*في مطعم مختبئ تحت عمارات الحكومة ("كريات هممشلاه") في حيفا، تعالت أصوات السمار مختلطة مع ايقاع الدفوف والطبلة والعود.. كانوا يشجعون وكأنهم في مباراة لكرة القدم، لكن المباراة كانت ثقافية وفلكلورية من الدرجة الاولى.. مباراة زجلية في قلب حيفا في مطعم يدعى "كرملس".
وهيب وهبة، صاحب المطعم، له باع طويلة في ادارة المطاعم، لكن التجربة التي يخوضها الآن في هذا المطعم والبار المميز، جعلته ايضا من اوائل منظمي السهرات الفنية والثقافية، يطمح لما هو جديد في زحمة المقاهي والمطاعم التي احتلت شوارع حيفا.
المبارزة الزجلية كانت بين فريقين معروفين: جوقة البيادر- الكرمل بقيادة نجيب سجيم وتوفيق حلبي، وجوقة الجولان بقيادة وليد رضا وكامل حلبي، وشاركهم على العود هشام أيوب وعلى الايقاع عزّت حديد، وتولى عرافة الامسية ميسرة مصري.
عند دخول الجمهور بدأنا نسمع فلانا يقول لهذا الفريق "انا معك.. تسكتلوش" وعلانا يقول للفريق الثاني، "لا تهكل هم، انا وكل جماعتي معك"! وبدأ الجو يسخن حتى قبل اعتلاء الزجالين خشبة المسرح.
بدأ العرض فريق الجولان بالأوف والمواويل، وفجأة اعلن من خلال الكلمات الجميلة انه سوف يطحن الفريق الثاني على هذا المنبر، فازدادت سخونة القعدة وتعالت اصوات السمار مهللة.. فتناول الفريق الثاني المايكرفون وبعد التحية والسلام المنمق زجلاً، رد للفريق الاول الصاع صاعين.. وعلقت بين الفريقين بشكل رسمي.
لم تقتصر المبارزة على الفريقين، بل امتدت للجمهور الذي جاء جاهزاً لمثل هذا الحدث. وخلال الاستراحة، صعد بعض الشعار وقارضي الشعر وادلوا بدلوهم، وكان من بين الذين القوا قصائد: محمد زعبي، ماجد عليان، حسون حسون، ياسر شوفي، سالم جابر.
لقد قلت في معرض سابق، ان مدينة حيفا اصبحت العاصمة الثقافية للمواطنين العرب في البلاد، نظرا لكثافة النشاطات الثقافية التي قدمت فيها خلال السنوات الأخيرة.. شاهدنا العديد من العروض الموسيقية والغنائية، الى جانب العروض المسرحية والمهرجانات المتنوعة التي يشارك فيها العرب بشكل فعال، حتى ان العديد من الفرق التي لها عنوان آخر، تأتي لحيفا لتقدم عروضها الاولى، ووسط هذا الكم من النشاط الفني والثقافي، جاء وهيب وهبة، ليقدم في مطعمه نوعا آخر من السهرات، حتى انه تجرأ على تقديم امسية زجلية كهذه.. ولم تكن هذه المبارزة الاولى بين نفس الفريقين، فقد كانت هناك مبارزة قبل اشهر في قرية دير الاسد، وقد ظهرت كلمات تذكير بالمبارزة الاولى، وبأن هذه المبارزة ستكون بمثابة الثأر للفريقين.
انتهت السهرة بوعد من المتبارزين والمضيف بأن تكون هناك سهرات ومبارزات اخرى لجمهور حيفا.
***
يعتبر الشعر الزجلي الشعر الأكثر شعبية في لبنان. أو على الأقل هذه مكانته المفترضة، وهكذا كانت حاله منذ الثلاثينات مع الشعراء المؤسسين مثل شحرور الوادي ورشيد نخله ومع الجيل الثاني والثالث مثل أنيس الفغالي وزغلول الدامور وزين شعيب ومحمد المصطفى وجان رعد وموسى زغيب وأسعد سعيد وغيرهم..
وفي بلادنا اشتهر ما يسمى الحدادي والحوالوم التي برزت في الاعراس، والمبارزات كانت تتخلل زجل الحدادي والذي يشبه الى حد كبير الزجل اللبناني، والذي هو امتداد له، على خلفية القرب الجغرافي الشديد بيننا وبين لبنان. وجمهورنا لم يعتد المبارزات الزجلية الخالصة إلا عن طريق شاشات التلفزيون اللبناني.
بقلم: اسامة مصري
الجمعة 20022004