دروس في الاتيكيت والرجولة

 
"جحش"، بصق الاعرج هائجا مائجا وجاءك عبر الكثبان الرملية والامواج المتلاطمة مجدفا بمسطرته الحديدية التي ما انفكت تفارقه. استهلك مشواره ثواني عديدة هي المسافة ما بين كرسي المعلم ومقعدك انت في الزاوية المرطبة بين خيوط العناكب.
 
أردت ان تنهض من مقعدك لتواجه الغزو الغاشم وتقف عند حقك. أردت أن تصيح في وجهه أن يتوقف عن جنونه ويعترف بانك لم تخطئ. أردت, إن زودها, ان تحمل الكرسي وتضربه في رأسه حفاظا على شرفك ورجولتك. أردت أن تكون رجلا حقيقيا، كان في وسعك ذلك لكنك جبنت،لا عجب!!
 
جبنت الى حد لم تستطع فيه أن تشارك أولاد صفك السخرية من اقدام المعلم بتلك السرعة وهو أعرج كاد يقع أكثر من مرة، بسبب اختلاف في طول ساقيه. كدت تضحك ولكنك لم تقم الا بمد رأسك, تماما كالسخل, ومط رقبتك لينطبع فوقها الكف "خمّاسي" دونما عناء. فتحت يديك بكل مذلة لنيل ما جاءك من هيجانه.
 
 لو كنت رجلا لما سمحت لنفسك بالوصول الى هذا الوضع، ولو كنت رجلا ووصلت اليه، لقمت على الاقل بفقء ثمانين عينا راقبتك بفرح فاضح ومتشفٍّ ولكنك جبنت حتى عن رفع عينك عن الارض، وكالعادة أجهشت بالبكاء، بوسعهم هم أن يضحكوا من بكائك، وبوسعك أن تفرح متشائلا، فأنت على الاقل لم تبول في سروالك!
 
**
 
"انصرف، وانهق خارجا ما شئت"، قال المعلم لاهثا بعدما أعيته المهمة، "ولا تعد الا رجلا" أوقفك عند الباب مردفًا. أردت أن تطرق الباب بما أوتيت من قوة. ان تذهب من الناحية المقابلة وتكسر زجاج الصف أو سيارته بالحجارة. أن تصنع أي شيء يحفظ ما ظل من كرامتك النازفة، لكنك ظللت عند جبنك، لتواصل بكاءك المرير والمتواصل والذي هو بحق كالنهيق..
 
بعد ربع ساعة قضيتها في المرحاض غير مبال بالرائحة المنبعثة من كل زاوية، كنت قد تمكنت اخيرا من مسح دموعك، لتتوقف عن البكاء ولو للحظة. بدأت أخيرا تتمالك رباطة جأشك، لتطرق باب الصف بكل أدب، وتدخل مبتسما، مستأذنا الى مقعدك فترفع أصبعك وتوضح انك لم تنتبه الى تفسير الاية، ستتلوها بصوت جميل رتيب وتحسن ترتيلها محافظا على اصول هذا الفن، لا سيما الادغام، موضوع درسك الاخير.
 
بوضوح وبلا تأتأة ستجاهر بتألق "وأذن في الناس بالحج يأتونك رجالوّ على كل ضامريّأتين من كل فج عميق". وقتها سيسامحك بلا شك وسيتفهم ان الالتباس ممكن بين "الرجال" في هذه الاية والرجال في هذه المدرسة الخاربة، أو كما تحبون تسميتها "المتيسة"..
 
**
 
أهنئك بكل صدق ودونما شماتة، على تلك الجرأة في التفكير، وأهنئك أكثر على الجبن في التصرف، فأنت طبعا لم تنجر وراء المنطق ولم تدخل الصف.
 
اكتفيت بالبقاء في مرحاضك، طبعا كي لا يراك أحد فيعرف أنك "أبو القتلات"، وأظنك قد ضحكت أنت أيضا من خطأك وان كان بريئا، ولكن لم لا تتنازل عن أنانيتك وتفكر في وضع المعلم قليلا، فما ذنبه وقد وضعته في موقف حرج لتتلون قرعته فتحمر وتزرق وسط ضحكات العرصات من أبناء صفك.. ألم يكن تصرفه أقل الايمان لحفظ ماء الوجه وإخماد ما شاع من هرج ومرج?
 
وليس الذنب منسوبا الى من ضحك، انما على من حمله الى ذلك، الذي هو أنت!
 
أي جبن هو الذي منعك من الاعتراف بانك لم تقرأ المردفات حتى ارتكبت ذلك الخطا الفاضح.
 
يا رجل، سألك من هم الرجال، فقلت بثقة الجاهل "الزلام"، ولا بأس، كما لا باس ان تفسر الضامر بالنساء لا لشيء، غير اعتمادك على منطقك الاعوج السقيم، الذي سيتقن الانتقام بعد سنوات في امتحان البسيخومتري الأغر!  اما ان تركبهم فوقهن فهو قلة الحياء وقمة السقوط، لما يحمل ذلك من تبعات..
 
"اللهم لا تؤاخذنا على ما فعله السفهاء منا" قلت مبتسما بمكر كأن الفاعل لا يعرفك ولا هو من صفك.
 
 كم افرحتك هذه الدرة اللغوية، وقد اكتشفت أن الرجل بمشيه وساقيه وليس فيما بينهما، ولله في خلقه شؤون.
 
**
 
قرع الجرس. فتحت الماء في المرحاض لشطف ما لم تتجرأ على تبوله وهممت بالخروج. كنت تود الا يتحدث أحد عن بهدلتك، وان تنسى تلك الحادثة بسرعة. في الحقيقة، لم يقلقك هذا الامر كثيرا، فبوسعك بسرعة نقل التندر من شخص الفاعل، الذي هو أنت الى الغلطة نفسها، وهي تليق بلا شك بسهرات المراهقين أشكالك الصفراء الرخيصة، كنت ستضحك من تفسيرك للاية مرة ومن اكتشافك الذي ستفاخر به، وتقول بان سر الرجولة في كف قدمك، في مشيك السريع وليس في... اما درسك الاول في الاتيكيت حول مشيك وركوبهن فستحتفظ به لنفسك.
 
في طريق قدميك الى الصف، وخيالك الى سهرة اخر الاسبوع القريب، مررت ثانية بالمعلم ذاته، فخفت أن تنظر اليه علانية. نظرت استراقا.
 
 كان يتحدث الى معلمين اخرين عنك، هذا ما سمعته، وقد اتخذ دورك, انت المراهق, باتقان، حتى بطريقة تدخينه المتسارعة كي لا يكشف أمره أحد من الطلاب، حدثهم عنك، وقال: بلا شك انك قرد وتلقطها ع الطايرة وانك عرص لا كلام، قال ما قاله عن الرجال وركوب النساء وأطلق العنان لضحكته، الا تذكرك بالنهيق؟ الا يذكرك ببكائك؟
 
تماما، وقد كنت قبالته، نزع النظارة السمراء السميكة عن عينيه ومسح دموع فرحته فقرعته فالزبد الابيض عند طرفي شفتيه لينتهي بطبطبات سريعة مرحة فوق بطنه المترهلة..
 
ادهشك هذا التناقض بين نرفزة ورواق خلال اقل من ساعة وظننت المعلم أقرب اليك من نفسك التي هي انا، كدت تذهب لتضربه على كتفه وتطلب منه سيجارة.
 
أهو حقا يقترب منك ليناولك سيجارة ؟
 
**
 
هربا من عيون الاخرين تسمرت عيناك في اللوح، كتب المعلم ذاته ان موضوع الدرس القادم من نسائك الحج سيكون حول الصفا والمروة وقصة الذهاب والاياب بينهما سبع مرات. هذه المرة ستقرأ جيدا لتعرف القصة باكملها، وتحدث الصف كله عن هاجر عليها السلام، تلك السيدة التي وجدت "زمزم" اشهر ينابيع الماء في الربع الخالي من الصحراء، ستؤكد انها بحثت عنه راجلة.. ولن تستنكر هذا التقسيم العجيب وكأن الرجال قادرون على المسير اما النساء فقواصر، ستتحجج بانك غير متاكد من المصدر وانك امام التباس لغوي لا اكثر.
 
لن تقول لهن ان يركبن او يمشين، فانت لاتحب السياسة ولا الحديث فيه.
 
لن تقول بان المنحوس منحوس ركب او مشى، والدليل عائشة التي ما ان ركبت حتى قتلتها اتهامات الافك..
 
لن تقول شيئا ولكن قد ياتيك يوم تقول فيه مقتضبا متلعثما دون اقتحام السياسة، ستقول ذات ثامن من اذار  "كل زمزم وانتن راجلات" ..
أمجد شبيطة
السبت 20/3/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع