"قاهريات"
القاهرة: عاصمة جمهورية مصر العربية على النيل بسفح المُقطم، أكبر مدينة في افريقيا والعالم العربي اسسها القائد الفاطمي جوهر الصقلي شمال الفسطاط سنة 969م القاهرة.. هذا النغم المعذب الذي كان ينبثق من مصر كلها، الروح البشرية وهي تُغني غناءها الوثني والروحي المقدس، في شوارعها يمتزج المحصول الانساني المعاصر للنيل، العمال الطوال الصامتون المحزمون بالأحزمة في عيونهم نظرات النسر الحادة وممتلئون بالانفة والكبرياء.. وبنظراتهم المفترسة وشفاههم الغليظة.. الفلاحون النحيلون الرشيقون المرهقون من العمل والجوع. فبامكانك كما روى لي عبد بن يقظان أن ترى القاهرة من خلال شخوصها اكثر مما تراها من خلال اماكنها.. ومعالمها القديمة، وتبقى معذبًا بسريالية محيّرة بين الوجه الأخضر والوجه الصحراوي الرمادي.
هي القاهرة الشامخة...
ولان كلمة القاهرة مؤنث القاهر وجمعها قواهر: اي الشامخ ويقال "جبلٌ قاهرٌ" و"جبال قواهر" وهي أيضًا مصدرها من القهر.. وقهره قهرًا: غلبه.. وأقهره: وجده مقهورًا، ولحسن حظي أني وجدت صديقي عبد بن يقظان الغضبان التعبان.. مقهورًا قهرًا فظيعًا.. حتى اشتد به الحزن، وكان يبحث "بسراج وفتيلة" عن من يلتقيه من أجل أن يبوح له بعتاباته "فالعتاب صابون القلب" كما جاء بالأمثال وبعذاباته، ليجلي لبّه ويستريح، واسترحنا معًا على طاولة صغيرة في مقهى "فتوش" في شارع "أبي النواس" الحيفاوي" وقتها أباحَ لي عبد بن يقظان ببعض هذه الخبايا من معرض القاهرة الدولي للكتاب رقم 36 في مصر الواقع بين شهري كانون الثاني واوائل شباط من العام الحالي 2004 بعد زيارته وسياحته الثقافية لعاصمة أرض الكنانة والفراعنة، وبعد أن أصابه الحنين.. المرض الذي يصيبنا جميعًا دون أن تكون لدينا الرغبة في الشفاء منه وأعراض مرض الحنين هي الشوق الى الامس، والقاهرة بقيت في مخيلته دومًا، مهما بَعُد عنها محدثًا عنها دائمًا واكثر من مرة وهذا ما جاء على لسانه:
حدثني عبد بن يقظان الغضبان التعبان عن المعرض وما اغضبه فيه، أن الفوضى الإدارية والاعلامية هي احدى سمات معرض الكتاب الدولي في القاهرة الـ 36.. وأن الكتب ذات الطابع الديني الاسلامي كانت الألوف من الناس "بالدور عليها" والاجنحة التي تميّزت بالكتب العلمية والثقافية العلمانية كانت خالية من الناس وضحلة من الحضور حد الصفر، وهذه دلالة خطيرة أن ثقافة أمةٍ تقدس رجم ابليس وما ادراك ما إبليس لا يمكن أن تواجه ثقافة أممٍ تُخصّب اليورانيوم لان اقبال الناس على أية ثقافة ليبرهن بشكل واضح الى أين يتجه المجتمع.. وما لاحظه عبد بن يقظان التعبان.. ان دور النشر التي تُصدر اصدارات اسلامية.. دينية غيبية تستخدم التطور التقني (التكنولوجي) لترويج تقنية (تكنولوجية) متطورة لتعليم الطفل على كيفية السلوك الاسلامي هل هذا تناقض.. انه يعج ويضج ويصرخ بالتناقض. وعندما تنهر.. تنهده.. تنم عن القلق التائه قبل قلق محمد حسنين هيكل. وبغفلةٍ منه.. تأبطتُ الشر وبدأت باستفزازه واستثارته ليبوح بالمزيد المزيد من خبايا ما يريد.. من رحلته الميمونة للمعرض والقاهرة.. وبادرني متهكمًا ومتفلسفًا كعادته.. لقد "حفيت إجريه" وهو يبحث عن كتابٍ لنيتشه حتى وجده بدون مزاحمةٍ أو "مدافشة" او عناءٍ بالوصول لهناك لانه لم يكن أحد ينتظر نيتشه ويبحث عنه الا بن يقظان وكان العنوان "هذا هو الانسان". وبعد ان "نخلْت" ما استطعت من بعض خبايا بن يقظان وما حدثني به.. لفت اهتمامي سؤاله عن الأمسية الثقافية التي أقيمت احتفاء بالذكرى العاشرة لرحيل الشاعر فارس الفرسان ابو الأمين توفيق زيّاد، هذا ما همني كثيرًا انا البقية الباقية من اشقياء هذا الزمان فوق تراب الأوطان.. وتحت سماء البلاد والتي ترأسها الشاعر د. محمود أبو دومة الذي تحدث عن توفيق زيّاد الشاعر والمكافح.ومما حدثني به عبد بن يقظان الغضبان التعبان ان الندوة عُقدت في قاعة 6 اكتوبر القاعة المركزية للمعرض وأن الحضور بدا باثنين فقط ومنهم محسوبكم عبد بن يقظان الغضبان التعبان.. وآخر.. وازداد العدد في نهاية الندوة خطأ حيث حدث التباس أن العدد زادَ بسبب انه في نفس القاعة وفي الندوة التي ستليها كان من المفروض أن يشارك شاعر كويتي، فالجمهور جاء ليحضر الندوة الثانية، أليست هذه سريالية مضحكة.. ولقد أختتم عريف الندوة قليلة الحضور جدًا جدًا كمّا وليس نوعيًا (كيف هالتواضع) وأحد اصدقاء الشاعر توفيق زيّاد ومن أبرز شعراء مصر الوطنيين الشاعر المصري سمير عبد الباقي الذي قرأ قصيدتين لذكرى الراحل، وبكى وأبكى البعض معه واختتم بحسرةٍ وألم بعد هذا المشهد الغريب في الحضور قال: أخشى أن نكون قد قتلنا زياد مرةً اخرى في مثل هذه الندوة. وقد خرج عبد بن يقظان غاضبًا من الندوة ثملا مع أنه لم يشرب أي كأس طلا، مستذكرًا اليوم الذي ترجل فيه الفارس ابو الأمين الحاضر أبدًا حيث كان يرافقه في استقبال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في أريحا سنة 1994. وجديرٌ بالذكر ان دار النشر الوحيدة التي تستحق الثناء من بلادنا، والتي تحاول دائمًا استحضارنا في مثل هذه المعارض والمؤتمرات الثقافية وربطنا ثقافيًا مع آخر وأجمل الاصدارات الجديدة في العالم العربي هي مكتبة كل شيء لصاحبها صالح عباسي.. والذي يعرض الآن هذه الاصدارات في المعرض الذي يُقام في قاعة مركز الاحداث الارثوذكسي في الناصرة. وحالة اخرى جديرة بالذكر بروز مدير المكتبة العامة التابعة لمجلس يافة الناصرة الأخ علي علي الصالح في كل معرض وفي القاهرة كي يغذي مكتبته بالاصدارات الجديدة والجيدة ليطلع عليها أهالي قريته وجموع شعبنا في البلاد. هذه اللمحات ليست من باب الدعايات بل من باب التشجيع والحقيقة وهذا أيضًا ما أفضى لي به عبد بن يقظان الغضبان التعبان، وأكمل انه سقط سهوًا في سياق الحديث عن خبايا الندوة احتفاء بالذكرى العاشرة للفارس الحاضر أبدًا الشاعر توفيق زيّاد، كيف نسي المحاضر ذِكر نهاية زيارة أمير الشعراء احمد شوقي لعرب "العرامشة" في أعالي فلسطين، هل دبك ورقص الأمير احمد شوقي أم تزوج غانية فالراوي والحمد لله قد غفل خلسةً وغفل من سرد النهاية ربما لخللٍ فني، ولتخديرٍ جسدي طارئ.. مع الاعتذار لذكر هذه "النهفة" وجل من لا يسهو.
واسترحنا.. هنيهة.. ولم أكِن أنا إلا في أن أنبش المزيد المزيد من خبايا الزيارة.. وجلسات المحاورة مع من.. مع شاعر الليلك واختمال الياسمين ووصايا البرتقال وانحناءات الخريف شاعرنا الكبير محمود درويش وأيضًا صاحب الوليمة "وليمة لاعشاب البحر" الكاتب حيدر حيدر.
وحدثني عبد بن يقظان الغضبان التعبان وفي هذه الأحيان كان "نشوان" وللحديث عن ومع الدرويش وليكن "الهرم الكبير" على أرض الكنانة والفراعنة.. أشجان في الحوار الجدي، الذي استمر وديًا، وانتهى تهكميًا.. وفي مثل هذه الأزمان كان السؤال الكبير عن الوجدان ومعنى الوجدانية.. والذي وجه من ابن الدرويش لعبد بن يقظان الذي أجابه: علمتُ من شاعر فلسطيني "مقبول المستوى" أن نرى ما نريد في الوجدانية، فربت على كتفيه مسترضيًا وناعتًا الغضبان: انه من "أزعر زعران" عرب الـ 48 (مع الاعتذار) إذهب والى لقاء.. فأجابه: لم أذهب سأكمل.. ولن أعتذر عما فعلت.. فضحكا وأكمل أنك في ديوانك الأخير "لا تعتذر عما فعلت" تجاوزت العالمية فيه، حتى بدا وفقًا لابن يقظان (مبالغًا) ان المتنبي قد تأثر بك حتى كتب الفلسفة شعرًا.
واستمر النقاش والجدل بين مدٍ وجزرٍ ولم يُفصح عنه.. لغايةٍ في نفس يعقوب (ربما)، وعلمت أيضًا من عبد بن يقظان انه غضب غضبًا شديدًا على "كُشاجم" الـ 48 حين قال في حديث جانبي ومحللاً: ان "الهرم الأكبر" انتهى عند وردٍ أقل؟ فجاوبه عبد بن يقظان غاضبًا: ان "الهرم الأكبر" لا ينتهي ويموت لكنه يتجدد دومًا انه لا ينتهي الا عند الورد الأكثر والأكبر والأشجع وعلى ذكر الورد (بالمعنيين) راودني بيت شعرٍ لأبي الطيب المتنبي في:
وردٌ إذا ورد البحيرة شاربًا
ورد الفرات زئيره والنيلا.
وبعد هذه الحماسة.. صمتنا.. صمت أهل الكهف.. وسقينا روحنا للنبيذ الأحمر، وأكملنا تراشقنا بالياسمين والندى.. مقتضبًا ابن اليقظان الغضبان التعبان الكلمات والخبايا والاسرار من وقائع المعرض.. ولكن عندما وجه السؤال للهرم الأكبر ابن الدرويش حول الحراسة والمرافقة، في حين أن الساسة العرب يُحرَسون حتى من قبل النساء (مع الاعتذار لرئيس الجماهيرية الدمقراطية الاشتراكية الشعبية.. الخ العقيد الأبدي معمر القذافي) فأجابه: "الهرم الأكبر بسخرية نادرة: قد أكون اول القتلى لكني آخر من يموت (كيف هالتواضع). مع انه صدق حينما قالت الجندية له في أحد الحواجز:
هو أنت ثانيةً.. ألم أقتلك من قبل، فقلت: نعم قتلتني لكني مثلك نسيتُ أن أموت..
وبعد أن اتفقنا على لقاءٍ آخر..
سكتَ عبد بن يقظان الغضبان التعبان عن الكلام المُباح.. مسترخيًا مستطيبًا نبيذه.. واستراح، وتركني بعد المصارحة والمجاهرة بهذه المناطقة المستباحة عرضةٌ للنقد والنواح.. وبعدها "الله ينجينا من النباح".. ويبقى المذاق.. وبعدها المفاكهة والاحلام واسترجاع العبق والذاكرة.. في مثل هذا الزمان القاهر.. والاوضاع القاهرة، بالمختصر المفيد وما ادراك ما القاهرة.. لم يلد ولم يولد.. والسلام.. والى لقاء.
يوسف حيدر
الأثنين 1/3/2004