إلـى محمـود درويـش:
كفـاك موتـا... لا وقـت لدينـا للمـوت



لم يتأخر حزني عليك لحظة.. لكن الجفاف استبد بعقلي (فكرةً) وبحلقي (كلامًا)..
هل يجوز لي (او لنا) أن أحمل جرة ماء عارضٍ لأعرضها في حضرة مصب النهر العظيم..
كم يبدو كلامنا قليلا...
فقد تعودنا أن نتكئ عليك ونلجأ إلى مفرداتك إذا أردنا أن نقول لأحد شيئا، وإذا أردنا أن نقول لأنفسنا شيئا، وإذا أردنا أن نقول عن شيء شيئا.

 

محمود درويش،
يا صائغ أنانا الجماعية والفردية، رسمت لنا ولموضوعنا الصورة التي نريد ونحب، في كل مرة كنا نصاب بالدهشة من جديد عندما نقرأك ونسمعك فنكتشف ان هذا بالضبط ما كنا نريد ان نقوله عن وطننا وعن حلمنا وعن حبنا ولم نعرف كيف نقول.. فقلت نيابة عنا... ولم يكن الامر مجرد توارد افكار...
شيّدت من مواد اللغة الأولية- دون عناء الغوص في محيطها- افخم قصور المعنى لان اللغة كانت تطيعك حيث تعجنها كما تشاء راضية مرضية.
"ماذا تفعل هنا؟"
 قلت لي في رام الله قبل امتطاءك آخر منصة شعر في أول تموز.
"أتتبع خطاك"
 قلت لك... فدحرجت النرد على المنصة فإذا بنا نعرف بعد موتك انك كنت تشير إلى نهاية "حديثك العابر مع ما تبقى من حياتك".
التقينا بعد ذلك في الناصرة قبيل سفرك إلى العملية الجراحية، كنا خمسة معك، جواد بولس وعصام خوري ومحمد بكري وميشيل خليفي وأنا، تبادلنا الكلام العادي واعترضت بشدة أن يقوم محمد بكري بمسرحة مسيرتك ما دمت حيا..
 فهل اختصرت الحياة ليبدأ العرض؟
عندما خرجنا من غدائنا لم اعرف ما الداعي لالتقاط الصورة عند باب المكان
لكنها كانت الصورة الأخيرة في الألبوم.
قبل أن نفترق قلت لك عن العملية: "احسبها مرة أخرى ودير بالك على حالك...."
قلت لي: "أنا ذاهب من اجل ذلك بالضبط".
بالضبط أن تكون أو لا تكون، هذا طلبك بالضبط.
"لا تمثّلوا بي إذا لم تنجح العملية" قلت لمن حولك قبل دخولك إلى الجراحة القاتلة.

 

 

 

أذكر يا محمود فيما تبقى من ليلة الخامس عشر من تموز العام الماضي في حيفا، بعد لقاء الشاعر بكرمله، جلسنا فوق البحر على علو شاهق.. لم نقل كثيرا لكن عينيك لمعتا كعيني طفل وجد ضالّته وعانق أمّهُ بعد تيهٍ ...
وفي بعض القلوب عيون.
بعد حين قرأت إعلانك العظيم بعد لقاءك مع الكرمل مخاطبا ذاتك:
"أنت منذ الآن أنت..."
يقال إن أبا الطيب قد مات قبل ألف عام فهل حقا مات المتنبي قبل ألف عام؟؟.. وإلا فلماذا لا يزال يسكن كتبنا وهويتنا ولغتنا؟
وهل يمكن أن تصحّ فيك الجملة الفعلية الأولية: "مات محمود درويش" وأنت تسكن روايتنا وأحلامنا وترسم صورتنا الجميلة ونستلّك عندما نريد ان نعتدّ بفلسطينيتنا ونباهي بها.
 وانت يا محمود ايها المتماوت الم تقُل:

"لم أولد في مكانين ولكن في وسعي أن أموت في أكثر من مكان وفي مقدوري أن أولد وأموت في كل قصيدة.. تلك هي حريتي... فلماذا يكون مكان ولادتي الجغرافي نقيضا لهذه الحرية؟" (حيرة العائد ص 128).

وتقول:

 "أدركت أن الموت النهائي هو موت اللغة"
ولغتك غير قادرة على الموت..

وتقول:

"وقلت إن مت انتبهت
لدي ما يكفي من الماضي
وينقضي غد"..
والغد لك كلّه،..

وتقول:

"هزَمَتك يا موت، الفنونُ جميعها"

وأنت سيد الفنون جميعها...

 

 

 

كفاك تماوتا وواصل الإنشاد فينا إلى انبلاج الحلم في تضاريس فلسطين.
أعداؤك وأعداء شعبك.. يقفون مشدوهين أمام عظمة قولك وحضورك في شعبك..
احدهم تطاول بوصمك بالعنصرية.. لماذا؟
لأنك قلت:

"فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا قمح نربيه ونسقيه ندى أجسادنا
ولنا ما ليس يرضيكم هنا:
حجر... أو خجل
فخذوا الماضي إذا شئتم إلى سوق التحف
وأعيدوا الهيكل العظمي للهدهد إن شئتم
على صحن خزف
فلنا ما ليس يرضيكم.. لنا المستقبل
ولنا في ارضنا ما نعمل.."

إن أعداءك وأعداء شعبك قادرون على امتطاء قذيفة طائشة كذريعة ليحرقوا المخيم بأكمله ويجوعوا شعبك ولكنهم عاجزون وعاجزون وعاجزون عن مواجهة سموّ الموقف وسحر الكلام في لغتك..
لقد نجحنا نحن أن ننتمي إلى لغتك التي تشكل التعبير الأكثر نبلاً وسحراً للرواية الفلسطينية من قهرها إلى حلمها.
أصدقاؤك وأعداؤك يقفون مذهولين أمام هذه الظاهرة التي تسمى أنت.. فالبشر قد تعودوا على استقدام الشعراء ليؤدوا التحية في بلاط الامراء والرؤساء والزعماء.
لكن هذه الظاهرة الفلسطينية بامتياز تدخل في غير المألوف.. أن يأتي الوزراء والرؤساء والزعماء في بلد يتطلع إلى كسرة خبز وكوّة حرية ليؤدوا التحية والسلام للشاعر.. الناطق الرسمي التاريخي باسم فلسطين التاريخية حتى المستقبل.
في سياقك نحن فخورون بفلسطينيتنا.. لأننا في سياقك نحن نحن ولسنا غيرنا.. نحن في سياقك كشرفةٍ نطل على ما نريد..
وليأذن لي الحاضرون أن استأثر بك قليلا، فرفاقي وأنا فخورون انّك تتبعت مسار النهر المتدفق إلى المصب العظيم من رأس النبع الذي بدأ في مكان ما معروف لنا جيدا في وادي النسناس لفي حيفا عند منحدرات الجبال حيث نربي الامل على خاصرة الكرمل في أيام الجفاف والشقاء والكبرياء: في جريدة "الاتحاد" المدرسة وفي مجلة "الجديد" حاضنة المقاومة والشعراء.
عندما يأتي اليوم، وسيأتي، الذي ترسو فيه سفينة فلسطين عند شاطئ الحرية والدولة والعودة.. سيكون محمود درويش هناك.
محمود الذي خط بإيحاء وصوت ياسر عرفات خروج فلسطين من تيه النكبة عائدين إلى عائلة الشعوب في الأمم المتحدة عام 1974 عندما كتب: "إن شعبنا يتكلم وهو يتطلع إلى المستقبل أكثر مما هو مقيّد بمآسي الماضي وأغلال الحاضر... وإذا كنا نعود إلى جذور قضيتنا فلأنه مازال من يحتل بيوتنا ويرتع في حقولنا ويقطف ثمار أشجارنا ويدّعي أننا أشباح لا وجود لها ولا تراث ولا مستقبل".
عندما ترسو سفينة فلسطين عند ذلك الشاطئ سيكون محمود درويش هناك، بذلك النص المؤسس والجميل: وثيقة استقلال فلسطين وإعلان دولة فلسطين من العام 1988.
محمود ليس حالة شعرية وحسب، إنما مشروع وطني.. والتحيّز للغته يجب أن يكون تحيّزا لمشروعه.

 

 

أخي محمود،
ليس مًجازا أن نقول أننا كلنا اهلك ولكن من المُجاز أن نقول لاشقائك وشقيقاتك ولأُمك التي حوّلتها إلى رمز ملموس ومحسوس لأمهاتنا كلنا.. والى عائلتك: قلوبنا معكم ويحيا البطن الذي خرجتَ منه...
إن طقوسنا بعد إعلان وفاتك هي حاجتنا وليست حاجتك.
وكما قلت:

"لم ينقصني شيء لاحقق موتي المشتهى في ذروة الولادة، وان حاضري لم يكن أكثر من زيارة يعود الزائر بعدها إلى توازنه الصعب بين منفى لا بد منه وبين وطن لا بدّ منه.. فلا يعرَّف هذا بعكس ذاك.. ولا ذاك بنقيض هذا ففي كل وطن منفى وفي كل منفى بيت من شعر..."

 

 

طقوسنا هي حاجتنا نحن.. ليس كعائلة وليس كقبيلة.. إنما حاجتنا كشعب وامة وبشر.
يمر سبت آخر منذ سبت إعلان وفاتك باللغة الأمريكية.. وهذا وقت كثير علينا.
كفاك موتا... لا وقت لدينا للموت.
أنت أنت كما تقول أنت:

"أما أنا، فسأدخل في شجرة التوت
حيث تحوّلني دودة القز إلى خيط حرير
فادخل في إبرة امرأة من
نساء الأساطير
ثم أطير كشال مع الريح"
كفاك موتا..... لا وقت لدينا للموت...


* نص الكلمة التي ألقيت في المهرجان التأبيني للشاعر الكبير محمود درويش يوم السبت 16.8.08 في قرية الجديدة

محمد بركة
الجمعة 22/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع