العقل في الدنيا اعظم عرّاف


 يرسم الكاتب الليبي ابراهيم الكوني في روايته الاخيرة "البحث عن المكان الضائع" عالما ضباببا كبخور السحرة ينتشر في صحراء غير ذات حدود وتبدو انها الدنيا كلها.. ويفيض بمزيج من الافكار واجواء الكهانة والخرافات والاساطير ليوحد بين الديني والفكري.
 
الا ان القارىء يجد، وإن جره الخيال بعيدا احيانا، ان ما يورده الكاتب يتناول مفاهيم واحداثا ووجوها متعددة من عالمنا الحديث وانها تشكل في بعض وجوهها مجموعة مواعظ وافكار ليست منقطعة الاتصال بالواقع.
 
المزيج الذي يقدمه الكوني لقرائه تحت اسم "رواية" قد لا يكون روائيا في صلبه وفي كثير من تفاصيله، فالسرد عند الكاتب وسيلة لنقل افكار كثيرة ومتشابكة يستخلصها القارىء في شيء من الحيرة والشكك احيانا.. ووسط سيل من الاسماء التاريخية والدينية "المحوّرة" لاشخاص واحداث ومن الرموز المتعدة التي يتجاور فيها الفلسفي والصوفي.
 
في الرواية التي صدرت عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" يلتقي القارىء اسماء عديدة وان مقنعة بضباب كثيف متعمد. انه يلتقي هذه الاسماء في صور شخصيات حينا.. وفي اشكال افكار واقوال لا يصعب ردها الى اصحابها احيانا اخرى.
 
هناك كثير من الاجواء. قديمها يتغذى بقصص الانبياء وباجواء حياة المسيح في شكل خاص.. ومتأخرها يطل حينا من خلال " المصطفى" عند جبران خليل جبران ومن خلال فرسان ميخائيل نعيمة الذين انتصرت عليهم شهوات النفس. تقسيم الكتاب اشتمل على اسماء وموضوعات كثيرة يطرح الواحد منها ليتحدث عنه الكاتب كما في "نبي" جبران. من ذلك مثلا ..العرفان ..التميمة.. الترحال..الخلاص .. البيت وهو هنا بيت "رومانسي" وصوفي يعني القلب. ومنها الحب والبطولة وعشرات العناوين الاخرى. ويتخذ الحديث عنده باستمرار نفسا "نبويا" متعدد السمات كما يرافقه في غالب الاحيان عنصر صوفي يتمثل فيما يتمثل في شخصية "الابله" وهو ذاته "البهلول" او الرائي الذي تنطقه بالحق والحكمة قوة اكبر منه والذي نقرأه يقول "عقولكم في رؤوسكم لكن عقلي في قلبي".  ونجدالكاتب حينا اخر يفلسف القصص الديني فيقول بلسان احدى الجنيات او "فتيات الماء" مستندا الى قصة ادم وحواء "ان الفم عورة اخرجتنا من البستان وحولت دنيانا صحراء."
 
وقد يؤخذ على الكاتب كثرة عدد شخصياته وتعدد اسمائها الغريبة وتغير هذه "الاسماء الرموز" احيانا الى درجة يصعب فيها على القارئ خلال الحوارات الدائمة الاستمرار في ربط الاقوال والاراء باصحابها.
 
والرواية تبدو احيانا شتاتا من افكار وصور وخرافات واجواء اساطير.. ومن حكم واراء وكل ذلك وسط اجواء شعرية يبدو جوها حالا وسطا بين الحلم والخرافة لكن الرابط بينها لا يتضح باستمرار. وهي لا تنمو نموا روائيا بل تشكل طبقات تحمل السمات هذه.
 
تنطلق الرواية من خلال "غريب" يحل في واحة صحراوية فيثير التساؤل والتكهنات والخوف. ويصف الكوني بشكل موح حالة اهل الواحة طارحا مداورة مسأالة ما يسمى نحن والاخر التي يكثر الحديث عنها هذه الايام. يقول " في اشباح العابرين قرأوا دائما رسالة خفية.. يحملون في اقدامهم المطر احيانا كما يجلبون للديار شرورا احيانا اخرى." واخذ اهل الواحة سعيا الى معرفة حقيقة القادم يرسلون اليه العديد من شخصياتهم ومن اهمها العراف والابله والداهية. وفي نهاية الامر يكتشف القارىء ان الامور وان بدت بعيدة وبدا بعضها رهيبا هي في النتيجة مترابطة نسبا وشبها في مجالات عديدة.
 
ونجده في الحديث عن البطولة يذكّرنا بمفهوم صوفي عريق كما يذكرنا بشكل واضح جدا بقصة ميخائيل نعيمة التي حملت اسما يثير الانتباه هنا لشبهه بمكان رواية الكوني .. والاسم هو " واحة السلام" التي تحدث فيها نعيمة عن اربعة فرسان سيطر كل منهم على ربع الارض لكنه لم يستطع فتح باب واحة السلام بينما استطاع رجل عادي ضعيف فتحه بسهولة. وذلك لان الفرسان سيطروا على العالم ولم يسيطروا على انفسهم. يقول الكوني متحدثًا بلسان احدى شخصياته عن "مولانا امار" الذي صرع مارد الجن فيرد "النزيل" على الحديث بقوله إن هذا ليس عملا بطوليا "لان البطولة شيء اخر. البطولة ان تصرع نفسك لا ان تصرع الجان."
 
وفي الحديث عن موضوع الروح والجسد يقيم الكاتب حوارا بين شخصيتين تشير احداهما الى خطل الاغراق في التركيز على النواحي الروحية على اهميتها دون التفات الى الناحية الاخرى في الحياة. يقول " صاحب الاتان" مخاطبا حملة الناموس "انتم حملة الناموس اول من خان الناموس. لقد نفختم في لغز الروح من انفاسكم حتى انسيتمونا وجود الجسد ونصبتموه (الروح) على الرقاب ربا حتى ايقنا باننا روح بلا جسد. ونسيتم اننا لا نملك في دنيانا الا هذا الجسد..."
 
في الفصل الثالث من الكتاب وتحت عنوان "الاستجواب" يدور حوار بين "ادهي" الغريب وبين "الابله" بما قد يصح وصفه بلغة "انا والاخر" وبان الحياة تقوم على تنوع ضمن وحدة. يرفض الغريب دعوة الى لقاء اكابر الواحة فيقول الابله "ولكننا لم نخلق في هذه الصحراء الا لنلتقي ولم يتجاور الناس الا ليجتمعوا فما الجرم في قبول دعوة الداعي." يجيب الغريب "الجرم في اللقاء..فهل تنكر ان الناس لم يجتمعوا الا ليتنافروا ويتناحروا." ويرد الابله على ذلك قائلا "ولكن التنافر ايضا حياة لاننا لا نعلم حقيقتنا ان لم نتخاصم ونتنافر. لاننا لا نتنافر الا لنتجاور من جديد ونرتمي في احضان بعضنا البعض."
 
وفي استعادة "حديثة" لجدل قديم هو موضوع العقل و"نبؤة" العراف واعتبارهما واحدا يقول صاحب العقل "كل صاحب عقل عراف. العقل في الدنيا اعظم عراف.. لكن النبؤة في لسان العراف اقوى."
 
ويستكمل النقاش عن سبب عدم "مسايرة" الناس او "الاحتيال عليهم" في السعي الى تغييرهم فيقول الاول "لو سايرناهم لجرونا الى دنياهم" فيرد الاخر عليه ناظرا الى السماء "هذه بلية الرسل.. لو اخذ الرسل الناس باللين لما ارتفعت يد لترجم الرسل بحجر." وسأله "هل انت رسول." فأجابه "الجليس" قائلا "كلنا رسل. كل صاحب نية رسول."

("رويترز")


السبت 20/3/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع