إن أخطر أنواع الجواسيس هو الجاسوس الذي لا يعرف أنه جاسوس ، والأخطر منه عندما يكون هذا الجاسوسُ كاتباً أو من زعماء الرأي !
ان تكون جاسوساً من حيث تدري أو لا تدري معناه أن تتورط . والكتابة هي تورط .. فان تكون كاتباً وجاسوساً معناه ان تتورَّط في التورط !
كان سومارست موم الكاتب الجاسوس والجاسوس الكاتب في الوقت ذاته . وقد ابدع في هذين المجالين . وكتب من الداخل.. اي من داخل التورط ... وقد استفاد من كتاباته الكثير من الجواسيس وفي الواقع ايضاً الكثير من الكتَّاب . فقد كان صاحب تجربة غنية في هذين المجالين .
ان اي دولة تبني لها جهازاَ للتجسس ولا تسطيع الاستغناء عنه سواء أكان ذلك وقت الحرب او وقت السلم . كذلك ألأجسام الأُخرى مهما كان نوعها، خاصةً المؤسسات الإقتصادية وما يعرف بالتجسس الإقتصادي . اما اليوم - في عصر العولمة - فإن مثل هذه المؤسسات غالباَ ما تعمل في الخفاء، فانك لا ترى امتداداتها رؤية العين،هذه ألأجسام ترصد الآخر في تحركاته وسكناته وتحلل كل ظاهرة وتمحِّص أية نأمة وتجمع المعلومات ... ان لم تستفد منها اليوم فغداً . كل ذلك يحدث في الخفاء، حتى أصبح اليوم بنك المعلومات لفظاً شائعاً، وفي شتى المجالات مهما كانت "سخيفة" . هنا وهناك مؤسسات تجمع المعلومات اليوم كي يتم استغلالها غداً او بعد غد ... والكاتب والسياسي والباحث والمفكر والفيلسوف ورجل الدين ورجل ألأعمال واي انثى أو ذكر في موقع التأثير معرضون لخوض التجربة سواء أكان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر . وهنالك بعض الشركات الإقتصاديه تمارس عملية التجسس الإقتصادي والتجسس من خلال "القوائم السوداء" على أشخاص معينين لهم صله بها لكي تستعملها للضغط والتوريط وقت الحاجة، لأغراضٍ سياسية وإجتماعية .
للرصد مدارس وللجاسوسيَّة معاهد وجامعات . والجاسوسيَّة علم يستغل كل العلوم الحديثة ويستخدمها لتحديد الهدف وجمهور الهدف ووسائل الوصول إليهما .
ومن هذه العلوم اخص بالذكر علم النفس بجميع فروعه بعدما انشقَّ عن الفلسفة منذ ما يقارب المئة والخمسين عاماً وأصبح علماً قائماً بحد ذاته .
من الممكن تقسيم الجاسوسيَّة الى مدرستين - القديمة الكلاسيكيَّة والحديثة او للفذلكة مدرسة ما بعد الحداثة اذا مشينا على دروب تقسيم الآداب .
لقد لفت نظري كتاب البريطانيَّة فرانسيس س. سوندرز " الحرب الباردة الثقافيَّة " المشار إليه في نهاية هذه المقالة.
لفت نظري كيف تستغل أجهزة المخابرات الكتاب وتجندهم الى صفوفها مستفيدة من ابداعاتهم وتأثيرهم في محيطهم.
من هؤلاء صاحب رائعة "ألأمير الصغير" الذي كتبه سنة 1943
Antoine De Saint Exupery (1900-1944)
. الذي خدم في سلاح الجو الفرنسي منذ 1922 وفي وقتٍ متأخر إنتقل إلى الطيران المدني
)ص- 58) الأمريكيO.S.S فقد كان من بين الذين تمَّ تجنيدهم للعمل في
Office of Strategic Services
مكتب الخدمات الاستراتيجيًّة ، الذي أُنشئ عام 1941 في أعقاب معركة بيرل هاربر، ثم ألغاه الرئيس ترومان في سبتمبر 1945 عندما قال آنذاك انه لا يريد شيئاً يشبه "الجستابو" في وقت السلم(ص56)... :O.S.S ومن باب ألاستظراف كان يدعى مكتب الخدمات الإستراتيجيَّة
"Oh! So Social- ياه! كم هو اجتماعي!"
Hemingway ،هو وارنست همنغواي Donovan وكان سانت أكزيوبيري صديقاً حميماً ومتعاوناً مع
" . (ص 58)O.S.S الذي كان ابنه جون ضمن العاملين في "Bill William Donovan اما دونوفان
فقد كان شخصيَّة غريبة ألأطوار واسطورة في زمنه .. وكان لقبه " بيل المتوحش". وكان كل عضو من أعضاء مكتب الخدمات ألاستراتيجيَّة يحمل حقيبة فيها بندقيَّة قصيرة وعدداً من القنابل اليدويَّة وبعض العملات الذهبيَّة وحبة دواء قاتلة ." ( ص 57)
وكان اعضاء هذا المكتب يجوبون في أوروبا أثناء الحرب مثل حكام عسكريين .
وكان دونوفان اول فرد من هذا المكتب يصل بوخارست بعد انسحاب ألألمان من رومانيا . وكان " ضيفاً دائماً على اجتماعات الحكومة الرومانيَّة " ( ص 57 )
وكان يتباهى امام زملائه أنه لا يتم شيء هناك دون موافقته. كان ذلك سنه 1944 - قال : " قبل أن يصوتوا على أي شيء يطلبون رأيي ويمررون كل ما اقوله بالإجماع ." ( ص57 ) وقد استطاع دونوفان ان يجمع فيلقا من النخبة ألأمريكيَّة والفرنسيَّة وألأوروبية عامة ..
كان وليام دونوفان (بيل الشرس/المتوحش) اثناء الحرب العالمية الثانية مديرا لجهاز المخابرات
CIA ألأمريكية ، ثم أصبح من أهم مهندسي وكالة المخابرات المركزيَّة التي انشئت عام 1947 بعد إنتهاء عمل مكتب الخدمات الإستراتيجية بسنتين. حتى أصبح الوضع أشبه بالمستجير بالشيطان هرباً من أبليس .
هذا هو دونوفان (بيل الشرس-المتوحش) الصديق الحميم لسانت إكزيوبيري .
من هنا أدعو إلى قراءة جديدة في كتاب الأمير الصغير. يتحدث الكاتب سانت إكزيوبيري في اللوحة العاشرة عن الملك الذي يصبو لأن يتحكم في عملية تثاؤب الأمير الصغير.. "إنه قرار ملكي" . إن هذا الملك الكوني الذي لا يتهاون مع الفوضى ويؤمن بسلطة العقل وليس بسلطة القلب (مثل الأمير الصغير) هذا الملك لا يأمر الشمس أن تغيب إلاَّ وقت الغروب ولا يأمرها أن تشرق إلاّ وقت الشروق . إن الكاتب يقول على لسان الثعلب: " نحن لا نرى جيداً إلاَّ بواسطة القلب. فالأساسي لا تراه العيون." أي أنَّ المخفي أعظم وأشد وأخطر وأدهى وأمرّ. إن إستخدام الحيوان في لغة الأدب معروفة من إبن المقفع في كليلة ودمنة إلى حكايات إيزوب حتى لافونتين، فما لا يستطيع الإنسان قوله صراحةً يقوله على لسان الحيوان للتحايل على أخيه الإنسان "الحاكم".
وعلى ضوء هذه القراءة الجديدة نفهم ما معنى قول رجل الأعمال في اللوحة 13 أنَّ "الملوك لا تملك شيئاً، إنها تسود." بمعنى أن رأس المال هو الذي يملك كل شيء، حتى الملك. وأن سيادة هذا الملك وهمية ، تقف وراءها قوة رأس المال ، وعملياً هي التي تحرك الملك كما الدمى في المسرح.
قال سانت اكزيوبيري في ألأمير الصغير :
"ماذا تحكم يا سيدي؟
قال الملك ببساطة شديدة :
انا أحكم كل شيء !".
هل كان سانت إكزيوبيري يقصد بالملك مكتب الخدمات ألاستراتيجيَّة الذي كان على علاقة وثيقة به عن طريق صديقه الحميم وليام دونوفان /بيل المتوحش ؟! هذا الموظف الكبير الذي أصبح فيما بعد أحد مهندسي وكالة المخابرات المركزيه والتي غدت " بمثابة وزارة ثقافة لأمريكا من أجل تعبئة الثقافة كسلاح في الحرب البارده" وكانت أيضاً (وما زالت) بمثاية الهيئة الماليَّة الكبيرة التي تقدم المساعدات ( ص 155 ) Consorti
وذلك عن طريق تقديم ألاعانات والمنح والجوائز والرشى المباشرة وغير المباشرة كالدعوات للأحتفالات الباذخة وتقديم كرتات السفر درجه اولى الى المؤتمرات ألأدبيَّة والفنيَّة ودعم الجمعيات غير الحكوميَّة ومراكز ألأبحاث وإنشاء المؤسسات الفعلية والوهمية للتغطية ...
CIA وإذا قسنا على انتحار ارنست همنغواي وانه كـان ملاحقاً في آخـر ايـامه من قبـل
FBIوال
وما آل اليه من ادمان على الخمرة ، وان وراء انتحاره كانت تقف المخابرات ألأمريكيَّة ...
اذا قسنا على ذلك فان موت سانت اكزيوبيري الغامض واختفاءه سنه 1944 بعد سقوط طائرته في الصحراء الليبيَّة وعدم العثور لا على الطائرة ولا على جثته حتى ألآن .. فلا بد ان يساورنا الشك في هذا الموت المفاجىء بأن وراءه تقف عناصر مخابراتيَّه امريكيَّه أو حليفةً لها ... خاصةً وأن الملك الذي تحدث عنه في ألأمير الصغير" يحكمُ كُلَّ شيىء" وأن كل شيء مربوط بكل شيء... ليس من الضروري أن تكون العلاقة بين "Prima Faci" شخصين أو جسمين ذات دليل ظاهري قاطع
مثل ذلك تلك العلاقة بين المتحف الأمريكي المسمى "متحف الفن الحديث" وال سي.أي.أيه.
ليس هنالك دليل ظاهري قاطع على هذه العلاقة ، انما كان برنامج الجهاز الثقافي لهذه الوكالة متطابقاً مع البرنامج الدولي لمتحف الفن الحديث ، وأن أحدهما يدعم الآخر. (ص 291 )
ان كلمة " الموت الغامض" تستدعي البحث والإستقصاء. ولا نعلم فيما اذا كانت قد انشئت لجنة تحقيق بموضوع سانت اكزيوبيري، لا سيما وانني عندما "استعرضت معلوماتي " امام احد العاملين في المركز الثقافي الفرنسي في الحفل الذي انشأه هذا المركز في الناصرة احتفاءً بمغناة ألأمير الصغير .. قال لي: ان مكان هذا " الموت الغامض" هو في فرنسا وليس في الصحراء الليبيَّة ! فأضاف ضغطاً على إبَّالة وألقى غموضاً على الغموض.
ما يكل جاسلسون الكتوم جداً والعضو الفعَّال في CIA من المفيد هنا ان نذكر ايضاً عميل ال -
منظمة الحرب الثقافيَّة .. وقصَّة زواجه من كوليت جوبيير في هفانا سنة 1940، ثم طلاقهما فيما بعد .
ان قصَّة هذا الزواج والطلاق لم تكن معروفة وانه بعد مرور وقت ليس بالقصير وبالتحديد سنة 1963 عثر على جثَّة كوليت بشقتها في "اير ايست سايد" وهي مقيَّدة ومخنوقة بوضع جسم صلب بفمها لمنعها من الصراخ بعد اغتصابها . (ص 180 )
ربما لكي تبدو عملية القتل وكأنها جريمة جنائيَّة عاديَّة .. مجرد اغتصاب ثم قتل أو قتل ثم اغتصاب !!! لا ندري شيئاً عن التحقيق . فكم وكم اغلقت ملفات وسجِّل الفاعل مجهولاً ...
ربما علينا ان نتذكر مرة اخرى قصة اختفاء سانت اكزيوبيري وقصة انتحار ارنست همنغواي ... خاصة وانه دُفع دفعاً الى الانتحا ر كما تقول الكاتبة / الباحثة فرانسيس سوندرز :
كانوا يتصورون انه FBI "عندما شكا ارنست همنغواي لأصدقائه من انه تحت مراقبة ال -
يتوهم ذلك . وعندما أُفرج عن الملف الخاص به في منتصف الثمانينيات ( ص 113 ) كان ذلك تأكيداً على ان شكوكه كانت في محلها " . ( ص 222 )
كانوا يتعقبونه خلال اكثر من ربع قرن ، يتجسسون عليه وًُيزعجونه . وتتابع الكاتبة :
" قبل انتحاره بوقت قصير . وكان يعاني من اكتئاب شديد - ذهب همنغواي ليجري فحصاً طبيَّاً في إحدى العيادات في "مينيسوتا" وطلب ان يسجل باسم آخر، فقام احد ألأطباء النفسيين بالعيادة
، ليسأل عن امكانية ان يفعل ذلك" . ( ص 222 )"FBI"بالإتصال بال -
هل نستغرب ذلك ؟ لماذا؟ ومثل ذلك تقريباً يحدث كل يوم سواء أكان القتل فعلياً أو معنوياً ، يحدث ذلك في بلادنا كما حدث ويحدث في امريكا. وما لا نعرفه أكثر بكثير مما نعرفه، ومن يلعب وراء الكواليس أكثر بكثير من الذين يظهرون على خشبة المسرح .
لقد وصل الأمر بالزعيم المتنفد مكارثي ان زرع عملاء له في وكالة CIA ألإستخبارات ألأمريكيَّة
مما اغضب رئيسها في حينه الان دالاس ( شقيق جان فوستر
دالاس وزير الخارجيَّة في حينه ايضاً ) وهدّد بالإستقالة ... وقد وصل ألأمر بمكارثي ايضا ان يستخدم مكاتب خاصة (ص235)
.CIA لجمع المعلومات " القذرة " عن افراد
لقد سقط مكارتي وولّى زمانه لكن المكارتية ما زالت قائمة . وأمير ميكافيلي ما زال معربداً يدرّسُ في الجامعات ودورات الإستكمال الإستخباراتية.
وكان الكاتب ألأمريكي جون شتاينبك قد سجَّل موقفاً اثناء حمله مكارثي، وكانت على اشدها، حين قال:
" لو اننا قاومنا منذ البدايه بدلاً من الهرب ، لما كانت مثل هذه ألأشياء تحدث ألآن " ( ص 232 )
علينا الآن أن نفهم ما معنى "القوائم السوداء" السياسية . وما معنى جمع أدق المعلومات الشخصية ، كدخل الشخص وإحتياجاته الفعليه وعلاقته بزوجته وأولاده وإمكاناته الإقتصادية وعاداته فيما يتعلق بالجنس أو اللهو ...وإستخدام هذه المعلومات عند اللزوم أو وقت الحاجة . إن جمع مثل هذه المعلومات الدقيقة يحدث في إطار الشركات المحلية والشركات العملاقة متعددة ومتعدية الجنسيات. فلكل عامل أو وسيط إضبارته !
علينا أن نقرأ دائما قراءةَ جديدة لكل ما يدور حولنا خاصةَ بهذا العصر، عصر العولمة . قراءة السطور وما بين السطور و ما وراء السطور .
"ماذا يعني عابر؟ " سأل الأمير الصغير الجغرافي في اللوحة 15 . فأجابه : "الذي هو مهددٌ بالإختفاء القريب".
فهل كان ذلك هاجس الكاتب أنطوان دو سانت إكزيوبيري ؟ وهل كان يعرف هذا الكاتب أنه عمل في الجاسوسية أم أنه لم يعرف ؟ سؤالُ سوف تجيب عليه الأيام.
X X X
* من الذي دفع للزمار
الحرب الباردة الثقافيَّة
المخابرات المركزيَّة ألأمريكيَّة
وعــالــم الــفــنـــون وألآداب
تأليف : فرانسيس س . سوندرز
ترجمة : طلعت الشايب
تقديم : عاصم الدسوقي
إصدار :
المجلس ألأعلى للثقافة 2002 المشروع القومي للترجمة بإشراف جابر عصفورالعدد 279 ط . 2 القاهرة
The Cultural Cold War (The CIA and the world of Art and Letters)
Frances Stoaer Saunders
The New Press N.Y. 2000
بقلم: وليد الفاهوم
الأثنين 23/2/2004