مُعضِلات الهيمنة الكونية- لقاء مع نوعم تشومنسكي:
المشكلة الأساسية هي: العنف يجرّ المزيد من العنف!

* كل من يتعرض للهجوم يحاول الدفاع عن نفسه! * أصحاب رؤوس الأموال في الولايات المتحدة يحتاجون إلى دولة قوية .. إلى دولة قادرة على الدفاع عن الأغنياء والأقوياء *

"السلطة والإرهاب" هو عنوان الكتاب الأخير من كتب المفكر الأمريكي نوعم تشومسكي، وهو من أكثر الأدباء المثقبس عنهم في العالم (حسب هواة المعطيات والإحصاءات، على الأقل). ورغم ذياع صيته عالميًا كعالم لُغوي، إلا أنه كان قد نشر في العام 1939، أي قبل إشتهاره، مقاله السياسي الأول "سقوط برشلونة في أيدي الفاشيين" حين كان في سن العاشرة.
 عمره الآن 74 عامًا، ولا يزال حماسه متوقدا. تحوّل قبل سنوات عدة، ومنذ حرب الفيتنام تحديدًا، الى مُنظّر عالمي. تتمحور معظم كتاباته ونقاشاته في الدور الكوني الذي تلعبه الولايات المتحدة، ويصح هذا أيضًا على رؤيته لسياق إحتلال العراق.
أُجري هذا اللقاء معه مؤخرًا خلال زيارته الأولى الى كوبا، والتي وصفتها الحكومة الكوبية بأنها "زيارة تاريخية"، فيما قال تشومسكي بتأثُّر: "إستغرق وصولي الى كوبا وقتًا مبالغًا به".
شارك في مؤتمر الباحثين في العلوم الإجتماعية في أمريكا اللاتينية الذي عٌقد في العاصمة الكوبية هافانا، حيث قدّم مداخلة عن معضلات الهيمنة الكونية للولايات المتحدة الأمريكية وما يسمى بالحرب على الإرهاب.
كثيرًا ما تقوم بدحض مذهبية بوش في كتاباتك ومحاضراتك عن حرب العراق. يدعي بوش بأن الحرب شـُنـّت لمحاربة الإرهاب، فيما تعتقد أنت، عكس ذلك، بأن الحرب تؤدي الى تعزيز الإرهاب..
إدعائي بسيط: كل من يتعرض للهجوم يحاول الدفاع عن نفسه. بالنسبة لتعزيز الإرهاب في أعقاب الحرب على العراق، فالأجهزة الأمنية الأمريكية وكذلك خبراء العلاقات الدولية يشاطرونني هذا التصوُّر. إذا أعلنت الولايات المتحدة أنها قد تهاجم أي نقطة على الكرة الأرضية باسم أمنها القومي، فيوجد في العالم من يريد أن يأكل غداءه قبل أن يضحي عشاءًا للآخرين. أولئك الذين يتحدثون تأييدا للحرب على العراق باسم الأمن القومي للولايات المتحدة أنجزوا وعودهم. وتلقوا ردود الفعل الصاخبة في الميدان أيضًا، كما توقع الباحثون في شؤون المنطقة.
اللبس ممنوع، فالناس تريد الدفاع عن نفسها، ومع ذلك ليس بمقدور أحد منافسة القوة العسكرية الأمريكية. المصروفات الأمنية للولايات المتحدة هي الأضخم في العالم، لذا لا غرابة في أن يستخدم الناس السلاح الأكثر توافرًا لديهم، بما فيه سلاح الإرهاب. إنها آلية يسهل فهمها.
 
لعل بوش أخطأ التقدير؟ أو أنه إحتل العراق رغمًا عن المؤشرات المسبقة لما يمكن أن يحدث؟
برأيي إن إدارة بوش لم تتوقع العواقب الوخيمة لإحتلال العراق، إلاّ أن هذا ليس الإعتبار الحاسم في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، حيث تحتكم هذه السياسة إلى الرغبة في السيطرة على العالم، وعلى مصادر الطاقة على وجه الخصوص. هذه هي الطريقة الوحيدة التي تُمكن الولايات المتحدة من التغلب على منافسيها في أوروبا وآسيا.
المشكلة الأساسية والعويصة هي أن العنف يجرّ المزيد من العنف، وهكذا إزداد عدد ضحايا أسلحة الدمار الشامل والإرهاب. إنه تنبؤ سيء ومع ذلك فهذه هي مذهبية السياسة الخارجية الأمريكية. والأمر، بالمناسبة، ليس مُقتصرًا على السياسة الخارجية. ففي داخل الولايات المتحدة تسعى إدارة بوش الى سحق كل تروس المواطنين في مواجهة هجمة قوى السوق. يحتاج اصحاب رؤوس الأموال في الولايات المتحدة الى دولة قوية، ليس إلى دولة قادرة على تطوير خدمات الرفاه لغالبية السكان، وإنما إلى دولة قادرة على الدفاع عن الأغنياء والأقوياء. إنها عصارة تاريخ الإمبريالية منذ القرن الثامن عشر، حين كانت الدول المُعرّفة بأنها "عالم ثالث" متطورة مثل دول "العالم الأول". كانت الأرجنتين، مثلاً، من أغنى المناطق في العالم، وكانت الصين والهند دولتين تجاريتين عظميين عالميًا. ما يُسمى اليوم بـ"العالم الثالث" أُجبر على تبني قوى السوق، لكن بالنسبة للولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا لم يكن الأمر كذلك. عمليًا، صارت هذه الدول قوية لأنها لم تنفذ مبادىء التجارة الحرة، وطالبت الدول الأخرى بتنفيذ هذه المبادىء فيما رفضت تنفيذها على صعيدها هي.
حتى في الولايات المتحدة ذاتها لا توجد "سوق حرة" كهذه. فالتكنولجيات الحديثة جميعها، الحواسيب والإلكترونيات والهاتف والإنترنت، تطورت في كنف القطاع الإقتصادي العام. لنأخذ، على السبيل المثال، معهد مساتشوستس التكنولوجي (MIT) الذي يتلقى إعانات مالية ضخمة من الحكومة لتطوير أحدث التكنولوجيات، كالحواسيب في الماضي والبيوتكنولوجيا الآن. تُنقل هذه التكنولوجيات الى القطاع الخاص فقط عند إنتهاء مرحلتي البحث والتطوير.
يتوجب التشديد، ثانيًة، على أن الدول القوية تطالب الدول الأخرى بتنفيذ خطوات ترفض هي أن تتبناها بنفسها. مثلاً، مسألة الدين الخارجي الشهير الذي ترزح تحته دول "العالم الثالث". إذا إستقرض طاغية ما في العالم الثالث أموالاً من بنك دولي كبير ثم بذ ّرها أو أودعها في حساب شخصي خاص به في لندن، تُلقى مسؤولية تسديد القرض على العمال والفلاحين الذين لم ينعموا بقرش واحد من الأموال المنهوبة ولم يطلبوا شيئًا. ليست هذه هي الطريقة التي يفترض أن تعمل الرأسمالية وفقها. فالقواعد تقول أن من يأخذ هو الذي يسدد. ولكن لن نجد من يؤمن بمبادىء الرأسمالية سوى في حالة واحدة: عندما يكون الأمر متعلقا بالفقراء، ويصح هذا بين الدول الرأسمالية ذاتها وداخل مجتمعاتها. تلك هي طريقة عمل الرأسمالية منذ الأزل والى الأبد.
ما هو الحل ، إذًا، لمسألة ديون "العالم الثالث"؟
يجب العمل حسب مبادىء الرأسمالية. إذا كان الطاغية هو الذي أخذ الأموال، فليسددها هو، ومن جيبه. 
يؤكد حديثك أن السياسة الخارجية الأمريكية خطيرة، حتى إنها خطيرة تجاه الولايات المتحدة نفسها..
هذا صحيح، ولذا تنشأ الخلافات بين النُخب في الولايات المتحدة. هناك من يعتقد أنه يمكن تحقيق  الأهداف نفسها، ولكن بوسائل "أقل كـُلفة". الخلافات في أوساط النخب جلية، بعضٌ من النخب ينتقد السياسة الخارجية لإدارة بوش بحدة.
لقد شنت الولايات المتحدة حربها على العراق دون دعم من الأمم المتحدة، وكانت تتحرك حسب مبادىء نظرية "الأمن القومي"، كما صاغتها إدارة بوش في شهر أيلول من العام 2002. وأدى الأمر الى تزايد القلق في العالم كله وبين نخب معينة داخل الولايات المتحدة أيضًا. إنها الصيغة المصحَّحة للمقولة اليونانية القديمة: "تقوم الدول القوية بما تريد القيام به، وتقوم الدول الصغيرة بما تستطيع القيام به". وعند توقُّف الأمم المتحدة عن تغطية التحركات الأمريكية، قامت الحكومة بدحرها جانبًا. سأعطيك مثالاً: قررت لجنة الأمم المتحدة لنزع الأسلحة، في السنة الماضية، تبني قرارات ضد تحويل الفضاء الخارجي الى ساحة حربية وضد استخدام الغازات السامة والسلاح الكيماوي والبيولوجي، واتُخذت القرارات بشبه إجماع فيما إمتنعت دولتان: الولايات المتحدة وإسرائيل.
إنتقاد الحرب على العراق من داخل الولايات المتحدة أمر غير مسبوق. ثمة إجماع في أوساط النُخب بشأن أهداف الحرب، لكن هناك خلافات جلية بما يتصل باستعمال القوة العسكرية. البعض من النخب يفضل استخدام الوسائل السياسية أو الإقتصادية للوصول الى الأهداف نفسها. إنها ليست خلافات ذات خلفية أخلاقية.

هل يدور الحديث عن تباين التوجهات بين الجمهوريين والديمقراطيين؟ وهل كان كلينتون سيتحرك بشكل يختلف عما تحرك به بوش؟
التباين في التوجهات ليس كبيرًا، لأن حكومة كلينتون هي الأخرى كانت أعلنت أن الولايات المتحدة تحتفظ لنفسها بحق التدخل العسكري لضمان نَولها الحر من الموارد الطبيعية أو الأسواق. إلاّ أن حكومة كلينتون كانت تعتقد بإمكانية القيام بذلك بصورة أبطأ. لكن أهداف حكومتي كلينتون وبوش واحدة: ضمان السيطرة الأمريكية كونيا.
ومع ذلك، وضعنا اليوم أفضل مما كان عليه قبل ثلاثين أو أربعين عامًا، حيث يتزايد فهم السكان للجهاز الدولي وهذا الوعي آخذ بالتغلغل بين الشعوب. كانت إحدى نتائج حركة الإحتجاج في سنوات الستين عدم السماح بالقيام بمجزرة دون تمييز، ذلك أنه يمكن ترسيم حدود العنف الرسمي.


* كان هذا أبرز ما جاء في اللقاء الذي أجراه أوليسس غوريني مع نوعم تشومسكي، والذي نُشر في الموقع البديلي باللغة الأسبانية "رفليون" (www.rebelion.org/chomsky/040121chom.htm)


الأثنين 2/2/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع