دير الأسد تودّع عاشق فلسطين الشاعر الكبير محمود درويش



أهالي قريتنا الأفاضل، الحضور الكريم، سيداتي سادتي


  
   ليس اصدق من قوله تعالى في محكم آياته
" وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي ارض تموت  "
وقول الشاعر
علوّ في الحياة وفي الممات                        لحق تلك إحدى المعجزات

 

علوت يا محمود في حياتك وارتقيت في أشعارك وتجاوزت السحاب تلألأت نجوميتك في سماء الشعر والنثر وتربعت على عرش الشعراء في النهضة الحديثة من النصف الثاني للقرن العشرين إلى بداية القرن الواحد والعشرين رضعت الشعر من ثدي اللغة ومن معجم ألفاظها وغذيت طفولتك بشهد رضابها فأصبحت الشاعر الكبير الكبير ودخلت التاريخ من أوسع بواباته .
وكما علوت في حياتك علوت في مماتك حُملت في الفضاء الكوني بجثمانك الطاهر وعلى متن طائرات خاصة من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق من أميركا الى الخليج العربي إلى المملكة الأردنية الهاشمية إلى معشوقتك فلسطين إلى رام الله على رابية عالية تطل على القدس الحبيبة  .
محمود درويش ابن البروة في ميلاده وابن دير الأسد في نشأته الشعرية شرب من مياه العين ومن مياه عيوننا، سكن في قلب القرية واستوطن في قلوبنا مشى في دروبنا ولعب على بيادرنا واكل من تيننا ورماننا وصبرنا وتظلل تحت زيتونتنا وتعفر في تراب اللجوء وذاق لوعة الهجران والغائب قي وطنه .
رحل محمود درويش وعائلته وكل أهل البروة كما رحل العديد من الشعب الفلسطيني بعد ان هدمت قوات الاحتلال في حينه ما يقارب الـ 500 قرية منهم من رحل إلى الدول العربية ومنهم من بقي لاجئا في وطنه  بعد حرب 48 بعد النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني وشردته عن وطنه .
هاجر محمود درويش إلى لبنان ثم عاد لاجئا في الوطن إلى دير الأسد التي تبعد عن قريته البروة ( احيهود اليوم ) بضعة كيلومترات ولا يسمح له العودة إليها .
محمود درويش ابن جيلي وعمري وابن صفي من المدرسة الابتدائية منذ عام 1953 حتى الثانوية عام 1960 تعلمنا معا الصف السادس والسابع والثامن في دير الأسد وشاءت الأقدار أن يكون أول صف سادس في دير الأسد بعد ان انفصلت عن البعنة وأول صف ثامن تخرج في دير الأسد وتعلمنا المرحلة الثانوية من التاسع حتى الثاني عشر في مدرسة كفرياسيف الثانوية  وقد سكن محمود درويش وعائلته واخوته احمد زكي رمزي ونصوحي في دير الأسد ما يزيد عن العشر سنوات  .
نظم محمود درويش الشعر منذ الصف السادس فخربش الأشعار على أوراق الزمن التي أدخلته صفحات التاريخ وخلدته في أساطير الشعر ومشاهير الشعراء وعباقرة الزمن. أحب اللغة العربية وشعرها منذ نعومة أظافره وتنافس في اللغة العربية وآدابها وقواعدها مع ابن صفنا المرحوم الأستاذ احمد محمود أسدي . محمود يتفوق في بحور الشعر ونظمه واحمد يضاهيه اللغة وقواعدها رحم الله الاثنين ولا ادري أي لغة ستجمعهما في بطون الأرض. كم التقينا ثلاثتنا حول المذياع لسماع برنامج "على الناصية" تقديم آمال فهمي كم أتحفنا فاروق شوشة في برنامج "لغتنا الجميلة" "انا البحر في أحشائه الدر كامن     فهل سألوا الغواص عن صدفاتي" وكم تجمعنا للإصغاء لمقالات محمد حسنين هيكل تحت عنوان " بصراحة " في الساعة الثانية والنصف من كل يوم جمعة كم أحب عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة كم وكم من الذكريات في دير الاسد  .
تابع محمود درويش مسيرته الشعرية في بلد الثقافة والعلم بلد الوعي السياسي والوطني في مدرسة كفرياسيف الثانوية معا تعلمنا أربع سنوات في صف واحد وعلى مقعد واحد مع لفيف من الطلاب الذين وصل عددهم بانتهاء الثاني عشر الى 23 طالبا اشغلوا مناصب عظيمة ومراكز كبيرة وعلى رأسهم شاعرنا العبقري شاعر فلسطين شاعر العروبة شاعر الإنسانية شاعر الزيتونة الفلسطينية الوافرة والشامخة دوما شاعر الوطن والثورة الفلسطينية عاشق فلسطين الذي حمل هموم شعبة  وأثقال قضيته .
غادر محمود درويش البلاد الى الاتحاد السوفييتي عام 1972وفي نفس السنة لجأ إلى مصر والتحق بصفوف منظمة التحرير الفلسطينية وكان عضوا في اللجنة التنفيذية وكذلك كان مستشارا للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات  صاغ شاعرنا الكبير إعلان الاستقلال الفلسطيني الذي تم إعلانه في الجزائر عام 1988 ترجمت أشعاره إلى 22 لغة أدبا وشعرا .
حمل القضية الفلسطينية على يديه على شفتيه على لسانه في عقله وروحه وسع قلبه قضية فلسطين ولكن فلسطين لم تتسع لشعره وطموحاته  فانطلق محلقا في أنحاء المعمورة عربي الشعر والانتماء عالمي الشهرة والإنسانية فلسطيني الرسالة تحمل أعباء التشرد ومعاناة اللجوء طاف العالم بأجنحة الشعر وحلق بقوافيه كان قلبه كبيرا كبيرا ككبر شهرته وجدارية أشعاره إلا أن هذا القلب طلب العلاج ممن ليس لهم قلب فتوقف في الدولة التي أثقلت قلوب الفلسطينيين وأطالت معاناتهم .
باق أنت فينا ما دامت للفراشة أجنحة وللزيتون أوراق وعصافير بأجنحة وبلا أجنحة وما دام للوز زهر او ابعد يا عاشق فلسطين لماذا تركت الحصان وحيدا لماذا ترجلت أيها الفارس ستبقى في الذاكرة الفلسطينية العربية والعالمية احد رموز هذا الشعب فارس الشعر والوطن والقضية، ستبقى حاضرا في وجداننا وفي سجل الشعراء الخالدين أيها الفارس الذي ترجل مبكرا أليس على هذه الأرض ما يستحق الحياة  .
    إن أصدقاء محمود درويش كثيرون ورفاق دربه كثيرون وانه ليس ابن البروة ودير الأسد والجديدة فقط بل انه ابن كل البلاد ابن فلسطين وشعبها ابن العالم العربي ابن العالم الحر ابن التاريخ  ومهما طاعت اللغة للخطباء والمتحدثين ستبقى لغتنا الجميلة عاجزة عن وصف جمالياته الأسطورية   ومهما قيل عنه في مسيرة هنا وهناك لا نفيه حقه .
ولكن هناك حقيقة للتاريخ  يجب أن يعرفها الجميع صحافة وإعلاما كتابا وشعراء أن دير الأسد حضنت الشاعر الكبير محمود درويش في طفولته وشبابه كما ذكرت في كلمتي . من دير الأسد انطلقت أول قدحة شعر ومن أجوائها استلهم شاعريته وفي ربوعها أوحي إليه فيها نشأ وترعرع وتمخضت هذه الحقبة الزمنية في دير الأسد عن ميلاد هذا الشاعر العظيم ليس لنا فضل في ذلك ولكني اقصد الفترة الزمنية والتاريخية التي عاشها محمود درويش في دير الأسد .
( هذه الكلمة ألقيت في المسيرة التي أقيمت في دير الأسد في الساحة العامة للأفراح بعد صلاة الجمعة 15/8/2008 ) .

(دير الاسد)

عبد الخالق اسدي*
الجمعة 5/9/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع