان يرى بأن الحكمة طاهرة مقدسة وعليه فلا يجوز تسطيرها على الجلود بل ينبغي ان تحفظ وتصان في العقل والوجدان. لذلك لم يصنف هذا الفيلسوف شيئا وما يعرف عن حياته وافكاره وفلسفته مستمد من كتابات افلاطون ولا سيما حواراته. تبع سقراط نهج استاذه طيماتاوس الذي اجاب بما يلي حول مسألة تلخيص الطالب لما يسمعه من معلمه:

"ما اوثقك بجلود البهائم الميتة، وأزهدك في الخواطر الحية! هب ان انسانا لقيك في طريق فسألك عن شيء من العلم، هل كان يحسن ان تحيله على الرجوع الى منزلك، والنظر في كتبك؟ فإن كان لا يحسُن فالزم الحفظ".

هجر سقراط ماديات دنياه ولذاتها وحارب السفسطة وترفع عن عبادة الاصنام والتماثيل فسيق الى السجن حيث زُجّ فيه وجُرّع السّم الزّعاف ومات موت الابطال.  ومعنى السفسطة او السفسطة، كما لا يخفى عن الكثيرين، هو انتهاج القياس الواهي بغية تزوير الحقائق وتمويهها. قتل سقراط جسدا اما روحه فبقيت حية فاعلة في عقول تلامذته وتلامذة تلامذته وأفئدتهم اذ بلغ عددهم اكثر من اثني عشر الفا. وكما قال ارسطو فيما بعد: "من نازع السلطان مات قبل الاوان". اسلوبه في التعليم والتحليل كان مبنيا على السؤال والجواب وقد ترك ذلك أثرا عميقا وجليا في نفوس مستمعيه. لم يرض بدنانير الملك وبجواهره وديباجه كي يغير رأيه حول ايمانه بالخالق وتمسكه بالحياة الإلهية، حياة الروح والبر والحق. ابتعد سقراط عن الهيولانيات أي الماديات وانغمس في عالم كله روحانيات وتأملات. فقد كان يقول: لا تدع حواسك الخمس تصول وتجول فيما لا ينفع كي تضيء نفسك، ولا تتجاوز الميزان أي كن عادلا وحاول اكتساب الفضائل والخيرات في كل زمان ومكان. تلك الفضائل والبر ونصرة الحق يمكن اكتسابها اذا استغلت اعضاء الجسم الاثنا عشر بالشكل الصحيح الايجابي. وهذه الاعضاء هي: العينان والاذنان والمنخران واللسان واليدان والرجلان والفرج.

ومن اقواله بل حكمه وافكاره الثاقبة الصائبة ما يلي: لا لذة الا وبعدها ألم ولا ألم الا وبعده لذة، النفس جامعة لكل شيء، فمن عرف نفسَه عرف كل شيء، ومن جهل نفسه جهل كل شيء، وهناك قول شبيه بهذا لجالينوس الطبيب "معرفة الانسان نفسه هي الحكمة العظمى"، ما ضاع مَن عرف نفسه، النفس الخيّرة مكتفية بالقليل من الادب والنفس الشريرة لا ينجع فيها كثير من الادب لسوء مغرسها، لو سكت مَن لا يعلم لسقط الاختلاف، الدنيا سجن لمن زهد فيها وجنّة لمن أحبها، رأس المودة حُسن الثناء ورأس العداوة سوء الثناء، خير الأمور اوسطها، الصبر يعين على كل عمل، لا يكون الحكيم حكيما حتى يغلب شهوات الجسد، أقرب شيء الأجل وأبعد شيء الأمل، انما جُعل للانسان لسان واحد وأذنان ليكون ما يسمعه اكثر مما يتكلم به، أنفع ما اقتناه الانسان الصديق المخلص، رأس الحكمة حُسن الخلق، النوم موتة خفيفة والموت نوم طويل، الجاهل من عَثَر بحجر مرتين، استحبّ الفقر مع الحلال عن الغنى مع الحرام.
ويقال ان شخصا سأل يوما سقراط قائلا: لم صار ماء البحر مالحا؟ فأجابه إن اعلمتني المنفعة التي تنالك من علم ذلك أعلمتك السبب فيه!

قبل اعدام سقراط سأله اصدقاؤه وتلامذته عما يوصيهم بالعمل تجاه اهله، نسائه واولاده الثلاثة فرد عليهم:
"لست آمركم بشيء جديد، بل هو الذي لم أزل آمركم به قديما من الاجتهاد في اصلاح انفسكم، فإنكم اذا فعلتم ذلك فقد سررتموني وسررتم كل من هو مني بسبيل". ومن سقراط الفيلسوف الى قرية عين كارم فاتنة الجمال الواقعة في واد يبعد حوالي ثمانية كيلومترات الى الجنوب الغربي من مدينة السلام، القدس. اربعون قرية عربية تقريبا في منطقة القدس مثل دير ياسين ولِفتا والمالحة وبيت محسير ودير الهوى والبريج والقسطل وبيت نقوبة وسريس وبيت ام الميس وراس ابو عمار هُجر اهلوها ودُمرت عن بكرة ابيها اثر حرب 1948 باستثناء عين كارم ولفتا. سقطت عين كارم ما بين 9 - 18 تموز عام 1948 وبلغ عدد سكانها حوالي اربعة آلاف نسمة. تراوح عدد العرب الفلسطينيين ابناء تلك القرى ما بين 40 الفا الى 50 الفا موزعين على عشرة آلاف منزل. هذا بالاضافة الى احياء عربية معروفة في القدس مثل الطالبية والبقعة والقطمون والشماعة والنمرية والوعرية ودير ابو ثور. زد على ذلك احياء مختلطة من العرب واليهود في روميما وشيخ بدر ولفتا. باستثناء قريتين عربيتين اثنتين هما بيت صفافا الى الجنوب وابو غوش الى الغرب لم يبق أي شاهد حي ناطق على الوجود العربي الفلسطيني في منطقة القدس الغربية بعد حرب 1948. والجدير بالذكر ان الاملاك في المنطقة المذكورة عام 1948 كانت مقسمة كالآتي: 40% للفلسطينيين، 26% لليهود، 14% وقف للكنائس، 20% ملك لحكومة فلسطين. ولا بد هنا من ذكر الجالية اليهودية التي نزحت من مكان اقامتها في الحي اليهودي في القدس القديمة الى الجانب الغربي من المدينة المقدسة. كان لهذه الجالية حوالي خمسة دونمات في القدس القديمة من اصل 800 دونم.

عين كارم أي "عين الكرم، البستان" قديمة العهد وتحتل مكانة هامة لدى المسيحيين اذ انها، وفق الاعتقاد المسيحي منذ القِدم، مسقط رأس القديس يوحنا بن زكريا الكاهن المعروف بالمعمدان لأنه عمّد يسوع المسيح. كما وقصدت المكان مريم العذراء والدة يسوع المسيح لزيارة نسيبتها اليصابات والدة المعمدان ومكثت هناك مدة ثلاثة اشهر. وُلد يوحنا هذا في مغارة بجانبها اليوم دير الفرنسيسكان. عاش يوحنا المعمدان الملقب ايضا بـ "السابق" لأنه سبق المسيح في المعمودية حياة عبادة وتقشّف في البرية. لاقى يوحنا حتفه بقطع رأسه بناء على طلب سلومة ابنة هيروديث الى الملك هيرودس حوالي العام 30م. ومما يجدر ذكره هنا في بلاد الشمال بأن الاحتفال بعيد juhanus في 26 حزيران من كل عام هو ذكرى لهذا القديس. ومن اقواله الجديرة بالذكر ما يلي، (لوقا 3: 7 - 11): "وكان يوحنا يقول للجموع الذين جاءوا ليتعمدوا على يده: يا اولاد الافاعي، من علمكم ان تهربوا من الغضب الآتي؟ اثمروا ثمرا يبرهن على توبتكم، ولا تقولوا لأنفسكم: نحن ابناء ابراهيم! اقول لكم: ان الله قادر ان يجعل من هذه الحجارة ابناء لابراهيم! ها هي الفأس على اصول الشجر، فكل شجرة لا تعطي ثمرا جيدا تُقطع وتُرمى في النار. وسألته الجموع: ماذا نعمل؟ اجابهم: من كان له ثوبان فليُعط من لا ثوب له. ومن عنده طعام، فليشارك فيه الآخرين".

وقد جاء في انجيل لوقا ايضا (1: 39 - 45) وفي تلك الايام، قامت مريم واسرعت الى مدينة يهوذا في جبال اليهودية.ودخلت بيت زكريا وسلمت على اليصابات. فلما سمعت اليصابات سلام مريم، تحرك الجنين في بطنها، وامتلأت اليصابات من الروح القدس، فهتفت بأعلى صوتها: مباركة انت في النساء ومبارك ابنك ثمرة بطنك! من انا حتى تجيء إليّ أ ُمّ ربي؟ ما ان سمعتُ صوت سلامك حتى تحرك الجنين من الفرح في بطني. هنيئا لك، يا من آمنت بأن ما جاءها من عند الرب سيتم".

في قرية عين كارم آثار تاريخية دينية، سبع كنائس وأديرة ومسجد ومقابر وعين مريم. من هذه الكنائس كنيسة القديس يوحنا المعمدان التي هدمها السامريون الذين ثاروا ضد البيزنطيين المضطهدين في القرن الخامس للميلاد فأعاد بناءها الصليبيون في القرون الوسطى ثم رممتها العائلة الاسبانية المالكة في اواخر القرن السابع عشر. اقامت اسرائيل في شمالي القرية الوادعة الخضراء حيث المسارب والأزقة وشجر الزيتون والكرمة واللوز، الفنادق وبرك السباحة تشجيعا للسياحة. كما ان بعض المنازل العربية القديمة قد حولت الى فنادق. على اراضي "عين كارم" الطيبة اقيم ايضا مستشفى"هداسا" عام 1912 وبعد ذلك متحف "يَد فَشِم" أي "يد واسم" الذي يخلد ذكرى ضحايا النازية من اليهود. والشيء بالشيء يذكر، عمارة الكنيست وفندق هيلتون مقامان على ارض قرية لِفتا و "حديقة الاستقلال" في مركز القدس كانت مقبرة اسلامية في منطقة ماميلا، مأمن الله وهلم جرا. ويحضرني قول لوزير "الامن" الاسرائيلي، موشيه ديان (1951 -  1981) المخطط للحروب الثلاث مع العرب في الاعوام 1956، 1967، 1973 فإنه قال في اواخر الستينيات ما معناه: "لا يوجد مكان واحد مبنيّ في هذه البلاد لم يكن فيه من قبل سكان عرب" (صحيفة هآرتس 4 نيسان 1969). اما زميله البروفيسور بن تسيون دينور وزير التربية والتعليم الاول في اسرائيل فقد صرّح عام 1954: "في بلادنا مكان لليهود فقط. سنقول للعرب: اخرجوا! ان لم يوافقوا، ان قاوموا فإننا سنطردهم بالقوة". ومما يجدر ذكره في هذا المجال بأن عدد لاجئي منطقة القدس بلغ في صيف 1999 حوالي اربعمائة الف نسمة.

نعود الى سقراط هو اسم لبرنامج عمل لمجموعة الاتحاد الاوروبي في مضمار التربية، بُدئ العمل فيه عام 1995. من اهم اهداف هذا البرنامج الخماسي رفع مستوى التربية والتعليم والابحاث والاستفادة القصوى من التباين في الاساليب المتبعة في دول الاتحاد الاوروبي الخمس عشرة. يشمل هذا الإطار كافة مراحل التعليم وفروعه المختلفة. يقدّر عدد سكان دول الاتحاد الاوروبي بـ 360 مليون نسمة وفيها اكثر من خمسة آلاف جامعة او معهد تعليمي عال يدرس فيها حوالي احد عشر مليون طالب وطالبة. ومن سمات هذا التعاون تبادل محاضري الجامعات لفترة اسبوع او اثنين.

في اطار هذا البرنامج "السقراطي" وصل الى جامعة هلسنكي محاضر من احدى جامعات باريس ليلقي بعض المحاضرات بالعبرية (والانجليزية عند الحاجة) على طلبتنا في قسم اللغات السامية حول تاريخ اليهود في القرن التاسع عشر في شرق اوروبا. احدى المشتركات في هذه الدورة التي استغرقت اسبوعا كانت شابة اسرائيلية يهودية عرفتني عليها احدى طالباتي الفنلنديات التي تُحسن الحديث بالعبرية. وعندما علمت بأنها تسكن في مدينة القدس التي عشت فيها حوالي عقدين من الزمان سألتها على الفور وأين في القدس؟
اجابت: في عين كيرِم
قلت: مكان رائع
قالت: أخذناه من العرب!


د. حسيب شحادة - جامعة هلسنكي (خاص بـ <<الاتحاد>>)
السبت 20/3/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع