زكي ناصيف.. قمح روحنا الجائعة (*)

كُنّا بخير، وكان الناس بأرواحهم يسمعون.
كُنّا بخير، وكان الدخول إلى جنة التلحين والغناء صعباً كالدخول إلى الجنّة.
كان للناس حسّ ومزاج وذوق، وكان الذوق رهيفاً وقاسيا.
كُنّا بخير، والأسماء لم تكن متشابهة. فلكلّ اسم مذاق، ولكل صوت مقاييس ولكل لحن انتماء.
النهضة التي أشرقتْ بعد قرونٍ من تكدّس الغبار وغياب الهوية، والانقطاع عن الهواء النقيّ، دحرجتِ القبر وبدأ زمن القيامة.
مدارس وصحافة ولغات وثقافات وتأثّر عميق بمفاهيم التنوير، فاستيقظت الروح النائمة. دخلتِ اللغة مصطلحات، ودخلتِ العقول مناهج، ودخلتِ الحياة رؤى وأحلام.
في هذا الربيع الجميل الصعب بدأت الأغنية العربية تتلمسّ سُبُل قيامتها. وكانت مصر الساحة الأولى لهذه القيامة. زهّرت فيها أسماء وأينعَتْ أسماء، وكان للإرث التركي ـ البيزنطي بصماته على هذه الأسماء تلحيناً وجُملاً وتختاً ومقامات، حتى جاءت عبقرية سيّد درويش ممتلئةً بحلب وقدودها وحساسيتها وبصر وروح شعبها فبدأ زمن التفجّر الإنساني الكبير ثم جاء "القصبجي" ومحمد عبد الوهاب فبدأ التفاعل الراقي بين القديم والجديد ووُلدت الأغنية الناضجة كلاماً ولحناً وتوزيعاً وأداء.
يبدو أنّ في هذا الإيجاز اختزالاً لتاريخ طويل وانتقاصاً من كبار كبار سبقوا وعايشوا هذه المرحلة. لا، فنحن لا نتجاهل أئمة زرعوا وسقوا فقطفنا بساتين من الغناء الصعب والفريد مثل الدور والقصيدة والطقطوقة، أئمة فتحوا أبوابا ونوافذ وطرّزوا وتفنّنوا وصاروا مرجعية لكل حالم ومطرب. فهل يمكن أن نتجاهل أسماء مثل الحامولي ومحمد عثمان وأبو العلى محمد وصالح عبد الحي وزكريا احمد وسواهم وسواهم؟
لكأننا نتجاهل ذاكرتنا وساعات الفرح الكبير والنشوة العظيمة والمداميك التي قامت عليها قلعة الطرب والشجن.
لكأننا نخنق قلوبنا ونذبح نبضاتنا التي خفقت عشقاً لما سمعنا وتذوّقنا من عطاءات هؤلاء المبدعين.
كُنّا بخير، وبعضُ من سمّينا شهادة على أن النصف الأول من القرن الماضي كان زمان الملهمين والمتفردين.
كُنّا بخير لأنّ أصوات مغنّيات ذلك الزمان كانت تنزل من السماء ولا تطلع كما اليوم من "فقّاسات" العرض المهين للجسد المقدس.
أوَليست من روح الله حناجر أم كلثوم ومنيره المهدية وفتحية أحمد واسمهان وماري جبران وليلى مراد وسعاد محمد ونور الهدى وفيروز ونجاح سلام وصباح وسواهنّ وسواهنّ؟
فمن منّا لم يتعلّم الصلاة والتصوّف أمام هذا التجلّي الإلهي العظيم الذي نعمنا به مغامرة مغامرة ومعجزة معجزة؟
لقد رسمت هذه اللوحة لأثبت أنّ كل من سعى وتمكّن في تلك الحقبة من احتلال مقعد في تلك القاعة المهيبة كان لا بدّ أن يكون مبدعاً كبيراً.
هكذا أضع زكي ناصيف في مكانه واحداً من حرّاس الزمن الجميل وملهَما مميّزاً بين الملهمين المميزين.
لقد جاء زكي ناصيف في زمن الكبار الكبار، وأن نحتفيَ به الليلة يعني أنه من هؤلاء. فبِهِ، وبكوكبة من معدنه كالرحابنة وتوفيق الباشا وحليم الرومي ووديع الصافي وسواهم احتلَّ لبنان مكانته في النهضة الموسيقية الغنائية العربية، أخاً معادلاً لمصر في السويّة، ولم تعد ساحة الغناء في لبنان وقفاً على "بغداديات" بيضا وربيز، وأغانٍ محلية بلدية لم تتجاوز تظهير العتابا والميجانا وابوالزلف والمعنى والشروقي، وبعض تنويعات الصيداوي والمنّي، على روعة هذه البغداديات والبلديات والتنويعات.
جاء زكي ناصيف من روافد مختلفة:
فطرة هي بنت السهل والجبل والحب القروي الخجول.
وتراث سرياني آرامي عميق التغلغل في خلايا السهل والجبل يبدأ "بالاوف" القوية المتماوجة القادرة مطلعاً بموازاة الـ"يا ليل" الحاملة كل روعة التطريب، ويمتد عبر الدلعونا والروزانا والموشّح والطقوس الكنسية فيملأ قرى السهل والجبل سهراً حميماً، وأعيادَها حلقات دبكة وتشابك أيدٍ، ومواسم القطاف والحصاد فيها "عونات" يلتقي فيها شباب وصبايا وتخفق فيها قلوب حيّية تبوح همساً وتأبى لمساً.
وجاء زكي ناصيف من ثقافة موسيقية شرقية وغربية عرف من خلالها كيف يؤالف بين المجوز والبيانو فيحوّل النغمة المفردة الرتيبة إلى عناقيد من الأنغام المركبة المتراقصة.
وجاء زكي ناصيف من ارتباط بالأرض لا يُحدّ، فلا تجد له أغنية تدور على غير الجبل والوادي والسهل والزهر والعطر والطير والنسائم، حتى أن أغنية الحبّ عنده لا تكتمل إلاّ إذا كانت هذه الطبيعة ملعباً لها وإطارا.
وقبل هذا كلّه جاء زكي ناصيف من موهبة هي قُبلةُ الله يودعها من يشاء.
هذه المكوّنات جميعها شكلّت في لاوعي زكي ناصيف وفي وعيه النسق اللحني الغنائي الناصيفي الذي هو نسيج وحده، تعرفه ما أن تسمعه وتميّزه بين آلاف الأنساق التي تطرق سمعك، أفيكون للتفرّد تفسير آخر؟
ومن ايقاعات هذا النسق الخاص المختزن أعياد الناس ومواسمهم وقوافلهم وحِداءهم صاغ مصممو الدبكة اللبنانية الأصيلة المتجدّدة لوحات ومشاهد هي الأنقى والأبقى كما رأينا مع فرقتي "الأنوار" و"كركلاّ". لوحات ومشاهد للرجولة المتكاتفة المتراصّة وللأنوثة المغناج العفّة. لوحات ومشاهد غير ملوّثة وغير متهدّجة وغير مسحوقة تحت وطأة بهلوانيات سُمّيت تحديثاً وهي في الحقيقة تشويه وتزييف وتهجين.
لا أدّعي قدرة على الولوج إلى تقنيات زكي ناصيف اللحنية والتأليفية. ذلك علم لا امتلكه. فأنا اسمع بقلبي وأكتب بقلبي. وقلبي الذي به أسمع وأكتب يرشدني إلى مواطن جمال اللحن الناصيفي وتفرّده. وقلبي الذي به أسمع واكتب مدرَّب مدرَّب، قد يخطئ في التحليل ولكنه لا يخطئ في التقييم، فهو منذ الصِغر يغتذي من سماع الآيات البدائع والأصوات الروائع حتى صار لكل جميل أسيراً ولكل جمال عاشقاً.
بهذا العشق أقبلتُ على زكي ناصيف فأسرني وشغلني، وحفرت أغانيه فيّ وفيكم وفي ملايين العطاش إلى كل جميل بسيط راق أنيق وأصيل.
وبهذا العشق نقبلُ الليلة مع النادي الثقافي العربي على زكي ناصيف نكرّم من خلاله نهضة ونهضويين، وأرضاً ومؤمنين، وثقافة ومثقفين عملوا للجمال وللحياة وللمستقبل.
في زمن الجدب واليباس والصقيع وانحباس الشمس، كنّا في قرانا نلجأ إلى الخوابي و"الكّوارات" حيث اللقمة الناصعة التي هي من نعم الأرض والسماء.
ولأننا اليوم في زمن الجدب واليباس، وفي زمن الصقيع وانحباس الشمس، ولأنّ اللحن اليوم يخاطب الخصور والأرجل وما بينهما ولا يصل إلى حيث خفق القلوب وعطش الروح.
فإننا نلجأ إلى زكي ناصيف الذي هو قمحنا الاحتياطي ولقمة روحنا الجائعة.
وزكي ناصيف، متى نطلق اسمه على واحد من شوارعنا النظيفة؟ وعلى واحدة من جوائزنا الموسيقية الراقية؟
وزكي ناصيف متى تلتفت الدولة إلى المبدعين فتحصِّـنهم ضد الأيام الصعبة؟
كُنّا بخير، ويوم جاء زكي ناصيف صرنا بألف خير.
إنه واحد من قلّة منهم تعلّمنا كيف نحب وكيف نفرح وكيف نعطي وكيف ننتمي.

(كلمة ألقاها الشاعر في تكريم للفنان الراحل)


غسان مطر
الجمعة 12/3/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع