المدرسة في بداية الألفية الثالثة ومتطلبات اعادة انتاج المعرفة‍‍


* لائحة الاتهام التي قدمها النائب عصام مخّول وابنه حنا ضد الدولة في مجال سياسة التعليم- في المحكمة الشعبية التي نظمتها ممثلية الأجيال القادمة في الكنيست وشارك فيها عدد من أعضاء الكنيست وأولادهم *

إن التعليم حق أساسي لكل طفل. وهو حق تضمنه المعاهدة الدولية لحقوق الطفل وفي صلبها: "ان التعليم يجب ان يستهدف تطوير شخصية الطفل، وملكاته وقدراته العقلية والجسدية، واستنفاد هذه الامكانيات بالكامل".
إن الدولة مسؤولة عن توفير الظروف المواتية لتعليم كل طفل،  بشكل يكشف عن مواهبه وقدراته ويمكنه من التعبير  عنها. فهل ينجح جهاز التعليم في اعداد اطفال اليوم لمواجهة "العالم الحقيقي". ان ملامح الفشل كبيرة في جهاز التعليم كما يعمل كما نعرفه، ويبدو واضحًا غير مرة، وكأنه لم يتم بذل التفكير اللازم في الاجابة على السؤال - أي نوع من المواطنين ينبغي جهاز التعليم أن يصقل؟! ثم هل، يلائم جهاز التعليم نفسه للتحولات الجارية في العالم؟
وكيف يوفر جهاز التعليم لكل طفل، جوًا من التفهم والمحبة، يمكنه من استنفاد ما لديه من طاقات وملكات وقدرات؟.
إن عدم جرأة جهاز التعليم، والمجتمع الاسرائيلي كله، على طرح الاسئلة الصعبة  والتعامل مع الأسئلة الصحيحة، الجديدة والمحرجة، التي تفرض نفسها، وتفرضها طبيعة المرحلة التي نعيش فيها، هي القاعدة الأساس للعجز ولغياب القدرة على اعطاء الأجوبة الضرورية للتحديات الملحة المستجدة. فعلينا ان نغوص في العمق ونستفز واقعنا، لنعي أن المدرسة  كمؤسسة، ليست نتاجًا للمجتمع المعاصر وللمرحلة الراهنة، وانعكاسا لحاجاته وانما هي بقايا مرحلة ماضية في تطور المجتمع البشري، قد نكون تجاوزناها.
وعلينا أن نسال - هل مفروغ منه ان المدرسة في بنيتها، لا زالت هي الادارة والمؤسسة الاجتماعية، القادرة على توفير متطلبات عملية اعادة انتاج المعرفة في المجتمع البشري في بداية القرن الحادي والعشرين وسد حاجاته، في ظل الثورة العلمية التكنولوجية والمعلوماتية؟!
أم ان جهاز التعليم وبرامجه، ومؤسسة المدرسة كما نعرفها قد باتت عتيقة لا تفي بالمتطلبات؟!
وعلينا أن نسأل بجرأة، ألا يعاني جهاز التعليم من فشل بنيوي، نابع عن عدم الاعتراف بالتحول الذي طرأ على مكانة مؤسسة المدرسة، ومكانة المعلم اللذين كانا يُعتمدان مصدرًا للمعرفة وللمعلومات، بل احتكارًا لهما، جعلهما تاريخيًا مصدر قوة وسلطة ونفوذ بفعل هذا الاحتكار الذي حلت مكانه اليوم مصادر معرفة أسهل وأعظم، واوسع، متوفرة لدى كل طفل وفي كل حاسوب بيتي من خلال الانترنيت، فهل تلائم المدرسة دورها بشكل كاف.. للواقع الجديد؟!
واخيرًا، إذا كانت عملية العولمة الرأسمالية تطغى على كل ملامح الحياة في عصرنا، فما هو رد فعل المدرسة وبنيتها، ومضامين جهاز التعليم؟! فهل تنجح المؤسسة المدرسية في بلورة انسان معولم؟! هل تنجح في صقل قيم شمولية اكثر كونية؟ أم ان من تناقضاتها أنها  تدفع بأطفالها الى داخل "الصدفة القومجية" و"الاثنية" او "الدينية - الطائفية"، وإذا كانت تطمح الى أن تصقل قيمًا كونية شمولية، فهل ستكون هذه قيم الاستغلال أم قيم التحرر من الاستغلال.

* جهاز التعليم في اسرائيل قديم لا يلائم التطور في العالم! *

إن نظرة فاحصة لجهاز التعليم في اسرائيل، وخاصة فيما يتعلق بفهم مسألة المعرفة ومكانهافي التعليم، يكشف قدم جهاز التعليم وعدم مماشاته للتطورات الناشئة. نحن نتحدث عن جهاز تعليم يعتمد على معلومات من الماضي، ومعرفة تفقد من معانيها في ظل ثورة المعلومات والمعرفة، اليوم بمقدور كل تلميذ في مدرسة ابتدائية ان يحصل من الانترنيت على أية معلومات ضرورية يحتاج اليها، فالمعرفة المتوفرة والمعروضة هائلة جدًا، واختيار المواد التي يجري تعليمها تعتمد على أذواق مؤلفي كتب التدريس وأفضلياتهم الشخصية من دون أن تكون أية محاولة حقيقية لفحص حاجات الطلاب المستقبلية، وكيفية تجهيزهم لمواجهة التطورات المتوقعة.
قبل مئة عام، كان يجري في قرية صغيرة، تجميع اطفال القرية في غرفة، أو كوخ صغير، يتعلمون فيه أسرار العالم، التي كان الانسان قد توصل الى معرفتها - (أسرار العالم المعروفة في القرية وجوارها). وكان بمقدور الطفل بالمثابرة والتكرار أن يتعلم أسس المعرفة البشرية. وهذه المعرفة كانت في صلب برنامج التعليم.
ومن دون هذه المعرفة التي كانت توفرها المدرسة بالأساس، لم يكن من الممكن الخروج الى العالم الكبير. لقد كان التعليم هدية، لكل طفل بمقدور والديه توفيرها له..
وفي أيامنا نحن، في عصر تتوفر فيه المعرفة في كل مكان، ويمكن وصول الاطفال اليها بكل الوسائل، إذا ارادوا ذلك، فإن المدرسة تفقد موقعها المتميز ودورها الفريد والوحيد، كوكيل للمعرفة واعادة انتاجها.
قطاعات اوسع من الاطفال في كل انحاء العالم يتعلمون ويعرفون وينهلون المعلومات من خلال مواقع الانترنيت، وبالتفاعل مع الاولاد والكبار الآخرين، ومن خلال دورات الاثراء، على حساب مكانة المدرسة ودورها وعلاقتهم بها. ومقابل ذلك، تشتد الهجمة الليبرالية الجديدة على جهاز التعليم ومضامينه. وتخلق تعليمًا نحيلاً أوليًا توفره المدرسة لجميع التلاميذ، تعليم الحد الأدنى، يتجاهل المعاهدة الدولية لحقوق الطفل، يوازيه مستوى عالٍ يتميز بدورات الإثراء، والدروس الخصوصية، وتطوير الملكات يكون من نصيب الأطفال من عائلات مقتدرة قادرة على تعويض أطفالها عن قصورات وتقليصات جهاز التعليم، ليصبح التعليم اداة لإعادة انتاج الفوارق الاجتماعية وتعميقها بدلاً من حسرها.

أولاد الحياة!

إن المؤسسة المدرسية، حتى لو كانت تهدف الى تزويد الاولاد بمجمل المعرفة الضرورية لإعدادهم لمواجهة الحياة، فإنها ستكون عاجزة عن القيام بهذه المهمة وحدها لأن المعرفة المتراكمة تحمل طابعًا محليًا ضيقًا في عصرنا، بل ان العالم الذي تحول الى "قرية كونية معولمة" يشتمل على كم هائل من المعارف،، لا يمكن حصرها في منهاج تعليم قادر وحده على اعداد الأجيال القادمة للمستقبل، في عالم يتميز بسرعة تغير المعارف وتطورها سرعان ما يصبح فيه المهم اليوم، غير ذي بالٍ غدًا.
فهل ينجح جهاز التعليم في إعداد الاولاد للحياة؟! وهل الملكات التي ينميها برنامج التعليم في الطفل هي الملكات المطلوبة في عالمنا؟! وهل ينجح جهاز التعليم في ملاءمة نفسه للتحولات التي يشهدها العالم في كل مرة؟!
إن التعليم يجب ان يتمحور حول توفير المؤهلات والقدرات التي تمكن من المواجهة مع المستقبل المجهول اليوم، وخصوصًا تطوير القدرات لمتابعة الجديد واستيعابه والانطلاق في أعقابه.
إن جهاز التعليم القائم بجوهره يقدس الوسطية، والمقاييس ذات البعد الواحد للنجاح، ان الجهاز في طابعه الموحّد، ملكات وفكرا، يخسر الطالب المختلف والمتميز، والذي يصبح عرضة لخسارة تميزه وربما عبقريته. في مجال آخر، فالطالب مطالب بأن يكون وسطيًا في كل شيء، بدلاً من أن يكون خارقًا في مجال تميزه، انسانًا يحقق ما فيه من قدرات. إن مثل هذا التميز لا يمكن اكتشافه واستخراجه من  الطالب في جهاز يوجهه تحصيل العلامات، ويعلم بمنهج التكرار والحفظ بدلاً من تطوير تفكير حقيقي، في بيئة مثيرة عقليًا وعاطفيًا، كما يفترض أن يكون جهازًا يدعي التربية والتعليم.

جهاز التعليم في اسرائيل = تراجعٌ دائم في التحصيل!
وتعميق الفوارق في تحصيل الطلاب!

على خلفية الاسئلة الكثيرة المطروحة والمقلقة، وربما المتهمة، كان جهاز التعليم في اسرائيل يشهد فشلاً متراكمًا في التعليم. فدولة اسرائيل منذ سنوات تشهد تدهورًا علميًا وتعليميًا وثقافيًا حادّا، بالمقارنة مع الدولة المعرّفة كدولة غربية. ففي الامتحان الدولي لمنظمة الدول الصناعية OECD العام 2003، والهادف الى تقييم ملكات وقدرات الطلاب المعرفية، في جيل 15 عامًا، تبين أن دولة اسرائيل تحتل المكان الثلاثين، في مهارة القراءة، وفي المكان الحادي والثلاثين في المهارات في الرياضيات، وفي المكان الثالث والثلاثين في المهارات العلمية من بين احدى وأربعين دولة صناعية غربية شاركت في الامتحان.
اضافة الى ذلك فإن اكثر من ثلث التلاميذ في اسرائيل جرى تدريجهم في الدرجة الاولى وتحتها، بحيث تبين انهم يفتقرون الى المهارات الأساسية المطلوبة، كما جرى تحديدها في البحث. كما أن معدل  علامات التلاميذ الأكثر ضعفًا في اسرائيل، أكثر انخفاضًا من معدل التلاميذ الأكثر ضعفًا في العالم، ومعدل علامات التلاميذ الأقوى في اسرائيل أقل من معدل علامات الطلاب الممتازين في العالم.
وفي معظم الدول المشاركة، أظهر التلاميذ قدرة أعلى من قدرة التلاميذ في اسرائيل في مستويات المهارات الأولية، مثل: الحصول على معلومات أو معرفة، وتفسير قطعة، وفهم المقروء. وباختصار يمكن القول ان معدل انجازات  التلاميذ في اسرائيل في الامتحانات الدولية منخفضة نسبيًا، ولا زال يلاحظ ميل اضافي لمزيد من الانخفاض. كما تبين أن الطلاب الاسرائيليين يقرأون أقل من الآخرين، وبشكل أقل تنوعًا.

* الفوارق في العلامات = خيار أيديولوجي *

كما أن جهاز التعليم في اسرائيل المطالب بتوفير التعليم لكل طفل، بدون علاقة مع القدرات الاقتصادية لعائلته ودون تمييز، قد فشل في تقليص الفوارق والثغرات في تحصيل الطلاب، بل تبين أن الفوارق في العلامات في اسرائيل أكبر منها نسبيًا من الفوارق الداخلية في العلامات لدى الدول المشاركة في امتحانات دول OECD. ولكن مع ذلك، فإن الفوارق في العلامات بين الاطفال من الشرائح المتمكنة اقتصاديًا، وبين الاطفال من شرائح الضائقة في اسرائيل، هذه الفوارق هي الأكبر في العالم، وعندما تصبح الثغرات بين الطلاب اليهود والطلاب العرب واضحة، وبين الطلاب من أصول غربية والطلاب من أصول شرقية واضحة، فإن هذه الفوارق في التحصيل العلمي تصبح خطرًا على الدمقراطية وحقوق الانسان وليس مسألة اجتماعية اقتصادية فقط.
إن المؤسسة السياسية والأمنية والاقتصادية في اسرائيل قد حسمت خيارها الاستراتيجي في سياسة التعليم والخدمات بشكل واعٍ وعلى أسس تمييزية وعنصرية صارخة بدون ان يرف لها جفن منذ وثيقة هرتسليا في آذار 2001، بعد وصول شارون الى الحكم مباشرة:
"في اسرائيل هناك مجموعتان من السكان - أربعة ملايين انسان يعيشون في مجتمع غربي - تكنولوجي، مقابل مليوني انسان (من العرب والمتدينين المتشددين والعمال الاجانب) يعيشون في مجتمع عالم ثالث. إن القانون الاجتماعي في اسرائيل يقود الى تشجيع التكاثر الطبيعي في أوساط مجموعات السكان غير الصهيونية، من خلال نقل الموارد من السكان الصهيونيين. ان الحاجة الى سد الثغرات والفوارق الاجتماعية بين المجموعات السكانية يتطلب استثمارًا كبيرًا في التعليم والصحة والرفاه لدى الفئات الضعيفة. ومن جهة اخرى، فإن الحفاظ على الأفضلية النوعية وتحضير البنية التحتية المطلوبة لمجتمع تكنولوجي، يتطلب استثمارًا  كبيرًا في تطوير وتحسين جهاز التعليم لدى الفئات القوية، إضافة الى الاستثمار في تطوير وتحسين البنى التحتية القومية في المواصلات والاتصالات، لكن محدودية الموارد تحول دون الاستثمار في المجالين - في سدّ الفجوات وفي رفع الجودة - في الوقت نفسه. ولهذا، ينبغي تفضيل رفع الجودة والتطوير النوعي. وبكلمات بسيطة: تفضيل تعزيز الفئات القوية أصلا، على سدّ الثغرات بينها وبين الفئات الضعيفة".


بقلم: عصام مخّول
الثلاثاء 10/2/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع