(الموت هو الكتاب الأخير الذي يرسمنا في كتاب الارض سطورا لا تمحى)
(كتبوا وتحدثوا كثيرا عن محمود درويش وهو على الأرض، هنا سوف يتكلَّمُ عن نفسه وهو في السماء. كتب):
أليوم بلغ عمر موتي فوق الأربعين، وبعد أن خفّت ضجة الكتابة قليلا، والكلام، والندوات، والتأبينات وتلقي التعازي، وخفّت الدموع، وتنهنهت النفوس، ورسب الحزن في الأعماق، وارتفع نقع معارك الانتخابات. جلست مع أدواتي وشرعت أسجل "يوميات السيرة الذاتية لموتي". وها هي.
يوما قمت بترتيب داخلي كما أنني غرفة، فرشت ظلي تحتي، ورتبت أعضاء جسدي مقطعا مقطعا، ولففت الوريد على الوريد، وأغمضت عيني في قلب صندوق رصاصي ثقيل، وسكنت.
لم أعد أرى غير وجه أمي يرنو إليَّ من حافة الحفرة، أراها ولا تراني.
هبط أول ليل عليَّ وأنا داخل سريري الأرضي، قضيته ألهج باللغة، والإنصات الى الجماليات الكامنة في الصمت حولي، وظلمة المثوى، ونور خافت ينير الجنبات، ويؤنسني.
في الليل قبل الصبح، ذبل رمشي، وغفا، وفيما أنا داخل نومي حملني جناحان لطيفان والفجر أزرق وأنا بثوب الحق، وعرجنا، وسرنا على درب من مروا الى السماء، يحيطنا رف من الملائكة، فتلمست بنظري، وأنا في علوّي، ورأيت حشدا من نجوم تتحلق حول قمر وبحرا أبيض ممدودا، وسورا مرفوعا، ومواعين موضوعة، وطبقات، طبقة من نور، وطبقة من ديجور، وانعطفا بي إلى برزخ يفضي إلى طريقين، واحدة تميل يمينا إلى الجنة وواحدة شمالا ٍإلى النار، خفق القلب واهتزَّ الشريان لخوفي أن يكون اتجاه طريقي شمالا.
فطالما فكرت أن هناك أناسا ٍخالطتهم، سوف ألتقيهم في الجنة إذا فزت بها، وآخرين سوف أتعرف عليهم في النار، إذا ما مال ميزاني.
وقفت في زحمة أرجل ووجوه، وفي يميني أوراقي. جاء دوري وجاء ملاك، نظر إلى أوراقي وقد اخضرّت في يدي، وأشار أن أتبع طريق الجنة، فسعيت والشريان مرفوع، ووصلت إلى باب الجنة وعليه الرضوان، وفوق الباب قوس عظيم، كهلال مثقل بماء، وما هو ماء هو نور جار ٍعلى نور آخر يتبعه ويجري مجراه، مرسوم على أطرافه يمامتان، فوقهما رُسِمَ بخط أخضر برّاق "أدخلوها بسلام".
سألني الرضوان عن اسمي، وديني، ونبيي، وكتابي، قلت له:
- لا أذكر غير اسمي، فهو في يميني على الورق ممدود في أفقه، محمود الاسم والصفات، يشدُّ أوله آخره، هناك تباعد خفيف وابتعاد يقطع الشريان عن الشريان بين "واوه" و"داله" لتسهيل الجريان. قال:
- محمود، هذا الاسم مبارك، فخير الأسماء ما حُمِّدَ أوعُبِّدَ.
وتناول أوراقي من يميني، نظر إليها قليلا وهتف:
- هو أنت؟ نحن أمتناك نصف ميتة واليوم أتممنا عليك موتك، ورضينا لك الجنة مصيرا، فاهتزت جوانحي والشريان، ولحقني فرح عظيم لفوزي بجائزة الجنة!
قام ورسم اسمي على لوح أمامه وقال:
- ها نحن أوصلناك إلى الباقية، وأعطيناك الآخرة ونقلناك من فلك إلى فلك.
ومسح على رأسي بيد كريمة، من وقتها ذهب وجع الشريان وأضاف:
- ورفعنا عنك أوجاعك وهمومك وأبعدنا بؤسك ومعاناتك، فطب عيشا عندنا،
وطبع على ردني الأيمن بالخط الأخضر البرّاق "شاعر".
جاء خازن الجنة، وأخذ يطوف بي ويقول هذه الجنة أمامك ركّناها تركيبا وجعلناها على طبقات، طبقة للفقراء والمؤمنين ذوي الصبر والمجاهدة وطبقة للشعراء والمبدعين، طبقة للشهداء وطبقة للأنبياء وطبقة للجناب الأعلى، يربطها عيون وأنهار جاريات، نهر عسل ونهر خمر، نهر لبن ونهر سمن، نهر شراب ونهر ماء، جعلها الله نعمة للشاربين، فوقها ثمرات، فتناولت كوبا له فتحة على شكل فم الطير وغرفت من نهر الشراب، كان الشراب من رقته تحسبه سرابا، وأخذت جرعة كبيرة، من وقتها ابتلت العروق وسرى انتعاش وتنبَّه الشِرْيان.
سرنا في طريق لا يحده بصر، على الجانبين مناظر لم تخطر على قلب بشر، فزاغ بصري وأخذني وله شديد، لم تتسع عينايَ للرؤيا وسمعت هسيسا ناعما ينبعث من العمق كما أنَه حرير يحك بحرير آخر على رُخام .
ومرافقي يأخذ بيدي ويشرح.
وعند الأطراف ثمرات مدلاة، تناولت ملء يدي حبَّة َكُمَّثرى وهممت بغسلها بماء النهر، فنهاني مرافقي وقال هذا ثمر مصّفى لا نجاسة فيه ولا يجوز غسله، يؤكل من الشجرة إلى الفم وأضاف للجنة آدابها، وسلوكها، سوف تعتاد عليها يا محمود
قال مرافقي نحن نأخذك الآن إلى طبقة الشعراء، فغمر القلب لهفة وتولاني السرور في الشريان من فرط شوقي للقاء الأحبة وصعدنا درجات كأنها ثنيّات حرير، والشريان يتلمس خطاه في المسار، ويفتح الطريق. وقال الآن أتركك، ودفعني دفعه عظمى ما فتحت عيني إلاّ وأنا أمام بوابة مرسوم على طرفها "الشاعر نصف نبي" وعلى طرفها الآخر"الإبداع عبادة".
دخلت بتوجس، وسمعت أرواحا تتغنى والجو ناعم. ورأيت طائفة تلهو وتتحرك بالأبيض، وقرأت أبيات شعر معلقة على لوح عرفت أصحابها من نصها، فهاجني الشعر، بحثت عن اسمي بين الأسماء، وجدته مكتوبا قبالته:
"باطل باطل الأباطيل... باطل
كل شيء على البسيطة باطل..."
سرت متباهيا بما لدي من كنوز شعر وجمال الأشياء، أمرر يدي على شعري بحركة لا ضرورة لها.
مرَّ وقت لا أقدر تحديده، ربما في حساب أهل الأرض عدة أيام أو عدة أسابيع.
ومرة كنت خارجا من روضة أبي تمام وعند منعطف أوقفني شاعر أجنبي وسألني:
- من أين حضرة الأخ؟
- أنا عربي الأصل فلسطيني الهوى.
فقال: لقد امتلأت الجنة بشهدائكم! وأشار بإصبعه إلى أعلى، قلت:
- كلما كثر الشهداء اقترب النور، وأضفت:
- لا يليق نصر إلاّ بالموت.
فهز رأسه... وتابع، ودخلت أنا في طريق. من بعيد رأيت توفيق زياد يتقافز في رحاب الفردوس بالثوب الأبيض الملبوس على اللحم والمحلى بخيوط الذهب، في خطاه توثب غزال وفي صوته نبرة علو، وقد اكتنزت به عراقة الشيوعي. مرسوم على ردنه بالخط البرّاق "من يعمل يفز" ما أن رآني حتى توهج سروره وأنشد:
- يا محمود... يا محمود! إن كنت هنا أو هناك أنت موجود.
وحياني تحية أهل الجنة وقال:
- لقد بشرنا اله الموت بقدومك، ونحن انتظرناك. وأخذ يهتف:
- محمود، في دارنا يا مرحبا يا مرحبا. قلت:
- أنا انتظرت موتي بفارغ الصبر! فلي على هذه الجنة ما أعمله، وعلى أرضها ما يستحق موتي. وأنا وإن استعجلته ومهدت له بكتاب الجدارية، وعدت نفسي بمفاجآت، ومفاجآت.
بادرني بالسؤال: كيف أحوال أهل الناصرة والحزب؟ قلت:
- تركتهم يتململون لخوض انتخابات البلدية، وقلت له بغمزة خفيفة:
- هل هنا أحزاب؟ قال:
- الله هزم الأحزاب وحده، لا يوجد هنا سوى حزب واحد هو حزب الله..
سألته بهمس:
- كيف الحياة هنا؟ قال :
- كيف وصفها الله في كتابه العزيز، كل شيء مطلوب ومرغوب يأتي إليك برمشة عين من مأكل ومشرب وكتب وبنات حور عين.
ثمَّ تركني ونزل روضة خفيفة على ضفاف نهر خمر.
نزلت روضة خفيفة وكانت عين الوقت قد ذبلت وارتخت وصار للجو لون بلّوري صاف والطير فاردة الجناح تمرُّ أمامي إلى وكناتها.
في أول الليل ملت على واحدة حورية العينين، رموشها خناجر ملتوية، وجفنها رقيق، أخذتها خليله ودخلنا خلوة، وشريان قلبي بين أضلعي فرحان. الخلوة لها فتحات وورود، الورود غالب عليها الأحمر الجوري حسب طلبي، وزهر اللوز مرفوعا متباهيا ينظر إليها وإلى الجوري وإلى نفسه يتهزهز لا يعرف أين يضع الطرف من فرط تراكم الجمال، وفوقنا قمر مدلل مشبع بدلال، ينظر إليها وأنا أنظر إليه وإليها وأقول يا قمر كن مثلها يا قمر وأمامنا نهر ماء جارٍ فيه بطات سابحة غافلة عنا، تهزهز ذيولها كما أنها تتراشق.
لم يكن لدي الوقت لأتمعن بها أكثر، وأزيد في الوصف فلي على أرض هذه الروضة الآن عمل .قمت ، وفتحت ولادة لرغباتي. أخذتها ملء أحضاني أخذ مريد مشته ورضاب واقع بيننا يبل العروق والشريان له طعم عسل على جوز مفروم. وهي تتوهج على مهل، وتأتي بالطيبات.
قضيت الوقت أعاشرها وتعاشرني، وأدخل بدني في نعيم، وأتنهد وأضرب، وأستروح وشرياني ممدود، كوتر مشدود نافر وفوار. وشوق حار يرفعني، ويدنيني ويلقيني وليلنا ساج، وتحتنا نمارق، وفوقنا أعناق أعناب متدلية نافرة الحبات كبدايات نهود، أطعمها وتطعمني، وأستبدل مشهدا هنا بمشهد هناك. تأتي التداعيات وتتشعب، وتستقر عند يوم كانت محبوبتي التي ما زالت هناك تعطيني شفاهها بالثوب المدرسي، وجرس فرصة الثانوية المتعجل ينادي علينا كقط.
* * *
في الصباح نهضت على كسل ناعم، دونت بعض الملاحظات، وشربت أنا والسياب شيئا ساخنا، وقلنا بعض الأشعار والذكريات والمواجع، والسياب ينظر إلى أفق ويقول آه يا وطني، وأنا أنظر إلى أفق آخر وأقول آه يا وطني أصبت الشريان بالوجع.
قريب منتصف الوقت تناولت أنا وأبو العلاء ومعنا ابن القارح طعام الغداء، مدوا أمامنا سفرة مليئة بحمام ويمام وعصافير مشوية، ثمَّ مدوا طبقا من بلح صغير النوى، قال المعري:
- أطعم نفسي اللحم، أطعمها ما حرمته منه في دنياها! قلت:
- يا أبا العلاء كنت في حياتك خالي البصر، لكنك فتحت نوافذ وأظهرت الضوء، ومددت بصرك إلى عمق التجربة الإنسانية، كيف وجدت أحياء الأرض بدون النظر، وكيف وجدت أموات السماء مع النظر؟ فقال قولا قصيرا دالاً.
- ألأحياء مختلفون، الأموات متشابهون.
كان ينطق بصوت خفيض مختصر، لكنه واضح الثقة يتلعثم قليلا ببعض الحروف من فرط تراكم الزمن على اللسان، يتريث وينطق كل كلمة بحسبان. قلت له:
- يا ابن المعرة، أنا وأنت فقدنا نصف ديننا، نحن متشابهان أننا لم نتخذ امرأة زوجة ولم نخلف وراءنا أولادا، يحملون ذكرانا. قال:
- من خلَّف وراءه كتبا ما مات. قلتُ:
- عشت منزعجا من ثلاثة أقوال صادرة عن حاقدين عليَّ ويرجمونني بتهم
إذا كتبت عن فلسطين قالوا شاعر المقاومة،
وإذا كتبت عن الحب قالوا ابتعد عن القضية،
وإذا كتبت شعرا إنسانيا عاما أخاطب به عدوي قالوا يتقرب نحو نوبل. إنهم يتطاولون عليّ ويمسون شرفي الأدبي.
فقاطعني المعري وقال:
- أكتب جيدا وتجد من يقدِّر.
أنهى المعري طعامه، مسح لحيته وتناول كوبا من كوثر وتمتم الأدعية وقام لحاجته.
مال على أذني ابن القارح وقال:
دائما كان المعري يمتدح شعرك ويقول عنك فُتَّ زمانك في الشعر والنثر وانتشرت أخبارك إلى أرض كثيرة وبلغت الأفق البعيد. قلتُ:
- أعتبر نفسي في بداية البداية، حتى جاء علي حين من الدهر أصبحت البداية نهاية البداية وانقطعت النهاية، ليس للإبداع وصول، إنما له قفزات، القفزة الحالية يجب أن تكون أوسع من سابقتها. ويبقى الشيء المهم أنني صنت نفسي من النسيان، ولم أكن مخيّبا لآمال من أحبوني وبقيت لآخر أيامي محافظا على لياقتي الشعرية.
دخل المعري، ألقى علينا تحية أهل الجنة وجلس.على الفور قلت له:
- قل لي كيف كانت ساعة رحيلك عن الدنيا؟ قال:
- مثلما دخلتها خرجت منها دامع العينين، وأنتَ؟ قلتُ:
- مددت الشريان على سرير، أغمضت عينيَّ وأنا بين مغادر وراجع، قال الطبيب المداوي إن شاء الله إلى رجوع، وخرجت من الدنيا مع إغماءة، قال
- هي الدرب تنقل الناس من دار إلى دار في صحوة أو غفلة!
قال ابن القارح:
- ليأذن معلمي بسؤال.
فهزّ المعري رأسه، إشارة القبول:
- كيف نكتب إن شاء الله التي ذكرها محمود، بعض الناس حتى من لهم علو في اللغة يكتبها لاصقة مع بعضها البعض. قال المعري:
- إنما تكتب منفصلة، أل"إن" لوحدها، مستقلة عن "شاء".
وكتب على يده توضيحا لما يقول، وأضاف:
- إذا كتبناها ملتصقة مع بعضها البعض فكأننا نقول إنشاء الله، قواعد الله، إملاء الله. وهذا كلام لا يجوز.
قمت أنا وقرأت شيئا من"يوميات السيرة الذاتية لموتي" أستمع إليّ بانتباه شديد، وكل مرة يقول:
- هذا حسن.
بقيت عنده قريب صلاة العصر، غادرته إلى روضتي.
* * *
بعد أن بلغ عمر موتي الاربعين قلت أقف أطلُّ على وطني ، بلادي، سرَّة الأرض وزهرة وسط الدنيا، في طريقي التقيت بالمتنبي، بدا فرحا على نحو ما، سألني عن طريقي ومقصدي وقد رأى عندي عجلة وتصميما، أخبرته، قال أرافقك، اجتزنا روضات صغيرة.ومررنا على روضة ابن زيدون.لم يكن موجودا بها، ثمَّ صعدنا على شرفة خفيفة ٍذات إيقاع ناعم، لها حلقات على الجوانب وفي أطرافها كوّات، تطل على سكان أهل الأرض.وضعت عيني في إحداها ورأيت غزة، شريان قلبي انقطع وأنا أرى غزة، بدت كحشد من نقوش تسبح على رمل أبيض والرمل يسبح على لهب. وبرزت كثبان الرمال تحت وهج الشمس كأنها أكوام سبائك من ذهب، عند أطرافها بقع، وسحالي، ومكنسة مركونة.أنا أنظر والمتنبي ساكت، ينظر من كوَّة ويسعى ببصره بين الربوع.بدا بلباسه الأبيض كبيت شَعر ٍمسنود بعمودين تعبأ الهواء به، وأخذ يرفرف كأنه يلقي تحية على الأهل.
دُرْتُ إلى الخلف، وضعت عيني في كوة حمراء توصل بصري إلى أرض جهنم ، ورأيت الزبانية يدفعون بأهل النار دفعا، ومن الطرف رأيتهم يسوقون أحدهم والحديد في رجليه، تمعنت به جيدا، قلت لنفسي هذا الشخص أعرفه إنه من رجالات "فتح"، كان يظهر في الصحف وتحت صورته كلام جميل وهو يدافع عن القضية!
كان أهل النار غير متساوين في نيل العذاب، منهم من تصل النار حتى أقدامه، ومنهم إلى ما فوق السيقان، ومنهم حتى الرؤوس.
نظر المتنبي إلى هذا، قلتُ له لماذا؟ قال علو النار من علو الذنوب.
وفجأة ًظهر رجل سرعان ما عرفته، إنه من جماعة "حماس"، كان يسوقه عبد، شفة غطا وشفة بلون الوطا، وهو مقيد بالحديد، قلت للمتنبي:
- أنظر، الأول تاجر بالقضية والثاني بالقضية والدين، فذوقوا جزاء ما كنتم تفعلون يا أولاد "المنبوطة". سألني:
- ما معنى كلمة "منبوطة" فهذه كلمة لم تجر على لسان ولا خطت في كتاب. قلت:
- شيء ما يخص عالم النساء، وأراد أن أزيده علما من الشرح والتوضيح حول هذه الكلمة، لكنني أدرت رأسي إلى كوة أخرى، ورأيت رام الله، ها هي حفرتي التي وضعت بها ذكراي، والورد فوقي، وحجر منصوب ودمعة أمي على الحافة ودعسة مَنْ جاء ليطمئن على موتي ويفرح، رقص على بهرجة مسرحة قدام نعشي، وانكفأ، وفوق صدري سنبلات جافات، وتراب جدي منثورا وعصبة الشريان.
لا أرى ما لا أريد أن أرى.
أرى فردوس أرضي المفقود، والشجرات الثلاث والبئر المحطم، والطريق، وبيت أمي ونافذته الشرقية ورنة حزن متعبة الإيقاع تحوم، وأشياء لي تفتقدني وما حدث في الغياب، وفي البعد أرى صلصال عكا، وضجة قائمة وبحرا فوقه نورس وظل نابليون مسحوبا على التل، وشال الحبيبة يرفرف على السور، واشتياقي لها، وحنو السبيل ، وشارع يفضي الى الميناء.
ومن فردوسي الموجود هنا أنظر إلى فردوسي المفقود هناك واقول ليتني أستبدل هنا بهناك، يا ليتني.
كان المتنبي ينظر من كوة أخرى، وظهر أنه مستغرقٌ فيما يرى، ثمَّ رفع رأسه وقال:
- رأيت بحيرة طبريا، لم تتغير كثيرا، الماء هو ماء، التجعيدات على السطح، هي هي، الضفاف هي الضفاف والنخيل هو النخيل، فقط افتقدت الأسد، ملك فيحاء البستان. كم أحِنُّ إلى البحيرة، قلتُ:
- الحنين باق مع الشخص، أيِّ شخص إلى شيء حاضره مفقود. قال:
- أنت قلت
أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ...
وأنا قلت :
أحن إلى الكأس التي شرِبَتْ بها
وأهوى لمثواها الترابَ وما ضمّا
فالحنين مثل الحلم يرافق، يتعثر أو يتحقق، قلت:
- طالما حَلِمْتَ أنت بامارة وأنا بدولة، كلانا، مرَّت أحلامُنا دون تحقيق. قال:
- ها أنت تحصل على جنة بدل دولة!
ضحكت وتنهدت. قلت:
- كلانا حاصرنا الموت، ولو امتدَّ العمر بي أكيد رأيت الدولة وليس أكيدا لو امتد بك العمر رأيت الإمارة. قال:
- ألفرق كانت لك دولة وفقدتها، أما أنا فلم أملك إمارة. بقيت طلبات وأمنيات وبقيت الدولة بالنسبة لك حنين لشيء، كان لك وتحلم أنت برجوعه. قلت:
- كنت تشد خطوة بالطلب والتذلل لسيف الدولة ليوفر لك إمارة وخطوة أخرى ملآى بالاعتداد بالنفس والتباهي بما لديك من قوة جسمانية وإبداع، ومن جهة ثانية عشت طويلا على مائدة كافور، ثمَّ هاجمته بأشنع الكلام. أنا لم ألتفت بعين الرضا إلى هذا السلوك. قال:
- لكل حالة حالتها وظروفها. لم تقنعني إجابته، قلتُ:
- من يقل الخيل والليل والبيداء تعرفني... لا يتراخى أمام إغراءات المادة.
قال ليغير مسار الحديث:
- هذا القول قتلني، أنا قتلني لساني، قلت على الفور:
- وأنا قتلني شرياني، وأضفت:
- ترانا، أصغرينا فتكا بنا. قال:
- كانت وخزة الخنجر آخر ما شعرت بها في الحياة وكانت مُباشِرَة ًفي قلب الشريان، وآخر ما سمعته هو بيت شعري من عدوي. قلت:
- وأنا كانت وخزة إبرة الطبيب المخدر آخر ما أحسست به. وآخر ما سمعته صوت الطبيب يعطي التعليمات، بعدها أغمضت عيني والتف شريان على شريان وغبت في بياض حلمي.
في هذه الأثناء جلسنا على سرر مصفوفة، طلب المتنبي كأسا باردا، وطلبت أنا فنجانا ساخنا وراح يعدد أمامي طموحاته وخيباته، خيبة وراء خيبة، وتصورته كمن كان يسبح في بحر من كوثر وهو ظمآن، وفمه مختوم. قلت له:
- يا أبا الطيب يكفيك فخرا أننا جميعا خرجنا من عباءتك، وأنا شخصيا أحببت شعرك، وعندما كان يجيئني الطلق الأدبي وأخرج الأشياء الحبيسة داخل النفس، أحيانا يكون لك أثر فيها، في شعرك أشياء مذهلة من الصلابة تضج على مرج من ورد. قال:
- طالما فتحت السيرة، وكل أخذ يمدح الآخر، فدعني أقول لك أنك انحرفت بخطى واسعة عن الكتابة التقليدية، وأسست لك لغة مكثفة راقية لها لون جديد، وصوت جديد، ورحت من فوق قلوعك تكشف آفاقا وجزرا أخرى وبذلك فتحت نوافذ جديدة على القول الشعري ووسعت لشعبك حيزا في الإبداع الشعري، العالمي ان الشعب الذي لم ينجل عن نص أدبي راق غير موجود.
أطربتني هذه الكلمات من المتنبي، رغم أن الكثير من كلمات المديح التي قيلت في الأربعين لوفاتي في حيفا والناصرة ورام الله وعمان وسخنين وطمرة لم ترق لي، كان المديح مبالغا به.
رجِعت إلى روضتي مباشرة، معي فرح قلبي وشرياني. أخذت ركعتين، ودوّنت بعض الملاحظات وأكلت خفيفا، وقرأت، ونمت.
في اليوم التالي تغديت في الروضة مع إميل حبيبي، طوال الوقت يأكل ويتلذذ ويتملظ. ويقول:
- ما أطيب السمك مع خمرة الجنة. قلت له:
- نحن الاثنان عيوننا على نفس المكان، أنت هناك في حيفا وأنا هناك في رام الله، كم رغبت أن نكون معا في هناك التابعة لك. قال:
- هناك أو هناك أو هنا كله حبل واحد يشدنا. قلت له:
- قل لي يا أبا سلام هل ما زلت على خلاف مع أبي الأمين!؟ قال:
- في الجنة لا خلاف، فلا خلاف سلطة نتسابق إليها، ولا مركز، ولا امرأة ، ولا مال، ولا خلاف حول مبدأ، كلنا على نفس أرض الجنة نعيش وكل له دور مرسوم، كأنَّنا نقوم بأدوار في سينما، وكل حسب ما جاء معه من حسنات، هنا يطبّق علينا مبدأ الشيوعية "بقدر ما عملت، بقدر ما تأخذ".
أنهيت أكلي قبل إميل، قلت له وأنا أغسل يديَّ:
- ما رأيك نلعب دق طاولة زهر؟ وافق في الحال. جاء ولدان وفرشا أمامنا طاولة الزهر، صفت الحجارة، وتوالت الرميات وحجارة الزهر تتدحرج على الرقعة، ونحن نهزها هزات خفيفة ونحذفها تروح تتقلب مكعبات صغيرة محدثة صوتا متقطعا كضحكة طفل على رخام، فتستقر وتتكشف نقطها البيضاء، وينكشف زهر أحدنا.
لاحظتُ أنَّ إميل ليس له "نفس" بإتمام اللعبة، قلتُ له:
- ما رأيك نذهب لروضة أبي نوّاس نستمتع بوقتنا أكثر؟ قال:
- نذهب، وأضاف :
- روضته على الشمال الشرقي من روضة طرفة.
في الطريق لاحظت أن إميل راح وازداد سمنة، العرض منه، تحسبه طولا، يسير ولحمه يرط على الجوانب، فرحا مبتهجا، متفائلا، يلتقي بالمارة أهل الجنة ويلقي في قلوبهم المسّرة.
عندما انعطفت الطريق بنا رأينا السياب ولم يرنا، بدا اسمر اللون، زلقا غليظ القسمات، عن يمينه حورية وعن شماله أخرى. وهو يتقلب بينهن في دلال ويترامى على سرير واسع ودورق في يده ويده الأخرى تركها لعوبة، نبهه إميل إلى وجودنا، جفل قليلا، قال ليبرر ما يقوم به:
إخوتي قاسيت طويلا من المعاناة والحرمان والأمراض، وقد تمنيت أن يكون الموت من نصيبي وأعطاني الله في مماتي ما حرمني منه في حياتي، متُّ، وفزتُ، قلتُ
- يا سياب لاقيتُ مثلما لاقيتَ.
ورفعت يدي ذات الردن الواسع وودعناه وتابعنا طريقنا، وهو تابع .
وصلنا روضة أبي نواس ورأينا المتنبي خارجا منها، فقال موجها الكلام لي:
- غدا بعد العشاء تأتي أنت وإميل إلى روضتي فلي أخبار سارة أريد أن أخبرها لك، وقد درت على بقية الرفاق وأعلمتهم الأمر.
وافقت في الحال، ولم يكن لي غير ذلك.
دخلنا على أبي نواس، كان يتمم بالدعاء والطلب، على وجهه آثار عبادة، له شارب يحيط بفمه ولحية خفيفة وعينان جميلتان وعلى وجهه ما زال الشباب، كأنه لم تدركه السن، ونهر خمرة يجري قرب روضته، وعنده دوارق لها مقابض، مدَّ أمامنا كأسين فيهما ما يشبه الخمرة في النور المذاب.
قلت له:
- ما الفرق بين خمرة الدنيا وخمرة الآخرة، وأنت نلت المذاقين في الدارين؟ قال:
- خمرة الآخرة مباركة، لا تذهب باللب بعيدا. قال له إميل:
- يا نواسي مارستها طويلا، وغاقرتها، كنا نحسبك ستذهب إلى النار"كَرْفَتة" ونراك الآن نزيل الجنة. قال:
- ما دام قلبك خاليا وسليما من الغيرة والحسد والأنانية، فرحمة واسعة سوف تشملك، لا شيء أجمل من قلب نظيف، وأنشد:
تعاظمني ذنبي فلما قرَنته
بعفوك ربي، كان عفوك أعظما
أمضينا عنده وقتا طويلا، قضيناه في المُزاح والمَقدَحة.
في الليل وأنا على سريري فكرت ماذا يريد المتنبي مني؟ وأي خبر يريد أن يقوله لي، وكل شيء متوفر هنا، وتحت طلبي، يجوز أنه يريد أن يخبرني بقدوم صديق لي، أو بأخبار جديدة مفرحة لم أسمع بها جاءت من الوطن أو شخص أعرفه كان في النار فعفا عنه الرحمن وجاء إلى طبقتنا. بقيت طوال الليل أفكر، وأحسِبُ، وأقلِّب، وأعود أسأل نفسي ماذا يريد المتنبي مني؟
جاء الوقت تعشيْتُ على عجل، بعد قليل جاء أبو تمام ورافقني إلى روضة المتنبي ولأمر ما وضع منديلا ًأصفر تحت ياقته.
غلى الطريق سألته حسب رأيك ماذا يريد أن يقوله لي المتنبي؟ قال:
- أنا مثلي مثلك لا أعلم أيجوز أخبروا المتنبي أنهم سوف يرفعونك طبقة أخرى والعلم عند الله.
وصلنا، وكان المتنبي قد فنح روضته على روضة البحتري لتتسع للحضور. دخلت وجلست مع أبي تمام، كانت القاعة شبيهة برواق واسع وقد تجمع بها جميع الرفاق، في الطرف رأيت الماغوط مع ابن زيدون كجبل يجلس قرب صخرة، والخنساء ونازك وفدوى تجلسن في الأمام بكسائهن الأبيض، كبطّات وتوفيق زياد يجلس مع نزار يضحكان، وفي الصف الأخير جلس البحتري مع حافظ ابراهيم وعمر بن كلثوم، والمعري لا يفارقه ابن القارح وهناك بعض أصحاب المعلقات، وهوميروس اتخذ الزاوية، أمّا امرؤ القيس فقد دخل متأخرا، وجلس في الطرف مع الشنفرى وكان شخص باخعا نفسه ينظر إلى الحضور يقف كل الوقت قرب الحائط مع أنه توجد أمكنة للجلوس، سألت أبا تمام مشيرا برأسي من هذا؟ قال:
- الشاعر بن الرقيات.
- قلت: لا أعرفه ، قال:
- سوف تسمع عنه، وتعرفه.
وشاعر آخر لم أعرفه لأنه كان "يعطيني ظهره". قربه أحمد شوقي حاملا وقاره الارستقراطي.. ومن حولنا حوريات يوزعن علينا الطلبات وهن يتشكلن من كرستيلات الأنوثة غير القابلة للتآكل.
صعد المتنبي على مرتفع أمام الحضور، فساد صمت ثقيل، وفضول، قال:
- بسم الله وبسم الشعر، وجال بنظرة شاملة على الحضور، أوقفها قليلا عليَّ وتابع: من موقعي هذا أعلن أننا نحن لجنة الشعراء قررت بعد أن توحدت برأي واحد أن نعطي لضيفنا الجديد الشاعر محمود درويش الحق والشرف لقب "ديك في القن الأدبي الأعلى" وكما تعرفون قلة هم الشعراء الذين نالوا هذا اللقب.
وما كاد ينهي كلامه حتى علا التصفيق ووقف توفيق زياد وقد أخذه الحماس وهتف:
- يعيش الشعب الفلسطيني
ولأمر ما تعانق الماغوط مع ابن زيدون، ومال أبو تمام على أذني وقال :
- لقد أنبتك هذا الشعب فرعا كريما،
ولوحت فدوى بمنديل وهي تتقافز كأنها على منبض، يتلامع في عينيها بريق طيب، وعلى الوجه مسحه من ظلال كما أنه ناتج عن ثنيات حرير.
وجاء إميل من موقعه، هنأني، واحتضنني، ورأيت الدمع يترقرق في عمق عينيه، وأطلقت الخنساء زغرودة نفذت إلى قلبي والشريان.
ومن البعيد رفع الفرزدق يده لي. وجاءت نازك، هنأتني، وقبّلتني في الجبين، وقالت مازحة حتى تخفف عني ما أصابني من انفعال وتوتر:
- أنت الآن أصبحت ديكا في القن الأدبي الأعلى وأنا في القن الأدبي الأعلى دجاجة، ضحكنا معا، قلت لها:
- هذه الدجاجة، وأشرت عليها بأصبعي، أعطت للحركة الأدبية بيضا سمينا "بصفارين" وجاءت بنص جديد متميز في شكله. واحتضنتنا تحت جناح إبداعاتها منذ كنا صيصانا.
كان لدي الوقت لأنتبه أن في صوتها عذوبه ما، تتخلله زوايا دافئة مع رنة حزن عميقة كمن طاوية نفسها على كمنجات.
وقف ابراهيم طوقان في الوسط وهتف:
- شعبك حي لا يموت يا فلسطين.
مال أبو تمام على يميني وقال بصوت مرتفع ليتغلب على ضجة التصفيق:
- كيف يقول حي لا يموت، هذا كفر، كل حي يحيا ويموت. قلت:
- يا أبا تمام يا أبا تمام أنت واقف "يم على دقرة"، قصد شعب فلسطين دائم العطاء والتواصل، يأتي جيل، وكل جيل يتواصل مع الآخر.
وفجأة دخل من الباب الآخر شكسبير يسبقه جبينه. يلبس الأبيض ويضع في رقبته حلقة بيضاء تشبه الزيق، جاء مباشرة وسلم عليَّ وهمس هوميروس في أذنه بشيء، توسعت عيناه عاد وسلم عليَّ مرَّة أخرى وقبل كتفي وقال:
- تستحق ما نلت، العقبى لي!
نزل المتنبي عن المرتفع، جاء وسلم عليَّ واحتضنني كابن له. مرَّة أخرى علا التصفيق.
في هذه الأثناء دخل الجاحظ متأخرا وجلس بعيدا، دائما يضع نفسه في القسم المظلم من القمر.
صعد أبو العلاء على المرتفع وأعلن بصوت وقور مختصر ودال :
- ألقي أمامكم البيان التالي: منذ اليوم تصبح يوميات السيرة الذاتية لموت محمود درويش ملحقة بكتابي "رسالة الغفران".
قال هذا ونزل وسلم علي وبينما التصفيق مستمر صعد أبو نواس وقال بصوت كصوت الكركي: الجميع مدعوون غدا الى روضتي، لنأكل ونشرب ونقول الشعر احتفالا بشاعر فلسطين والعرب محمود درويش.
* * *
رجعت وشريان قلبي بين أضلعي تعبان من فرط ما لاقيت من ثقل المديح. على الفور قمت بترتيب داخلي، كما أنني غرفة، فرشت ظلي تحتي، وضممت أعضاء جسدي مقطعا مقطعا، التف الوريد على وريد وانقطع الطريق، وضعت فوقي غطاء رصاصيا، وأدرت القفل من الداخل وأغمضت عيني وسكنت.
لم أعد أرى غير اسمي ممدودا فوقي على حجر كشريان مستقر المسار.
خالد علي
السبت 22/11/2008