(الحلقة السادسة)
ذاكرة العنقاء

اتى الربيع الثالث بعد العاصفة حاملا معه خُضرة سندسية غطت كل مكان في القرية وجوارها. عادت معه الطبيعة الى الحياة بعد سبات شتائي طويل. رجعت تلك الحساسين ورجعت الفراشات وعادت الشمس تشرق كل يوم من جديد وتبعث الدفء للحياة وللمخلوقات كلها بدا لنا نحن الصغار لأول وهلة كأن القرية بعثت لمجدها الاول قبل العاصفة لولا الدوريات العسكرية الراجلة والآلية التي اختالت بصَلف وعُنجهية الدرب الرئيسة التي عبرت القرية من اقصى الغرب حيث عين الماء الى الشرق حيث تلة البلوط.
 في مشرق الشمس. كانت تلك الدوريات السائبة تدور في كل مكان في القرية تبحث عن لقمة سائغة حتى تنفث حِممها النارية على كل شيء، قال الكبار الباقون ان الغرباء بحثوا على من تبقى من الثوار المقاومين وعلى من ساعدهم من اهل القرية رغم عمليات التهجير القسرية التي فرضها اولئك على من تبقى من اهلها. باغتوا اهل القرية في بقايا بيوتهم نياما وعاثوا بها خرابا ودمارا ولم يتوانوا عن مصادرة الحيوانات الاليفة والدواجن والطيور حتى اني بت لا انام قلقا على صديقي الحصان. صحوت مرارا هلعا مذعورا وركضت حافيا نحو الاسطبل خلف الدار أتفقده وأطمئن على وجوده في مكانه. حمدتُ الله في سرّي مرارا عندما شاهدته من بعيد شامخا كعهده واقفا يمضغُ حبات الشعير ملوحا بذيله غارقا في العتمة الزرقاء التي بددتها أشعة القمر المتسربة اليه من فجوات التهوئة تحت السطح مباشرة.
زحف الخضرة الربيعية في كل مكان لم يفلح في محو آثار الهدم والخراب اللذين خلفتهما الايام والشهور الخالية في القرية. بقيت احجار المئذنة مبعثرة بعد ان تهدم الحائط الغربي للمسجد حيث عُلقت الشبابيك الملونة التي نظرنا عبرها للقرية وشاهدنا البيوت والناس بكل الوان قوس قزح. اجراس برج الكنيسة العالي قبعت في زاوية مدخلها الكبير الآيل الى السقوط. طار برج الاجراس مفخرة القرية واصبح اثراً بعد عين. لم نعد نسمع الأذان ونحن شاردون في الحقول حول القرية ولا رنين الاجراس الذي سمعناه واضحا جليا قريبا مُعلنا استمرار حياة القرية وبقاءها على صدر الوطن.
عندما توغلنا في حقول الذرة والبرسيم والقمح وعباد الشمس اختفت القرية من ورائنا وغرقت خلف الوهاد الخضراء التي تماوجت على خلفية سماء زرقاء بعيدة. بوصلتنا في توغلنا في الحقول كانت المئذنة التي عانقت اطراف السماء وموسيقى الاجراس العذبة التي اعادتنا الى واقعنا ونبهتنا عن مدى توغلنا وعن ازوف غروب الشمس التي بعثت في اجسادنا ينابيع الحياة كلها.
حين كنا نحلم اكتفينا بحدود قريتنا. رأينا لوزا اخضر على اشجار اللوز جنيناه. رأينا تفاحا تكوّر وعقد قطفناه وخبأناه في جيوبنا وقضمناه بحموضته ومرارته. رأينا كلبا ضالا غريبا عن القرية لاحقناه الى الحقول المجاورة لنعرف اصله وفصله وسبب تسلله الى قريتنا.
اذا لمحنا غريبا قاصدا القرية راجلا ام راكبا رافقناه من بعيد وتوجسنا خطاه ومقصده واختلقنا الاسباب والحكايات بيننا عن غايته ومقصده وعن بداية رحلته ونهايتها. اذا كان رجلا وقورا دلت عليه مطيته ولباسه عرضنا عليه مساعدتنا المجانية من بعيد للوصول الى بغيته. اذا كان فلاحا كأهلنا جر وراءه بقرة او عنزة او تيسا رافقناه تلقائيا وساعدناه في جر رفيق دربه وخاصة عندما كان ذاك الرفيق تيسا مقرنا قرونه غرزت في طرفي رأسه كجذور الزيتون لا يكف عن الوقوف بين الحين والآخر باعثا أنفه في الهواء باحثا عن عنزة في الجوار غلبها الشوق واثار شبقها رائحة ذاك التيس العاشق العابر التي غمرت اجواء القرية دقائق طويلة. وراءنا آثارنا وأمامنا آثارنا. نحلم في الليل ما نراه في النهار ونرى في الفجر ما سنحلم به في الليل. ستائر احلامنا المُجنحة كانت سماء قريتنا الزرقاء الصافية ابدا التي رأيناها تُقبل التلال واسطح البيوت وقمم السروات الباسقات. صدقنا ما سمعناه من الآباء والاجداد. حاضرنا كان ماضينا وماضينا حاضرنا. مستقبلنا رأيناه امامنا اخترق حدود القرية وامتطى جناح الغيوم البيضاء كنتف الثلج التي اختالت سماء صيفنا آتية على جناح الريح الغربية التي واعدتنا في العصاري هابة من عرض بحرنا الازرق الكبير القريب البعيد، عنده انتهت كل احلامنا. لم نركب قط ظهر تلك الاحلام وهي موثوقة باصفاد ذوي السحنة الغريبة وسلاسل دباباتهم التي جعلت من تلك الاحلام حقيقة مرة وكوابيس لم نعهدها ولم تعرفها القرية في تاريخها القابع خلف تلك الاحلام كلها. لم تتق نفسي مرة ولا حتى في احلامي المجنحة اليقظة صبحا والنظر من خلف ستائر غرفتي المشغولة من اشعة شمس الصباح وزهر اللوز والجلنار واثير النعناع وخجل النرجس وسمو الزنابق التي نمت، على حافة نافذتي وارى تلك الدبابات الهمجية السوداء بلون الموت تخطر في احلامي تبعثُ الموت والخراب لحياة جميلة عاصفة صافية بلون الورد ورقيقة متهادية كخضر الوسن.
مر الشتاء الثالث بعد العاصفة الكبيرة طويلا وكئيبا وباردا على غير عادته. افتقدنا به دفء الاهل والاصدقاء الذين ضاعوا وتشتتوا في متاهات ذاك الزمن الرهيب. في بيتنا خسرنا حكايات الشتاء كلها بعد ان ماتت الجدة ومات الجد وغاب الاب وغابت معه ابتسامة الاخ الكبير التي كانت سراجا منيرا لجلساتنا الشتوية ونحن نشوي الكستناء على فحم الموقد ونرشف كؤوس الشاي ونستمع بلذة الى حديث الوالد عن يومه الذي مضى وعن خططه ليوم آت باعثا فينا الامل وحقيقة الوجود وغاية الاستمرارية والف سبب وسبب لحياة وادعة تطابقت مع هواجس الاحلام.
عاد صديقي سامر الى القرية وعائلته ما عدا والده الذي ضاع ايضا في الضياع. عاد حاملا ذاك المنشور الزجاجي فخورا به وكأنه حجر الفلاسفة. عرض علينا سحره مرارا في الايام الاخيرة تحت ضوء النهار وفي زوايا الظل وتحت غصون تينة ام عيسى الداية التي منعت اشعة الشمس المباشرة من الوصول الينا واكتفينا بالضوء المتسلل الذي التقطه منشور سامر الصغير وحوله الى الوان الطيف كلها انعكست على وجوهنا وملابسنا. تألق سامر ساعتها وذاب لهفة وفرحا وكأنه ربح الدنيا وما فيها مرة واحدة.
بعد ان علت شمس الربيع ولفحت حرارة وبهجة خرج ابن عمتي وصديقي سالما من ازمات الربو التي هدت حيله طيلة الشتاء. عاد الى الحياة فرحا موفورا عافية وشقاوة يعبث معنا ودقات اقدامه الصغيرة خبطت طرق القرية وبحثت عن الحياة مع كل خطوة ومع كل نسمة عليلة شاردة.
عرفنا الكثير ورغبنا دوما بالمزيد. الغرباء احتلوا القرية والوطن كله نهائيا. الثوار خسروا وخفتت المقاومة وأخفقت الجيوش الشقيقة من طرد الغرباء من فلسطين واكتفوا وسلموا بخلق واقع جديد مر بعد ان نزح معظم اهلها من المدن الصغيرة والكبيرة وبعد ان ابيدت مئات القرى الصغيرة كقريتنا واختفت عن الوجود. استرقنا السمع لاحاديث الكبار الذين بقوا في القرية او تسللوا اليها عن ضياع الوطن وضياع الاهل خلف الحدود الشمالية والشرقية والجنوبية التي اصبحت حدودا لواقع سياسي عسكري جديد فرَضه الغرباء صعب اختراقها في طريق العودة بل خلقها اولئك طريقا ذات اتجاه واحد من الوطن الى الشتات القسري بعدما ضيقوا سبل العيش على السكان الاصليين وارغموهم عنوة على الشتات سارقين منهم حقيقة واقعهم تاركين اياهم واهنين في قبضة ضياع ابدي.
عندما سمعت تلك الاحاديث عن الضياع اعترتني غصة في القلب عصرتني وعصفت بروحي وتركتني عاجزا عن فهم فقداني الطويل لوالدي وهو على قيد الحياة. ذكر الباقون اسماء الغائبين مرة تلو الاخرى ومعهم اسم والدي وذكروا الجسر والضفة الشرقية والصحراء.  حاولت الوصول باحلامي الى ذاك الجسر وتلك الصحراء التي وقفت عائقا امام عودة والدي بعد ان عجزت بواقعي عن فهم تلك الاشياء وبُعدها ومعناها وبعد أن عجز اترابي بدورهم عن فهم ما يحدث وما يدور في رحى الماساة الكبيرة التي قصفت مصائر البشر وقصفت احلام واقعنا وجعلت الواقع امرّ من العلقم. اخي رحل الى العالم الآخر وابي ضاع وامي غرقتها الاحزان وعمتي عاشت في ليل اسود طويل وانا من انا فتى صغير عاش المأساة مع الآخرين على حدود عالم مجنون أتت به العاصفة الكبيرة الى الوطن والى القرية.
قصدت والاصدقاء نسعى في دروب القرية على غير هدى نتحقق مما يحدث على اطرافها من عجائب وغرائب. دكان ابي سليم وام سليم ركام على ركام. رجعا بعد معركة العين الى القرية وحاولا تصليح حالهما وبعث دكانهما وحياتهما الى الوجود مرة اخرى. رغباتهم ضاعت نهائيا بعد القصف العنيف للقرية بعد واقعة العين التي خلفت الدكان رمادا واكواما من حجارة وتراب. ترك ابو سليم هذه المرة القرية نهائيا وتوجه وزوجته الى الشمال الى قرية جبلية على حدود جبل صنين وانقطعت اخبارهما وتناثرت حكايتهما واصبحا حكاية في قرية حكايات.
ابو رمزي ترك ادارة سوق القرية وغادر الى العاصمة التي دارت فيها انواء العاصفة بسرعة مذهلة. بعدها بقليل هاجر وزوجته الى كندا لاحقين اولادهما الذين هاجروا الى هناك قبل عقد من الزمان وكونوا حياة جديدة وعائلات في المهجر. يقول الكبار في قريتنا ان ابو رمزي رفض طلباتهم المتكررة لترك القرية واللحاق بهم. تارة رفض بسبب كبر سنه وتارة بسبب زوجته المريضة التي ورثت ارضا وميراثا وبيتا كبيرا في القرية وصعب عليها الفراق.
كان ذاك الرجل الوقور معلقا دوما بين القرية وبين العاصمة ففيها دار اهله ومسقط رأسه ودكان تحف صغيرة على اسوار القدس العتيقة اشغلها والده الطاعن في الكبر بنفسه وصبية اجيرون علمهم تصنيع التحف من خشب الزيتون العطري وبيعه للحجاج المسيحيين الذين اتوا المدينة المقدسة من اطراف العالم كله لزيارة قبر المسيح عليه السلام. استورد ابو رمزي الاخشاب من قريتنا ومن قرى الشمال. مات والده وذهب الى القدس وسوى امر الدكان وعاد الى القرية هانئا مشغولا بادارة سوقها الى ان وصلت العاصفة اليه في القرية.
رحل ابو رمزي نهائيا الى القدس الى البيت العتيق المجاور للاسوار التي انتكست بدورها بعد ان تركها الانجليز طعما سائغا للاغراب الجدد الذين ادعوا حقهم المقدس على كل حجر في البلاد - ها هو ابو رمزي ضاع ايضا الى الابد وخلّف سوق القرية مقفرة وخاوية ومرتعا للقطط وللكلاب الضالة.
سرنا وسامر وابن العمة وهو في نشوة وفي صحة جيدة بعد ان انتهت نوبات السعال وجبنا آفاق القرية نرى ما نرى ونكذب ما رأت نفوسنا الغضة من المصير الاليم الذي وصلت اليه القرية بعد الاحداث الاخيرة. يا الهي غابت كل الاشياء الجميلة واصبحت ذكرى تكبر وتغمر افق القرية وسماءها تصرخ من وجع المصير الذي آلت اليه الاشياء التي احببناها. ها هي شقوتنا وفرحتنا بالحياة تتحول امام اعيننا الى واقع قاس واليم. ها هي الكدارة والوجوم يملآن سحناتنا الغضة بعد ان رقصت مع شمس الربيع وهللت للمرح والحياة في سباق الزمن الذي ادركنا وجوده لاول مرة. عرش ابي رمزي محطم، كرسيه ملقاة في زاوية الساحة، عريشته فتقتها العاصفة وحولتها الى قطع صغيرة تلوح مع هبات الرياح الربيعية. هذه فردة حذاء سوداء ملقاة على قارعة الطريق لعل صاحبها هرب فزعا من الرصاصات والقنابل الآتية من كل صوب. قط ميت، قبة ميزان، صناديق خشبية مهشمة، بردعة حمار، بقع دماء، اوان زجاجية فارغة متناثرة هنا وهناك، بقع دماء جافة حمراء في كل مكان، اعشاب كزغب الحمام داستها اقدام غريبة ثقيلة خلفت عليها بقع مياه ملوثة.
سلة قش مفتوحة في قاعدتها علتها اتربة واوساخ الشتاء الراحل. ازهار الياسمين البيضاء بقيت وحدها شاردة على حافة الجدار القديم ربما الشاهدة الوحيدة عما جرى في هذه الساحة. صمتنا ثلاثتنا ونحن نتفحص الاشياء تلك الملقاة هنا وهناك وكأننا في الوادي المقدس نقتفي درب الرب.
هل يعود هذا القط الميت من موته نافخا اوداجه لاهيا تحت اشعة الشمس؟
اين ذاك الحمار الذي ترك بردعته عرضة للشمس وللريح؟
اين صاحب ذاك الحمار الذي خلف وراءه حذاءه الاسود؟
من خلف هذه البقع الحمراء التي امتزجت مع تراب الساحة وخطفت لونه وتحول الى بنيّ قاتم ماذا حدث بربك يا شجرة الياسمين لساحتنا وقريتنا؟
زهورك ولا شك حضرت اهوال الدمار والعبث الاسود؟
بقيت انت وازهارك تذرفين دمعا وعبقا. كفنت الموت وعدت مع عودة الربيع تسخرين من الاقدام الهمجية التي زرعت موتا وخرابا في القرية كلها.
سرقتني هذه التداعيات من نفسي وجعلتني في حيرة من امري من حالي ووجودي.
شعرتني اعود من حلم الى واقع مر بشع لم اعهده في حياتي الصغيرة. رفيقاي استمرا يبحثان عن الاشياء المتناثرة في الساحة. قلبا تلك الاشياء وشردا كل منهما في عالمه واعماق نفسه المراهقة. صاح سامر بقوة "تعالا.. انظرا.. انها شظية.. بقايا قنبلة خلفتها الطائرات التي قصفت القرية.. "أمسك الشظية بيساره وأشار الى بقايا كتابة على صفحتها السوداء وتابع بلهفة" انها احرف انجليزية.. نعم انها انجليزية" حاول حل عقد اللغز ولم يكمل. كانت تلك الحروف ممزقة ذائبة ومشوشة حاولت انا وحاول ابن عمتي الذي قرر بدوره حازما".. انها احرف انجليزية.. UK.." لفظها مصمما وواضعا سبابته بحزم على اماكنها ناظرا الى السماء الربيعية الهادئة فوقنا وكأنه يبحث عن تلك الطائرات التي اتت القرية في يوم مثل هذا والقت هذه القنابل وخلفت هذا الدمار الذي حوانا من كل جانب. كان واضحا لنا ان ما قاله ابن عمتي هي الحقيقة المرة التي وقعت هنا وفي معظم ارجاء القرية الوادعة.
ها نحن ثلاثتنا نخسر الحلم كله مرة واحدة ونتخبط على ارض الواقع الصلدة ونواجه مصيرا اسود تربص لنا قريبا من الساحة قلب قريتنا.
صحت بصديقيّ ".. تعالا بنا الى هناك.. انهم هناك في المدرسة.. سمعت انهم استولوا على بيت علي الفار وحولوه مركزا لقيادتهم". كان بيت علي الفار مجاورا لمدرسة القرية الوحيدة. كان بيتا جميلا مبنيا من حجارة الصوان البيضاء وشبابيكه شُغلت من الخشب الاحمر وسطحه غطي بقرميد برتقالي اللون اضاف للبيت جلالا وعظمة. احاطت به حديقة غناء علت في جنباتها اشجار الورد والبتول والاكاسيا والدفلى والسرو والليمون منيعة مغلقة من اطرافها الاربعة بجدار نباتي اخضر طيلة ايام السنة وبوابة حديدية كبيرة رأيناها دائما مغلقة. كنا في الاستراحات القليلة بين الدروس نحيط بذاك الجدار نبحث عن ثقب تنفذ منه ابصارنا داخل الحديقة الصامتة الهادئة التي لم يعكر جلالها الا تغاريد العصافير التي حطت رفوفها وطارت وعاودت الكرة مرات ومرات. سمعنا من احدهم ان علي الفار ذاك كان رجل الانجليز في القرية لا يعرف اصله من فصله. اتى به الانجليز وبنوا له ذاك البيت الجميل الذي اختلف عن بيوت القرية الواطئة.
قالوا عنه انه كان جاسوسا للانجليز لذلك ابتعد عنه اهل القرية وتركوه وحيدا منبوذا.
عندما رحل الانجليز رحل معهم وغاب كما حضر. ها هو بيته يتحول بفعلة ساحر الى ثكنة عسكرية للاغراب الجدد وحديقته الغناء تتحول مرتعا لدباباتهم وعرباتهم المصفحة ولجيادهم العسكرية بكامل عدتها وضخامة اجسادها وحوافرها وخشونة ذيولها وبطء حركتها وهي تخبط قطعة الشارع الاسفلتي الوحيد الذي ربط ذاك البيت مع الشارع الرئيس الذي اوصل الى الميناء. خطواتنا اصبحت حثيثة وافئدتنا الصغيرة رقصت في صدورنا ونحن نعبر الساحة ونقترب من الدوار في نهايتها حيث تبدأ الطريق الى المدرسة. صممنا ثلاثتنا على اقتحام ذاك التخوم الذي عسكر فيه الغرباء لنرى من قريب وجوههم وسحناتهم وهم سبب كل تلك التعاسة والموت في قريتنا مملكة احلامنا وسدرة منتهى طفولتنا وشبابنا الغض.
ما ان وصلنا الى الدوار حتى صاح سامر بصوت عال اعادنا الى الارض الصلدة التي نخطو عليها التي تلوت على وقع خطانا الهدارة. أمسك سامر منشوره الزجاجي بيمناه بقوة وابن عمتي قبض على حجر صغير واودع اخرى مماثلة فراغ جيوبه وانا قبضت على مقلاعي الصغير جاهزا للرمي".. انه صالح المجنون ومعه كلبه.. انه صالح ورب الكعبة".
نعم كان صالح وتابعه كلبه الذي يرافقه سنين طويلة. أكل صالح مع الكلب ونام معه واصبح ظله الذي لا يفارقه منذ ان كثرت مضايقتنا له وزادت مقالبنا التي لم ترحمه ولم ترحم حاله بل فاقت احيانا جنونه جنونا وعبثا لم يقبله له عاقل في القرية ولا والدته التي احضرت له هذا الكلب الشرس من قرية اخرى ليكون سندا لحياته ولجنونه.
خطا صالح باسماله ذاتها بخطى مترنحة ولكن واثقة نحو هدفنا بدون سابق عهد او وعد. صحنا به ولم يسمعنا. خفنا الاقتراب منه بعد ان رأينا حارسه الشرس يحوم حوله مستعدا للقتال والمنازلة. ها هي المدرسة امامنا وها هي دار علي الفار بوقارها وقرميدها وحديقتها وها هي عربات وآلات عسكرية رابضة امامها وجنود في لباس موحد بخوذهم الحديدية انتشروا هنا وهناك. صالح سار بثقة الى الامام واسماله  لفتحها الريح وشعره نافر واوداجه منتفخة عاقد العزم لوصول الهدف. كنا كما عهدناه في ساعة غضبه.
إقترب صالح من العربات العسكرية وكلبه معه يدور ويتابع كل المتحولات. إقتربنا منه بدورنا الى حد سمح لنا الفرار إذا هاجمنا ذاك الكلب الشرس.
خرج احد الجنود من وراء العربات مشرعًا بندقيته الى الامام. علا نباح الكلب على الجندي الذي صوب سلاحه وافرغ عبوته كلها في جسد الكلب. اقعى الكلب بلا حراك ودماؤه الغزيرة غمرت المكان. لم يتوقف صالح بل تواترت خطواته بعزم في اتجاه ذاك الجندي قاتل الكلب الذي حاول حشو بندقيته بعبوة جديدة قبل ان يفاجئه صالح بحجر كبير تشجُ رأسه ويهوي على الارض محاديًا الكلب. يا الهي.. مرة واحدة وانطلقت زخات من الرصاص من فوهات في كل مكان اخترقت جسد صالح ومزقته. هوى صالح كالطير الذبيح بين أعمدة الدخان الذي علا من الفوهات وغمرت رائحته كل مكان.
الرصاص بدأ ينهمر فوق رؤوسنا، سامر قذف مكان الجنود بمنشوره الذي اصطدم بعارضة دبابة، سمعنا من بعيد صوت تحطمه ورأينا شظاياه تلمع وسط الدخان.
ابن عمتي قذف حجارته بمهارة نحو الجنود الذين أتوا قبالتنا من خلف العربات. لحت انا بمقلاعي الصغير ورأيت حجرًا صغيرًا يطير بسرعة الريح ويحط على جسد احدهم، صاح ووضع يده على موقع الحجر.
أطلقنا أرجلنا للريح الى قلب القرية من حيث اتينا. الرصاص انهمر في كل مكان ونحن عدونا وعدونا. انتهينا تلقائيًا في ظل الصبار واللبلاب في ذاك الزقاق. حطت فوق رؤوسنا يمامة على عشها. سمعنا وسوسة الزغاليل من بين الاشواك. أتت نسمة مسائية ربيعية رطبت وجوهنا وبعثت في قلوبنا راحة الى حين.


د. فؤاد خطيب
الخميس 18/3/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع