حقبة من الزّمن .. وحشدٌ غفيرٌ من المُبدعين العُظماء رحلوا عنا في شخص ٍ واحد ٍ إسمُهُ " محمود درويش " ، إجترح من اللغة جمالــها ورقتها وعذوبتها ، فصار لاعب نردها ، لكنهُ لم يخسر أبدا ، بل كانَ يربحُ تباعا ً ، ويعجنُ لغتهِ هذهِ ويشكلها سحرا وألقا بين يديهِ.
أيها الراحل بصيغةِ جمعنا في لوعةٍ واحدةٍ .. أيها الراحل في بطاقةٍ واحدة إسمُها خمسون ألف حُزن ، كيف سنـُربّي الأمل دونك الآن ، وأصصه فارغة من التـراب .. تراب الأرض أنتَ المسكون بتوليفةٍ عذبةٍ من الغياب والمنفى والحيرة والعَودة ، وقصيدة شفافة فيها صفاء اللوحة.
دونك النرجس لن ينظر إلى صورتِهِ في الماء ، لأن أحدا لن ينتبه إلى كبرياء أناتِهِ ، وفاجعة مأساتِهِ ، دونك لا حَجَر يتوضأ في دموع الياسمينة ، ولا جمهورٌ غفيرٌ من السّحاب يقفُ عند باب بيتكَ ليُغطـّيكَ بعباءتهِ البيضـاء ، ويأخذك إلى مسرحٍ مهجورٍ في شوارع منع التجول ويقول هذا مثلنا سحابٌ.
لماذا انشغلت برحيل ٍ طارئ هذه المرّة، ولم تـخبر الحصان بأنـك لن تعود، من سيحكي لهُ عن زهرة البيلسان ، وضرورة الذاكـرة، وإيقاع الزّمان ، من سيحكي لهُ عن عُروق السنديان، وبُرج الحَمام ، ووشم ناعم في الأرجُوان .. ونبتة " الأوركيد " على شـُرفة بيتك في رام الله، مَن سيصب عليها رذاذ الماء !؟.
النسرُ في قصائدك يُدافع دائما عَن وَصفِهِ بأنـهُ جارحا ، والزحام فعلٌ يمشي بهِ الناس على بصيرة ، والزهرُ أبعَد من أن يتفتق لوزا ، والغياب شهيّ عندما يروضـّهُ البشر ، يُصبح فيهِ حدائق وموسيقى وحنين ، وتوق ٌ إلى الوطن ، والبعوضة في مجازكَ طائرة ٌ حربيّة لا تكتفي بمصّ الدم ، بل تزجّ بكَ في معركة ٍ عبثـيّة.
أيها الراحل الباقي ، قلت يوما عن شجرة الزيتون إنها لا تبكي ولا تضحك ، وهي سيدة السّـفوح المـُحتشمة ، وأنت سيد الشـّعر والكلمات والمعاجم ، وزيتونة فلسطين التي تظللها بشغافِ قلبها ، كيفَ تــُصبح كلماتٌ عن صفصافة مُهمَلة على ضفة النهر قصيدة شفافة ، حالمة ، كونيّة ، شاملة ، عند مُحيطها الحَرب والسّلام ، وحروف الأبجديّـة ، والخيال والهوية ، وأخطاء الخريطة ، ويقين الطبيعة ، هي كانت مجرد صفصافة ٍ ، لكنك صممت أن تجعَلَ منها نصّا فيهِ أسطورة.
يا عوليس فلسطين ، يا نسرا ودّعَ قمته عاليا ، يا من حملت الوطن ولوعتهِ وأوجاعهِ بمعاجم العشب وآذار ، وزهرة الجلنار ، وفراشة ٍ فتية ٍ تقفزُ من أزيز الرصاص فجاء مُسترخيا ً في قصائد ناعمة أحبها القريب والبعيد ،الكبير والصغير ، هل ستكتظ ملاعب كرة القدم بعدك بالقادمين لسماع شاعر !؟. هل سننتبه أن للحنين فصلا مدللا إسمهُ الشتاء ؟ ، وأن للوطن أحبة ، يحملون أمواج قوس قزح في صعودهم إلى السماء.
كـُنت قد أوصيت إدوارد سعيد بأنه إذا مُتَّ قبلهُ بأن يُقدم تعازيه لجبال الجليل .. يا جبال الجليل ، سلِمَ فيكِ الصّفصافُ والسّنديان وشوق شاعر لم يرحل وينام !!.
(أم الفحم)
مها فتحي *
الثلاثاء 19/8/2008