ظننت أن الدنيا ستقوم ولن تقعد، ولكن...

قال لنا الريحاني:
"ان أول أسباب العمران والرقي، هو العلم بماضي الأمة علما تاما، يحيط بتاريخها وثقافتها، علما صادقًا صافيًا.. منزها عن الأهواء، مجردًا عن الأغراض والمآرب الخاصة، علما يرينا ما في ذلك الماضي من الشرور فنتجنبها.. ومن الجهل فنتلافاه.."
وبعد،
ان قراءة سريعة للمشهد الثقافي تؤكد لنا أن غزوا ثقافيًا واسعًا يشهده الوطن العربي ويهدد وحدته ووجوده ويؤدي الى فقدان شخصيته القومية وضياع ملامحها المميزة. ومهما حاول البعض انكار ذلك، او اعتباره مجرد أوهام وتخيلات، فإن شمس الحقيقة لا يمكن ان نغطيها بعباءة، بل تظل تسطع أمامنا يوما بعد يوم من خلال سلوكيات عدة مختلفة تشهدها الساحة الثقافية وقنوات تصب فيها، انها ليست مجرد أوهام أو تخيلات ناتجة عن تعصب للثقافة العربية ونداء للتقوقع في بوتقتها، بل هي سياسة خبيثة لاستمرار عملية النهب والهيمنة والاستعمار بكل صوره وأشكاله.
واذا كان الغزو الثقافي اسلوبا جديدًا من أشكال الاستعمار وإحكام السيطرة على هذا الوطن وسلبه شخصيته القومية نفسيًا وثقافيًا، فما بالنا - نحن أبناءه -  نصمت صمت القبور ونقف  هذا الموقف المخجل ونردد قول القائل: "ان للكعبة ربّا يحميها، أما أنا فلي غنمي أرعاها!"؟ بل ان الأنكى من ذلك، اننا نساهم بصورة مباشرة وغير مباشرة في تكريس هذا الغزو شكلا ومضمونا! فكم هي كثيرة هذه المفاهيم الثقافية والفكرية التي نستوردها دون أية مناقشة، بحجة انها هي التي تواكب العصر ومتطلباته بينما ثقافتنا هي المتخلفة التي لا تواكب الحضارة ومتطلباتها! وكم هي كبيرة هذه المساحة من التشويه التي تحدثها هذه البضاعة المستوردة من أفكار وقيم وعادات وسلوكيات! والواقع أننا وصلنا الى مرحلة أصبحنا فيها ننظر الى كل ما هو أجنبي، المثال الأعلى الذي يجب ان يحتذى، وقد شمل ذلك ميادين الحياة  كافة من أدب وموسيقى وفن وما الى ذلك. وهنا تكمن الخطورة، حين تصبح ثقافتنا مزيفة بعيدة كل البعد عن الأصالة والوطنية لا تعبر عن خصائصها وميزاتها القومية. والحقيقة ان هذا الغزو أخطر بكثير من غزو الأرض، اذ انه غير مرئي، حيث يصعب تحديد حجمه وبالتالي تستحيل مكافحته ومحاربته، ومن باب الموضوعية، ومع كثير من الألم والأسف، نقول ان ما حدث ويحدث في ساحتنا الثقافية من غزو وضعف وترهل ما هو الا نتيجة حتمية ومباشرة لضعف شخصيتنا وترهل عزيمتنا وانكسار نفسيتنا، وهنا أصل المأساة..
ربما تصلح مقدمتي هذه لأن تكون نافذة لموضوع واسع جدا كتب فيه الكثير، وعقدت حوله العديد من الندوات والحلقات، ولكني لن أدخل فيه هنا، ليس لأنه غير مهم او ضروري، بل انه من أكثر الموضوعات أهمية والحاحا، وأتمنى أن أتناوله في مناسبة اخرى قريبة. اما الذي دفعني الى ذلك فهي هذه الفضائح التي تعرضنا لها هنا - كأقلية عربية - حين نشرت وسائل الاعلام مؤخرًا تلك النتائج المخجلة التي حصل عليها طلابنا في مدارسنا بمراحلها  كافة: الابتدائية، الاعدادية والثانوية. وإذ تشاء الظروف والأقدار ان أكون معلما، فاسمحوا لي أن أبدأ بنفسي اولا وقبل كل شيء، حين أقول اني جزء من هذا الفشل المؤلم، كما هم باقي زملائي المعلمين، وكما أنتم أيها الآباء والأمهات، وكما أنتم أعزائي الطلاب والطالبات. صحيح ان هناك عوامل ومؤثرات ليست في نطاق ارادتنا وسيطرتنا تؤثر علينا سلبا، ولكن، ماذا بشأن تلك الذاتية المتعلقة بنا مباشرة؟
لست من هواة العبارات الرنّانة والشعارات الفضفاضة، ولكني أكاد أخرج من جلدي طربا،  وأموت فرحا كلما سمعت ان أحدهم قد أصبح طبيبًا، أو مهندسًا، أو باحثًا.. وهل منا من يحب الفشل؟ ولا أظن ان فرحتي لا تساوي فرحة الآباء والأمهات بنجاح ابنائهم  وبناتهم، ولا أظن ان فرحتي لا توازي فرحة هذا الطبيب أو ذاك المهندس او الباحث الذي جلس بالأمس أمامي طالبا. فأتساءل هنا: لماذا لا نعمل جميعًا على خلق هذه الفرحة ونحن نتوق  اليها ونبحث عنها ليل نهار؟ لماذا لا نعمد الى كل ما يؤدي الى نجاحنا ونجاح ابنائنا بناة  المستقبل؟ لماذا لا ننتبه الا بعد فوات الأوان؟ لماذا الندم في لحظة فيها لا ينفع ولا يفيد الندم؟
أجل، ظننت ان الدنيا ستقوم ولن تقعد حين نشرت تلك النتائج الفاضحة. كم أردتها زلزالا يزلزل مفاهيمنا وعقولنا وبيوتنا ومدارسنا في الصميم.. كم أردتها بركانا يتفجر ولا يخمد.. ولكنها كانت بردا وسلاما علينا جميعا.. "فويل لأمة لا ترفع صوتها الا اذا سارت وراء النعش، ولا تفاخر الا اذا وقفت في المقبرة، ولا تتمرد الا وعنقها بين السيف والنطع!". والحقيقة ان الزلزال لم يحدث، والبركان لم يتفجر.. وربما كان ذلك متوقعًا. ويبدو اننا امام مرحلة هي غاية في الخطورة، حين يكون كل منا شاهدا على انهيار علمه وثقافته وكيانه ووجوده ولا يحرك ساكنا! كيف لا وقد أصبحنا أمة مستهلكة لكل ما يلفظه الغرب من قشور وقد نسينا ان هناك الأصل والجوهر؟ كيف لا وقد أخذنا ننظر الى ثقافتنا وحضارتنا هذه النظرة الدونية الخجلة، واخذنا نقدس كل ما هو آت من الغرب؟
قرأت "قروياتك" أخي حبيب بولس.. سكرت كلما قرأت حلقة من حلقاتها.. سكرت وقد بعثت في داخلي ذلك الحنين الى الماضي الجميل بكل تفصيلاته وجزيئاته ودقائقه. وكلما قرأت عبارة أو حادثة أو صورة من ذاكرتك المشتعلة وجدتني أقارن بين ذلك الماضي بطبيعته وأصالته وبراءته وجماله وسحره، وبين الحاضر بكذبه وزيفه وخبثه وقبحه. وفي كل مرة كنت أصل الى النتيجة ذاتها.. فلا شيء يجعلنا عظامًا الا الألم.. ومن رحم المعاناة يولد النور.. ولكن، أين هم من هذاالماضي؟ وأين هم من الألم والمعاناة؟ انهم أعلنوا استسلامهم، وأعلنوا افلاسهم أبناء شعبي! ولن يقرأوا "قروياتك" لأنهم أبناء "الحضارة"! أما أنت فـ "دقة قديمة"! واذا كان لديك متسع من الوقت لتكتب وتصرخ، فانهم لا وقت لديهم للقراءة ولا هم يحزنون، فليلهم أمام الفضائيات حيث "ستار أكاديمي" و"سوبر ستار" و"روتانا" والأفلام الهابطة، أما نهارهم فنوم وتسكع. ولكن، مهما يكن، أكتبْ.. أكتب، لعل هناك من يقرأ.. ولعل هناك من قرأ: "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم".

(عرابة البطوف)


فريد نصّار
الأثنين 23/2/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع