محمود درويش شاعر سلمته الكائنات مفاتيح أسمائها بدخول باب القصيدة، فأمسك المطر من قميص الغيمة المبلل، وزاح الوقت ترنيمة للهبوب في عيون رجال يصعدون إلى حتفهم باسمين، أو يسرجون الضوء نحو البعيد البعيد، هو حوذي الشعر الذي رمى في بؤبؤ المأساة شمساً، واستولد من حزن الشوق ما يكفي من الصلوات. رمى في الشعر شعراً كثيراً، وزج في الأحرف ما يكفي لإشعالها في عتمة الوجوه، وأولم للروح الكثير. فمن زيتونة تحمل وطناً يرقى إلى قمر، زخرف سجادة الكلام، ومن لهفة العادي من الأشياء ومضى إلى مطلق مفتوح، ظلٌّ أليف هنا، وردة فارسية تصعد فوق سياج الحديد هناك، غريب يبحث عن شرفة تبحث عن معنى لمبنى، عاشق يرسم امرأة من صهيل ليخوض حرباً أخيرة، وميض بحجم الكبرياء.
هو الشاعر الذي لمّ أسطورته من شهيق المتوسط المطل على وجع الحاضر والماضي، فلسطيني إلى آخر زفرة هواء، عربي إلى حدود السماء، وكوني حتى سرة المدى.
هو القامة النخلة، زيزفونة الإنسان العاشق، الشاعر الذي ما يزال الشعر على فمه طازجاً كالنفس الأول للوليد الخارج تواً للحياة.
رماه الموت بالموت بعد جدال عميق، وكثير من المناوشات، فكأنما اصطفاه لنفسه، مضى، غادرنا، ما يزال..
وما تزال القصيدة تحن إلى خبز أمها.
هو وحده من اقتنص من المتنبي خيله وليله، وسيفه ورمحه، وقرطاسه وقلمه، فملأ الدنيا وشغل الناس. وهو وحده الحداثي المنبري، المتلفع باشتعال القصيدة وعباءة العشق، وهو منقذ الشعر من عزلة اغترابه وحامله إلى قلوب العاشقين، هو درويش الذي طالما شاغلنا بالوعد والانتظار، وفاجأنا دائماً بولادة جديدة، وأورثنا فجيعة الغياب.
سعيد البرغوثي
الأحد 2/11/2008