الأخوات والاخوة، أسعد الله مساءكم جميعا.
سامحه الله، ابو شادي. ماذا فعلتُ له حتى يشرفني ويكلفني بهذه المهمة الشاقة!!
إذ ماذا بوسع واحد مثلي ان يقول في حضرة هرمَين عظيمين؟ هرم، اعتقدَ الموت انه غيّبهُ فازداد حضورا، وهرم حاضر ابدا، لحما ولحنا، عظما وعِظما.
ودعوني اعترف امامكم الآن بأنني فقدت ثقتي بالألقاب الرنانة الطنانة، لكثرة ما بِتنا نبتذل إطلاقه منها، على من يستحق، وبالأساس على من لا يستحق!
نحن نعيش في فوضى العولمة فعلا. فوضى فضائيات، فوضى سلاح، وفوضى ألقاب. فكل ناظم سطرين ينتهيان بالحرف نفسه، شاعر كبير!! وكل مَن فرضَ على رواد قاعات اعراسنا، التزود بكمية من القطن، تكفي لسد الاذنين، مطرب كبير!! وكل من هزّت بطنًا وصدرًا وظهرا وأردافا عارية، او شبه عارية، فنانة كبيرة!! فيا أيها الكبار فعلا، سامحونا!
ويا أيها الشاعر الكبير حقا!
لماذا استعجلت الرحيل؟ وكانت قلوبنا قد انفتحت لك تلقائيا، قبل سنة وشهر واسبوع، حين عانقت هامتك الشامخة ذرى الكرمل الأشم! وتسابقتْ موجات البحر الحيفاوي، لعلها تحظى بغسل قدميك، من وعثاء الغربة، وأدران الحقد البشري! هل جئت تودعنا، وكنا قد منّينا النفس بأن العودة الكبرى ستكون هي التالية!! لقد اُسقط في ايدينا. إذ كان ردّ من احتلّ السماء والاسماء والهواء والماء والارض، حرمان تراب البروة من احتضان جثمانك. لا بل جعلوا ما كان يضمّ الاجداث، طعاما لجنازير جرافاتهم. لكن الغيوم الى زوال وتبقى أنت نبض القلب، نبض الشعب، بوصلة الهداية.
هل صحيح اننا سنتعود على غيابك ايها الفارس؟ وهل صحيح ان ريشتك السيالة، لم تعد تعطي زنابق وسنابل وسنونوات تبحث عن وطن؟!
لم نرحمك في حياتك.
أحببناك، او ادعينا حبك لدرجة العشق، حتى رجوتنا ان نرحمك من هذا الحب. وها نحن لا نرحمك في مماتك ايضا، فقد جعلنا بحارنا وأنهارنا وجداولنا، النقية منها والمتخمة بالكلور، جعلناها تغرقك. كل واحد منا، باسم حبّه لك، ومعرفته بك، وجد الفرصة للاساءة اليك، شعرا ونثرا!!
إقرأوا الصحف ثم اخبروني كم نسبة ما يليق بشخصية فارسنا، مما يُنشر!!
رجوْتنا ان نرحمك من حبنا. فانصاع البعض لرغبتك، بل تجاوز معناها، حتى وصل الى إعداد لائحة اتهام ضد يوسفك، وضد ملحّن شعرك والصادح به!! ولا أدري بحسنة مَن، نجوت؟ ربما بدعاء امك، وخبز امك، وقهوة امك، لم يصدر قرار ادانتك! ومن يدري فلعله يصدر بعد عقود عدة!
نحن قوم لا نطيق الضوء يا محمود! لقد ألِفنا الظلام حتى غدونا خفافيش العصر. البعض منا يبحث، بمصابيح الظلام، عن قطرة من نور، تنوس في خيمة عروبتنا، لا لكي يمد سراجها بالزيت السوري الراموي، بل لكي يطفئها ويُخمد وهجها، وتعم العتمة. ألم يجزم زميل شعرك القباني، بأننا قتلنا آخر الانبياء!! ألم نقدم "اولاد حارتنا" الى المحاكمة، بعد عقود طويلة من الزمن؟ ألم نفتل الحبل لنلفه حول عنق ضمير مصر وهرمها؟ وحتى بعد ان تنكر نجيب محفوظ لما كتب، جعلوا لحم ساعده طعاما لمدية جهلهم وتخلفهم، لكي يكف الساعد عن الكتابة!
وألم يأتلف زعماء قبائلنا العربية على التربص بسيد المقاومة اللبنانية؟ هذه المرة اتفقوا بعد ان كانوا قد جعلوا من "الاتفاق على عدم الاتفاق" نهجا تكتيكيا واستراتيجيا! لم نعبأ بالنتيجة! وكأن الزمن يجود كل يوم بنجيب محفوظ جديد، وبجمال عبد الناصر جديد، وبحسن نصرالله جديد، وبمحمود درويش جديد، وبسميح القاسم جديد!!
هذا الدهر، الذي لا نني نسبّه ونشتمه ونحمّله مسؤولية عجزنا وضعفنا وشللنا، ألا يستحق منا الشكر والامتنان، على ان حشَدَ كل هذه الكواكب والرموز، في سمائنا العربية، خلال فترة زمنية، تزيد قليلا عن نصف قرن، وهو ما لم يفعله ربما، مع غيرنا من الامم؟؟!
ولا يسعني في هذه الامسية ايتها الاخوات وأيها الاخوة، الا ان اوجه باسمكم جميعا، تعزيتنا الحارة الصادقة، لعائلة درويش الكريمة، ولأنفسنا، ولكل محبي فارس الكلمة الكبير حقا وفعلا، في هذا الجزء الصامد من الوطن، وفي كل اصقاع الدنيا، عربا وأعاجم واجانب.
ودعوني اخص عائلة درويش الكريمة بالاشادة والاكبار، على ترفعهم ومعارضتهم تسمية جائزة الدولة باسم رمزنا الفلسطيني الراحل.
اخيرًا ايتها الاخوات، ايها الاخوة، لا ادري كيف صدر عني كل هذا الكلام ونحن في حضرة أحد الهرمين العظيمين، احد شقّي البرتقالة اليافاوية المعطرة، الحاضر لحما ولحنا، عظما وعِظما، الشاعر الكبير فعلا وحقا، سميح القاسم.
* (اُلقيت خلال امسية رمضانية عقدت في المركز الثقافي البلدي يوم 22/9/08 إحياء لذكرى الراحل محمود درويش).
*"موسيقى مرئية"*
فتح موهبته وريشته على "الاتحاد"، فأفسحت له الصحيفة بدورها حيزا من حبر يليق به. وقد واكبتُ – عندما كنتُ احد المحررين في الصحيفة – بدايات ابداعاته. اُعجبت بها، باللغة السلسة، بالتعابير الرشيقة، بالخيالات العميقة، بحشد صنوف شتى من البلاغة، بالموسيقى الهادئة الحالمة، بالتلقائية، بتوظيف موفق للتراث، قديمه وحديثه. رعيتها بتواضع، فواصل طريقه الشعري. ثم لم أعد – بعد خروجي من "الاتحاد" – اقرأ له شيئا في الصحف الا لماما. ولا ادري ما اذا كان جهاز العصر، هذا الجنّي الذي سموه الحاسوب، والذي لم اتمكن من التفاهم معه، قد سرقه من الصحافة المكتوبة المقروءة.
المهم ان هذا الشاعر، الذي يبدو انه اتقن ضبط المفاتيح في فنه، تذكر البدايات واذا به يفاجئني بهدية رائعة، ديوان شعر يحمل عنوان "موسيقى مرئية"، اعتقد انه – وغيره من الدواوين ان كان ثمة غيره – جدير بلفت نظر النقاد اليه. نمر السعدي من بسمة طبعون: الى الامام. وشكرا.
*ومضة *
قتل الفنلندي عشرة من زملائه في الكلية. لكن المحكمة قررت عدم سحب رخصة السلاح من القاتل. يبدو ان عدد القتلى لم يبلغ النصاب القانوني!
يوسف فرح
السبت 27/9/2008