عاشق من فلسطين وذكريات من الماضي



الصورة الأولى:

رام الله مكفهرة تتحدى نزواتها وجنود الاحتلال، وحالة من الهدوء في الشارع الفلسطيني، أشبه بالهدوء الذي يكون ما قبل العاصفة، فالسجناء الفلسطينيون ما زالوا مضربين عن الطعام لليوم التاسع على التوالي، والأهالي معتصمون قبالة مكاتب الصليب الأحمر.
وانا يا أخي آمنت بالشعب المقيد والمكبل.... وحملت رشاشي لتحمل من بعدنا الأجيال منجلا..... وهتافات نسوية، تصرخ، "حرية حرية لسجناء الحرية".    
كانت جامعة بير زيت لم تعلن الإضراب بعد، فغالبا ما تكون السباقة في مثل هذه الحالات.


الصورة الثانية:

اندسست داخل سيارة الأجرة المتجهة نحو الجامعة، وصدى هتاف النساء وأهالي الأسرى ما زال يراودني.
دخلت قاعة المحاضرات في الحرم الجامعي القديم، حيث محاضرة الدكتور عيسى أبو شمسية مدرس مساق اللغة العربية حينها. وبعد التحية قال:
عاشق من فلسطين للشاعر محمود درويش.....
بير زيت على غير عادتها، اصوات وهمهمات في داخل الغرف وهتافات في الخارج وحالة أشبه بلوحة سريالية لم نعرف أولها من آخرها.

"عيونك شوكة في القلب...
توجعني وأعبدها...وأحميها من الريح
وأغمدها وراء الليل والأحزان... وأغمدها
فيشعل جرحها ضوء المصابيح
ويجعل حاضري غدها
أعز علي من روحي
وأنسى، بعد حين، في لقاء العين بالعين
بأنا مرة كنا وراء الباب، اثنين........"

 

الصورة الثالثة:


يفتح الباب ويدخل شاب ملثم، إضراب......         
نعم إضراب وبين محمود درويش وشوكته التي في القلب، لملمنا أوراقنا المبعثرة وانتقلنا لشوارع بير زيت التي كانت أشبه بساحة قتال، إطارات مطاطية، طلاب ملثمون، أعلام فلسطينية على أعمدة الكهرباء والهاتف، وسناسل تحولت الى حواجز لتسد الطريق أمام سيارات الجيش المتوقع دخولها في كل لحظة. تنتقل قصيدة عاشق من فلسطين الى تلك الشوارع الملتهبة غضب.......      

"رأيتك عند باب الكهف... عند النار          
معلقة على حبل الغسيل ثياب أيتامك          
رأيتك في المواقد... في الشوارع...           
في الزرائب... في دم الشمس            
رأيتك في أغاني اليتم والبؤس           
رأيتك ملء ملح البحر والرمل          
وكنت جميلة كالأرض... كالأطفال... كالفل".

 

الصورة الرابعة:


في الساعة العاشرة والنصف صباحا كان طلاب بير زيت قد تحولوا الى مارد جبار خرج من قمقم الصمت ليعلو صوته فوق قيود السجن وطغيانه، وانطلق الطلاب من الحرم الجامعي القديم ليسدوا الطرق والمفارق والأزقة والشوارع.. سد الطريق سد وابن الف سد. والقادم أخطر... ولعبة مواجهة الجيش اصبح الطلاب يعرفونها ويعرفون  قوانينها وعادة ما تكون نتيجتها عددًا من الجرحى والمعتقلين وشهيدًا أو شهيدين!           
كانت قصيدة عاشق من فلسطين تدخل في مساق اللعبة بعد أن خرجت من مساق اللغة العربية. كانت تسير في أول المسيرة والطلاب يهتفون:

 

"طل سلاحي من جراحي يا ثورتنا... طل سلاحي.."         
"من الفارعة لجنين شوكة بحلق المحتلين"         
"وحرية... حرية لسجناء الحرية"         

 

وقفت مذهولا أمام هذا الجرف الطلابي الهائج وأمام التنظيم المبرمج لمظاهرة "المعد الخاوية" التي أججت نار الغضب في داخلي فأعادتني لمظاهرات الناصرة وقرية  البروة، وأعالي الجليل، ومفرق العياضية وتل كيسان وقرية ميعار والى خوابي الزيت، والى محمود درويش.. وعاشق من فلسطين. وأقسم:              

"من رموش العين سوف أخيط منديلا،           
وأنقش فوقه شعرا لعينيك،            
وأسما حين أسقيه فؤادا ذاب ترتيلا....          
يمد عرائش الأيك.....             
سأكتب جملة أغلى من الشهداء والقبل:            
فلسطينية كانت ولم تزل".

 

الصورة الخامسة:

الطلاب في كل زاوية من زوايا الشوارع. في شارع عطارة المؤدي الى الجسر، في مفرق بير زيت- جفنة، على دوار البريد، في الطريق المؤدي الى الحرم الجامعي الجديد في كل مكان..... وفجأة تدخل سيارات الجيش من طريق قرية جفنة. يطلق الجنود نار  حقدهم على جمهور الطلاب، فيتساقطون مضرجين بدمائهم......
"أنا أن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي".
وتبدأ المواجهة، كانت قوانين اللعبة قد تغيرت. فتدافع الطلاب ليختبئوا وراء السناسل والمتاريس، والاحتماء في الحرم الجامعي القديم. إلا أن الإصابات كانت كثيرة وبالغة ونقل الجرحى مهمة صعبة.   
أذكر حينها أن الطالب موسى حنفي من قطاع غزة، قد أصيب في صدره وأن طاقم الإسعاف لم يستطع إنقاذه فأصابته كانت خطيرة وعلامات الموت بدت واضحة على محياه.
انهض الدم النازف أخي تكوين جديد...          
ليس في هذا العالم من يستطيع،           
أن يجفف دم الشهيد...             
استشهد موسى الحنفي ونقل من أصيب في المواجهات الى المستشفيات والمعتقلون الى المعتقلات، وأبعد مروان البرغوثي الذي كان  يتبوأ منصب رئيس مجلس الطلبة في الجامعة حينها الى الأردن، وأغلقت الجامعة أربعة أشهر وبقيت قصيدة محمود درويش "عاشق من فلسطين" تجلجل في سماء بير زيت وفي جامعتها العملاقة، فصار الحزن ألفين...

 

"ولملمنا شظايا الصوت.             
لم نتقن سوى مرثية الوطن!           
سنزرعها معا في صدر جيتار           
وفوق سطوح نكبتنا، سنعزفها            
لأقمار مشوهة... وأحجار             
ولكني نسيت... نسيت... يا مجهولة الصوت:          
رحيلك أصدأ الجيتار.... أم صمتي؟!"

 

هكذا بدأت علاقتي بالشاعر محمود درويش شاعر الأرض والتراب والوطن لتصبح  قصيدته "عاشق من فلسطين"، التي تحولت الى سلاح في المعركة بداية الطريق، ترافقني عند عودتي الى الناصرة وتحزم أمتعتي عندما كنت أعود الى رام الله وبير زيت.

 

رحم الله شاعرنا الفلسطيني الكبير، التي أبت سيدة الأرض أن تتركه بعيدا فلفته بذراعيها لتسكنه في أعماق أعماقها إلى جانب قلبها الرحيم.

(الناصرة)

خالد عوض
السبت 6/9/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع