رسالة شخصية، ليس الى محمد بكري فقط!

"جنين جنين": من قال اننا لا نستطيع ان نكثف طاقاتنا وجهودنا ونرتقي بما نملك من قدرات لنتحدى بها هذه المرحلة.. خسارة ان تضيع جهودنا في المصادمات، وخسارة اخرى اننا لم نستفد كما يجب من هذه التجربة

اخي. صديقي العزيز محمد
أتذكر وأنا اكتب اليك هذه الرسالة، تلك الكلمات التي وردت في قصيدة كنت كتبتها تحت وطأة احداث القتل المتعمد للانسان العربي. بذات الاسلحة الامريكية وذات الايدي والدوافع المتعددة، وقد حملت حينها عنوان "جدارنا الاخير" واليك تلك الكلمات اولاً:

"ثبّت خطاك .. على الثرى
وبعضاً .. انحن .!
كيما تمر العاصفة
ثبت خطاك ..
ودع سيول الجرف
تعبر باضطراب ..
وانت كالاشجار تضرب
جذعك في الارض ..
فهي الوحيدة .. عارفة"

اما بعد. فانت يا جذع زيتونة ضاربة جذورها في ارض الجليل، تتحدى الريح والعاصفة. وانت سنديانة عصية على الانحناء. لا تخف! نحن في الهزيع الاخير من الظلمة. لا تخف! لا بد ان ينفجر شعاع الصباح. ولا بد من لحظة صمت تعود من خلالها لتراجع حساباتك وخطوات ايامك الماضية منذ ايام. فقليل من الصبر كيما تمر العاصفة وتتبدى الامور واضحة امام عينيك!

هي الحقيقة.. هذه التي اجترحتها قبل ان يتساقط الغبار على حطام البيوت والطرقات في ارض جنين المنكوبة بالابادة. والان تتلقى ردة الفعل التي تلزمك بدفع ضريبة صوتك المرتفع في وجه الجريمة! واسقاطات ثبات عقيدتك وايمانك الراسخ بالانسان وبالحق الفلسطيني. وها انت تنزف على صليب عنفوانك المرتفع في عمق السماء، لتروي ظمأ الوحش الكامن خلف ثياب يهوذا منذ عهد المسيح!

خطيئتك يا ابا صالح انك لم تساوم.. وانك ما تركت متسعاً من الوقت للغبار كي يتساقط على ارض ساحة الجريمة! حملت ذاتك على راحتيك وبكيت هناك، ودماء الضحايا كانت ما تزال ساخنة زكية تعبق في ارجاء المكان!  ذهبت لتوثق معالم الجريمة قبل ان يتغير لون الحطام.. وقبل ان تبدل الشمس ساعتها، ويسدل المغيب بسكونه الرومانسي اعتبارات اخرى على الجثث الممددة على خاصرة الطرقات والبيوت.

لك في التاريخ سطور من ذهب. ولك من العطاء على مسرح تاريخنا سجل حافل بالخطوات النافذة كسهم تخطى كل جدران الحقد والكراهية والعنصرية، لتثبت اننا شعب ككل الشعوب.. مشوارك الطويل شكل بصيصاً من الضوء لكل الذين جاؤوا يتلمسون معالم الطريق. نبرة صوتك وملامح وجهك يطلان من خلف كل حكايات المسرح والسينما، ممتلآن برائحة فلسطين! فما الذي حدث الآن يا "سعيد ابي النحس المتشائل"؟ لماذا تقف الان وخلفك جدار من الجليد.. وفوهات البنادق مصوبة الى صدرك.. وانت وحيد!

استطيع ان افهم صراخ خفافيش الظلام من مجرمي الحرب والابادة حين يقترب موعد بزوغ الفجر! لانهم يخافون الضوء، لانهم يخافون الحقيقة! واتوقع ان سيناريو المحاكم لم ينته بعد.. وقد تتبعه حملة موجهة الى عقول الناس وقلوبهم، فليس من الجائز ان يقبل القاتل وهو صاحب السلطة والسلطان، حقيقة تدل عليه كمجرم حرب! فديمقراطية الصواريخ الذكية لا تحتمل ضوء شمعة تحملها كطفل بين يديك، لتفضح بنورها البسيط معالم وجوههم في سراديب جرائم الظلم والاستبداد والابادة. انما امام كل ذلك تبقى الحقيقة كالشمس ولن يستطيع التاريخ ان يُكتب من دونها بعد الان.

بيد ان الامور لم تقف عند هذا الحد.. فأنت يا من صنعت "جنين جنين" بكلتا يديك.. نسيت انك تنتمي الى قوم يقول فيهم نزار قباني في قصيدة عن عبد الناصر، هذه الكلمات :

"فنحن شعوب من الجاهلية
نحن التقلب ..
نحن التذبذب .. والباطنية
نبايع اربابنا في الصباح
ونأكلهم حين تأتي العشية"

لذا فان النجاح في الشارع العربي جريمة، والصدق في الشارع العربي جريمة، وكأننا اصبحنا جزءاً من البضاعة والسوق ومن عملية العرض والطلب! فنجاحك هذا انتج بالمقابل عشرات الاعدء.. وربما ان لك شيئاً من المساهمة في العداء او في خلقه ايضاً! الا انه في النهاية لا يصح الا الصحيح.

خطيئتك الكبرى يا ابا صالح انك نجحت فيما عزمت عليه.. الا انني اسألك بحق ما بيننا من قهوة عربية ولحظات صمت! الى متى سنواصل الاحتراق؟ والفتنة متى تكف عن فعل فعلها فينا؟ قليل من اعادة الحسابات التي اودت بنا الى هذا المطاف، تثبت لكل من له علاقة بالامر، انه كان بالامكان بل من المفروض، ان تأتي الخلاصة على غير ذلك! من قال اننا لا نستطيع ان نكثف طاقاتنا وجهودنا ونرتقي بما نملك من قدرات لنتحدى بها هذه المرحلة.. خسارة ان تضيع جهودنا في المصادمات، وخسارة اخرى ان لم نستفد كما يجب من هذه التجربة!

لو انك صنعت فيلماً على نمط الاغاني التي تملأ فضائيات العرب في الغناء والطرب. لواحدة تغني بصدرها وساقيها، او لواحد يمتطي جواده عابراً طرقات احدى قرى الريف الاوروبي، تنتظره وترنو اليه الفتيات الشقراوات من كل زاوية.. لكنت ستجد الف متمول عربي ممن يحملون مئات الاف الدولارات في سراويلهم ليشتريه منك. اما "جنين جنين" فهو الدماء والبكاء.. وما عاد لدى هذه الامة من وقت للشهداء. "فاحمل صليبك وامش" ما يزال دربنا طويل حتى ينهض هذا الشرق من سباته المميت!

والى عناق متجدد مع الشمس.. لك مني الف تحية واحترام .


بقلم: زاهد عزت حرش
الثلاثاء 10/2/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع