تنطلق هذه الدراسة من أن النص والوقوف عليه طويلاً في محاورة ومداورة، من أهم ما في النقد، فنقد النص يجمل المدارس النقدية المختلفة، ويقرب النص للمتلقي، وفي تقرّي الجزء يمكن أن نعكس المجمل، ولعل ما قاله عمر الخيام يصدق في هذا الباب:إن تفصل القطرة من بحرها ففي مداه منتهى أمرها
إن قصيدة " إلى أمي " هي من أبرز قصائد محمود درويش وأسيرها، بل هي من أكثر القصائد العربية التي تناولت علاقة الابن بأمه، فقد ترددت على الألسن، وغناها المغنون، وذلك لانسيابها أو سلاستها، وكذلك لما تحفل به من معاني الوفاء للأم إلى درجة التفاني .
ورغم أن القصيدة تبدو سهلة التناول، إلا أن هناك تأويلات تنطلق من كلماتها ودلالاتها، فهل الأم هي أمه الحقيقية – حورية ؟ أم هي الأرض؟ وهل "العودة" هي عودة الراوي وهو حي ليكون بين أهله، أم هي عودته مسجّى؟
نشر محمود قصيدته أولاً سنة 1966، وكانت عائلته تسكن آنذاك في الجديدة؛ وأما هو فكان يعمل في حيفا، ويقيم فيها. ونحن هنا لن نسأل إن كان كتبها في هذا المكان أو ذاك، أو إن كان كتبها في أثناء اعتقال جرى له، فانطلق بها متشوقًا لأمه، باحثًا عن لقياها، فما يهمنا هو ما ورد في النص أولاً وقبلاً.
إن دراسة بناء القصيدة في هذه الدراسة تتوقف على تركيب النص ، بما يتضمنه من عناصر صوتية ودلالية لاكتشاف العلاقات الرابطة بينها، فبنية النص تعني النص بكل أبعاده: أي لغته وحركاته ونظام علاقاته، والرؤية التي يطرحها، فهذه الأبعاد تنشأ متشابكة متناغمة، تتفاعل فيها الألفاظ لتؤلف مجتمعة بنية النص الشعري.
تتفاعل الألفاظ في القصيدة، آنًا تلتقي في مناخ واحد، وآنا تُقرأ في تأويل متاح، لكن الأم الحقيقية تبقى هي الأقوى والأوصل، ويبقى معنى عودته إلى أحضانها هو المعنى الذي يقنع، وليس أدل على ذلك من أنه يبحث عما يسعده منها، وأنه يعشق عمره، ولا يريد الموت حرصًا على رضاها.
ولعل ما أثرى النص هي هذه التصورات الأخرى التي تنتج من محاورة النص، ومن دراميته.
د . فاروق مواسي
الخميس 25/9/2008