أيّـهـا الرّاحِلون في رَجُل ٍ واحد !



حقبة من الزّمن .. وحشدٌ غفيرٌ من المُبدعين العُظماء رحلوا عنا في شخص ٍ واحد ٍ إسمُهُ " محمود درويش " ، إجترح من اللغة جمالــها ورقتها وعذوبتها ، فصار لاعب نردها ، لكنهُ لم يخسر أبدا  ، بل كانَ يربحُ تباعا ً ، ويعجنُ لغتهِ هذهِ ويشكلها سحرا  وألقا  بين يديهِ.
أيها الراحل بصيغةِ جمعنا في لوعةٍ واحدةٍ .. أيها الراحل في بطاقةٍ واحدة إسمُها خمسون ألف حُزن ، كيف سنـُربّي الأمل دونك الآن ، وأصصه فارغة من التـراب .. تراب الأرض أنتَ المسكون بتوليفةٍ عذبةٍ من الغياب والمنفى والحيرة والعَودة ، وقصيدة شفافة فيها صفاء اللوحة.
دونك النرجس لن ينظر إلى صورتِهِ في الماء ، لأن أحدا  لن ينتبه إلى كبرياء أناتِهِ ، وفاجعة مأساتِهِ ، دونك لا حَجَر يتوضأ في دموع الياسمينة ، ولا جمهورٌ غفيرٌ من السّحاب يقفُ عند باب بيتكَ ليُغطـّيكَ بعباءتهِ البيضـاء ، ويأخذك إلى مسرحٍ مهجورٍ في شوارع منع التجول ويقول هذا مثلنا سحابٌ.
لماذا انشغلت برحيل ٍ طارئ هذه المرّة، ولم تـخبر الحصان بأنـك لن تعود، من سيحكي لهُ عن زهرة البيلسان ، وضرورة الذاكـرة، وإيقاع الزّمان ، من سيحكي لهُ عن عُروق السنديان، وبُرج الحَمام ، ووشم ناعم في الأرجُوان .. ونبتة " الأوركيد " على شـُرفة بيتك في رام الله، مَن سيصب عليها رذاذ الماء !؟.
النسرُ في قصائدك يُدافع دائما  عَن وَصفِهِ بأنـهُ جارحا  ، والزحام فعلٌ يمشي بهِ الناس على بصيرة  ، والزهرُ أبعَد من أن يتفتق لوزا  ، والغياب شهيّ عندما يروضـّهُ البشر ، يُصبح فيهِ حدائق وموسيقى وحنين ، وتوق ٌ إلى الوطن ، والبعوضة في مجازكَ طائرة ٌ حربيّة لا تكتفي بمصّ الدم ، بل تزجّ بكَ في معركة ٍ عبثـيّة.
أيها الراحل الباقي ، قلت يوما  عن شجرة الزيتون إنها لا تبكي ولا تضحك ، وهي سيدة السّـفوح المـُحتشمة ، وأنت سيد الشـّعر والكلمات والمعاجم ، وزيتونة فلسطين التي تظللها بشغافِ قلبها ، كيفَ تــُصبح كلماتٌ عن صفصافة مُهمَلة على ضفة النهر قصيدة شفافة ، حالمة ، كونيّة ، شاملة ، عند مُحيطها الحَرب والسّلام ، وحروف الأبجديّـة ، والخيال والهوية ، وأخطاء الخريطة ، ويقين الطبيعة ، هي كانت مجرد صفصافة ٍ ، لكنك صممت أن تجعَلَ منها نصّا فيهِ أسطورة.
يا عوليس فلسطين ، يا نسرا  ودّعَ قمته عاليا  ، يا من حملت الوطن ولوعتهِ وأوجاعهِ بمعاجم العشب وآذار ، وزهرة الجلنار ، وفراشة ٍ فتية ٍ تقفزُ من أزيز الرصاص  فجاء مُسترخيا ً في قصائد  ناعمة  أحبها القريب والبعيد ،الكبير والصغير ، هل ستكتظ ملاعب كرة القدم بعدك بالقادمين لسماع شاعر !؟. هل سننتبه أن للحنين فصلا مدللا إسمهُ الشتاء ؟ ، وأن للوطن أحبة  ، يحملون أمواج قوس قزح في صعودهم إلى السماء.
كـُنت قد أوصيت إدوارد سعيد بأنه إذا مُتَّ قبلهُ بأن يُقدم تعازيه لجبال الجليل .. يا جبال الجليل ، سلِمَ فيكِ الصّفصافُ والسّنديان وشوق شاعر  لم يرحل وينام !!.

(أم الفحم)

مها فتحي *
الثلاثاء 19/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع