في لقاء خاص مع <<الإتحاد>>، المعمّر ظاهر سلامة (أبو شكيب) :
المسلمون والمسيحيون في طرعان كانوا وسيبقون عائلة واحدة


*"معاملة العثمانيين كانت أفضل من الإنجليز"  * "حين قسّمت الأراضي في طرعان، مُنح المسيحيون أراضي أفضل من أراضي المسلمين"  * "لا تشربوا المياه الباردة في الشتاء ولا تشبعوا من وجبة العشاء"  * "زمان، كانت الكلمة آية"  *"على كل انسان أن يطمع في رزقه وليس في رزق غيره وأن يرضى للناس ما يرضى لنفسه"*

 "سلني ما تريد، وسأجيبك على ما أعرفه"، كان هذا أول ما نبس به ظاهر سلامة (أبو شكيب) خلال زيارتي إليه في بيته، في شارع "أللنبي" بالقرب من كنيسة الكاثوليك في حي وادي النسناس الحيفاوي العريق.. وأبو شكيب يعرف الكثير ويتذكر الكثير الكثير، فرغم سنه الطاعنة، إلا أن ذاكرته لا تزال مثله، حيّة.. "حيّة وترفس" كما يقول أبناء عمومتنا، وقدرته على التعبير لم تتآكل.
ولد أبو شكيب في العام 1901 في قرية طرعان، لعائلة تعمل في زراعة القمح والشعير والحمص والعدس والفول والسمسم والذرة البيضاء، كغيرها من عشرات آلاف العائلات الفلسطينية في ذلك الحين.

* "بشلك" العثمانيين وبداية تآمر الإنجليز *

حين سألته عن ذكريات الطفولة، أجاب أبو شكيب كما لو كان يتحدث عن البارحة وليس عن قبل نحو قرن من الزمن: "كنا نحن الأولاد نساعد أهالينا في الأعمال اليومية، نحرث الأرض ونرعى الدواب ونحصد بالمنجل طوال النهار حتى غياب الشمس، وفي الليل كنا نعود الى البيت. في ذلك الوقت كان غذاؤنا كله من الطبيعة والمحاصيل الزراعية. فالعجين على الطوابين، والعسل من النحل، والأجبان والألبان من الدواب". ولا يفوته شرح كيفية تحويل الحليب الى زبدة ثم الى سمنة، ورواية كيفية الجلوس الى المائدة لتناول الطعام مع جميع أفراد العائلة.


 حديث أبي شكيب يحتاج الى معرفة بتاريخ البلاد على مر الفترات التي عاصرها. فعن فترة الحكم العثماني يقول: "معاملة الأتراك تجاه الفلاحين كانت أفضل من معاملة الإنجليز، كانوا يأخذون من الفلاحين عُشر محصول القمح فقط. أتذكر أنني كنت أعمل في الطرق لرصفها للسيارات، وكانت أجرتي اليومية "بشلك" واحد. وقد كان هذا أجرًا جيدًا. "البشلك" الواحد كان يساوي سبع "مجيدات"1،  وكنا نسمع عن الحرب (الحرب العالمية الأولىـ ر.ز.) من الناس التي كانت تسافر، إذ لم يكن هناك مذياع أو تلفزيون طبعًا".

أما عن الإستعمار البريطاني فيقول أبو شكيب: "حاول الإنجليز تغيير طريقة الحراثة، كما فرضوا نظامًا جديدًا لصالح بنوكهم. قبل ذلك، كان الفلاحون يستدينون من بعضهم البعض، والقوانين الجديدة جعلت عقوبة من لا يسدد دينه الحبس 21 يومًا فقط، مهما كان مبلغ الدين. وكان الفقر مدقعًا الى درجة الجوع وشح الأكل، ما زرع التخوف بين الناس من بعضهم البعض وزعزع الثقة المتبادلة، وكل هذا كي يأخذ الفلاحون قروضًا من البنوك وليس منبعضهم البعض، وكان الإنجليز يحجزون على أراضي ومحاصيل ودواب من لا يسدد الأقساط". ويجمل أبو شكيب بأن "الإنجليز أعاقوا الفلاحين وجعلوهم يتأخرون أكثر فأكثر".

*"مسلمو طرعان ومسيحيوها أخوة وعائلة واحدة"*

إضافة إلى عمله في الزراعة، كان أبو شكيب يعمل ايضا في مجال البناء، "كان البناء بالتراب والحجر والشيد وليس "بالشامنتو" مثل اليوم. وكنت أبني بطريقة العقد". وعن عمله يروي هذه الحكاية التي تنطوي على معانٍ كثيرة في زماننا هذا: "كان في طرعان جامع قديم ، أعتقد أن بناءه يعود الى الفترة الرومانية، وكان يحمل اسم القائد الروماني توراي، وكان المبنى في أغلبه تحت مستوى الأرض. وفي سنوات الثلاثين، في العام 1932 على الأرجح، أراد أهل القرية بناء جامع للعبادة والصلاة لخدمة الأهالي، وأحضروا مهندسين كثيرين، عربا ويهود، وقال الجميع أنه إذا بني جامع جديد فسيهدم القديم، وطلبوا مني الحضور، مع أنني لم أكن حائزًا على شهادة لكنني كنت صاحب خبرة، فاطلعت على الوضع وحفرت بعض الحفر وشيّدنا الجامع الجديد على القديم الذي ما زال قائمًا حتى يومنا هذا رغم كل ما قاله المهندسون وما تنبأوا به. وفي حينه رفضت تلقي أي مقابل مادي، ثم تبرعت بعد ذلك، ببناء كنيسة لطائفة الروم الأرثودكس في طرعان".

 ـ "الإتحاد": كيف رأيت، إذن، الأحداث المؤسفة التي وقعت في طرعان قبل بضع سنوات؟

* أبو شكيب: "المسلمون والمسيحيون أخوة، نحن عائلة واحدة، فرحنا واحد وترحنا واحد. ممنوع التعميم والقول أن هناك مشكلة بين المسلمين والمسيحيين. المشكلة وقعت  بين أفراد، أو عائلات، ولا دخل للدين فيها. العلاقات في طرعان كانت جيدة طوال الوقت ومثالاً يحتذى به، وبيت المسلم بجانب بيت المسيحي. أتذكر أنني كنت مرة في دار المختار سليمان عبد الحليم العدوي2، وكان في ضيافته أحد أهالي القرى التي لجأت إلى طرعان، وكانت دار المختار مجاورة للكنيسة. وحين قرع جرس الكنيسة،  قال ذلك الشخص: "أما زال هذا الناقوس يقرع عندكم؟" فوقف العدوي وقال له: "إذا تفوهت بهذه الكلمات مرة أخرى فسترحل أنت وكل أهل قريتك عن طرعان"!
كانت العلاقات طيبة جدًا، وأتذكر جيدًا أنه حين قسّمت الأراضي، مُنح المسيحيون أراضي أفضل حتى من أراضي المسلمين. إن أي كلام من هذا النوع هو عيب وتشويه للحقيقة، ليس إلاّ".

 * حيفا ـ عبد الوهاب في شارع "الملوك"
ومدينة أكواخ في أرض الرمل!*

 ـ "الإتحاد": كيف انتقلت  إلى العيش في حيفا؟

 * أبو شكيب: انتقلت الى حيفا للعمل في البناء في العام 1932، وكان ذلك بعد زواجي من أم شكيب في العام نفسه. وقد انتقلت إلى "المحطة"3 تحديدًا، للعمل مع مقاول في مجال البناء ثم في قسم البناء التابع  للبلدية. كانت تلك هي الفترة التي بدأت فيها حيفا تضاهي عكا ، في أعقاب حركة التصنيع وبناء الميناء فيها، وكثر البناء من أجل العمال، أصبح مركز الحياة لكننا لم نقطع صلتنا بطرعان".

 ـ "الإتحاد": ماذا تتذكر من حيفا قبل العام 1948؟

 * أبو شكيب: كانت في حيفا آنذاك حركة عمل وتجارة نشطة. كان مركز المدينة هو منطقة "ساحة الحناطير" و"سوق الحسبة"4. وكانت هناك "سينمات" في أحياء عدة تعرض أفلاما مصرية لعبد الوهاب وغيره، بل أذكر حتى أن عبد الوهاب غنـّى في حفلة في شارع "الملوك" ("هعتسمؤوت" اليوم).

لكن أبو شكيب لا يتذكر هذا فقط، بل يتذكر أيضًا أرض الرمل ("شيمن" اليوم) التي كانت بمثابة "مدينة أكواخ" للعمال الفقراء، وكانت منطقة رملية لكن ما كان يميزها- يقول أبو شكيب - هو وجود ماء في عمق مترين أو أقل عن سطح الرمل. ويتذكر أبو شكيب المنافسة القوية على العمل مع عمال غير فلسطينيين، يتذكر أسماء الأغنياء والوجهاء الذين عمل لديهم، مثل عزيز مقاتي وابراهيم صهيون وسمعان طرشة، يتذكر الكثير بما في ذلك البنايات الأربع التي بناها هو في شارع "الملوك"، ويتذكر أيضًا كيف صودر وهدم بيته المكون من طابقين بمساحة 151 مترًا مربعًا لغرض توسيع الميناء مقابل مبلغ زهيد. وحين سألته متى انتقل الى بيته الحالي في منطقة وادي النسناس، بعد الهدم في المحطة، أجاب بسرعة: "مش من زمان". ثم أردف :"حوالي سنة 62".  يبدو أن آينشطاين صدق حين اختزل كل شيء في النسبية. 

بعد خروجه إلى التقاعد في العام 1972 ، بقي أبو شكيب في حيفا "لأن جميع أبنائي هنا ومركز حياتي هنا، لدي بيت وزيتون في طرعان وأذهب الى هناك في موسم الزيتون والأعياد وفي الصيف" . المرة الأخيرة التي شارك فيها أبو شكيب في قطف الزيتون كانت قبل سنتين، أي حين كان في الـ 102 من عمره!

*"يا ستي كلـّمي ستك"!*

في حياة كلٍ منا قصص مشوّقة، وتخيلوا كم قصة مثيرة حدثت لأبي شكيب خلال عمره الطويل والعريض. حين سألته عن ذكرياته مع زوجته أم شكيب (فرحة سلامة،التي تصغر زوجها باثنتي عشرة عامًا)، قال: "كنت أعمل خارج البلد وعدت لحضور عرس أحد الأقارب. كان هذا في العام 1928، وكنت "الروّيس" في الدبكة. في اليوم التالي دعاني أهلها لتناول طعام الغداء في بيتهم. وتركت أم شكيب خطيبها السابق من أجلي".

"كانت أم شكيب ربة منزل بكل ما يعنيه هذا، من تربية الأطفال والعناية بالبيت ومحيطه والدواجن، كما كان لها دور في الأعمال خارج البيت أيضًا. وكنت أعتمد عليها في تسجيل الأوراق والمعاملات المكاتبية. أنجبنا سبعة أولاد (خمس إناث وذكرين اثنين) . الأولاد السبعة تزوجوا وتناسلوا فولد لهم 64 إبنا وحفيدا وأباء أحفاد على ثلاثة أجيال. وهكذا تحققت عندنا، فعلاً، مقولة "يا ستي كلمي ستك".

يتمتع أبو شكيب بصحة جيدة، ينهض من مقعده وحده دون مساعدة أحد، سوى عصاه الخشبية، يصحو باكرًا كل يوم (ليس باكرًا بمعنى السابعة أو السادسة حتى، بل باكرًا أي بين الثانية والخامسة فجرا). وهو ينصح بعدم شرب المياه الباردة في الشتاء وعدم الشبع من وجبة العشاء، وبأكل النباتات كالعكوب والعلت والسلق. بدأ يدخن السجائر (التبغ العربي)  منذ كان في الثانية عشرة من عمره حين كان يزرع الدخان. دخن سبعين سنة متواصلة، ثم أقلع منذ 22 سنة.
أبو شكيب شغوف بالمطالعة في كتب الأدب العربي وتاريخ العرب والإسلام. يكاد يحفظ " الزير سالم " و"تغريبة بني هلال" و"كليلة ودمنة" وعشرات القصص والقصائد عن ظهر قلب. أنهى الصف الثاني الإبتدائي فقط، لكنه داوم على المطالعة حتى قبل نحو عشرين سنة، إذ لم يعد يستطع ذلك بسبب ضعف النظر. أما اليوم فصار المذياع مصدر معلوماته الأساسي.

 ـ "الإتحاد": كبار السن يقولون أن الدنيا تغيرت والناس هي الأخرى تغيرت. ما هو الفرق في رأيك؟

* أبو شكيب: هذا صحيح. فالناس تغيرت كثيرًا، كثر الطمع والجشع ولم تعد هناك كرامة ولا شرف ولا كلمة. في الماضي كانت الكلمة آية. على كل انسان أن يطمع في رزقه وليس في رزق غيره وأن يرضى للناس ما يرضاه لنفسه. أتذكر أنه حضرت إحدى عائلات البلد إلينا واشترت من أبي بقرة وتم الإتفاق على ان يكون الدفع بعد أسبوع. لكننا بعد أسبوع لم نعد نراهم يمرون بجانبنا مع أننا جيران، عندها قالوا لنا أنهم محرجون لأنهم تأخروا في تسديد دينهم. هل يمكن أن يحدث هذا اليوم؟".

 ـ "الإتحاد": وأنت.. ألم تتغير مع السنوات؟

* أبو شكيب: طبعًا تغيرت. كنت عنيدًا، لكن السنين علمتني المرونة، وهذا ما أنصح به أحفادي وأحفادهم والجميع. المهم هو الإعتماد على العقل والفكر، ومن الأفضل أن تبدأ بالسهولة قبل القسوة وليس التراجع من القسوة الى السهولة.

1  للتوضيح: كان يمكن إقتناء بقرة بمجيدتين ونصف.
2  عدوي: إحدى العائلات الكبيرة في طرعان، يعود أصلها ـ كما يقول أبو شكيب ـ الى بلدة عدوة العراقية.
3  حي المحطة، المعروف "بالعتيقة" أيضًا، والذي لم تبق منه اليوم سوى بضع عشرات من العائلات العربية من أصل قرابة 800 عائلة في العام 1948.
4  كانت السوق في المساحة بين ما تبقى اليوم من كنيسة اللاتين وبين جامع الجرينة الذي تحجبه اليوم بنايات المكاتب الحكومية والتجارية.


رجا زعاترة
الجمعة 12/3/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع