غاب محمود درويش على نحو مفجع مثير للحزن والكآبة.
رغم تحذيرات الأطباء ونصائح الوالدة وبقية الأصدقاء، من مغبة إجراء العملية الجراحية الثالثة لقلب محمود المتعب، فإن عشق محمود للحياة دفعه إلى المجازفة بإجراء العملية، انحيازا منه لقدرة العلم على اجتراح المعجزات، ورغبة منه في عدم الاستسلام للموت دون دفاع ما، عن حياته التي لم تعد ملكه الشخصي وحده، بل هي ملك للملايين من أبناء شعبه ومن أصدقائه ومحبيه على امتداد هذا العالم الفسيح.
كان من الممكن أن يستسلم محمود لمشيئة الموت، وأن يبقى حيا لفترة أخرى وفي داخله لغم قد ينفجر في أي وقت مثلما أخبره أحد الأطباء، فلم يتقبل محمود ذلك. مضى إلى العملية الجراحية الخطرة. وقد نجحت العملية بالفعل، غير أن الجلطات الدماغية التي أعقبتها هي التي أودت بحياة سيد الشعراء.
مات محمود، ولم يعد ممكنا صعوده درجات مبنى السكاكيني في رام الله متقدما نحو مكتبه. لم يعد ممكنا تصفحه للصحف في المكتب الذي داوم فيه سنوات عديدة، ولن يشرب مزيدا من القهوة وهو يقرأ الصحف ويتلقى هواتف الأصدقاء، أو وهو يستقبلهم في مكتبه. يرحب بهم بكل ما عرف عنه من حيوية وتوهج وتهذيب، ثم يندمج معهم في أحاديث شتى عما هو راهن من أحوالنا، وعما هو موجع للقلب، وسيكون ثمة وقت للكلام على الأدب، على الشعر والرواية والقصة القصيرة وآخر الكتب، وسيكون ثمة وقت للمزاح وللسخريات، وسيكون محمود سيد الساخرين وأمير المزاح الظريف. ستكون ثمة فسحة للضحك، وستلتمع عينا محمود خلف نظارتيه الطبيتين في صفاء، وسيكتسي محياه بمسحة من ألق ورونق وبهاء.
واأسفاه، لم تعد كل تلك البساطة المحببة ممكنة.
ولم يعد ممكنا ذلك المشوار اليومي الذي اعتاد محمود أن يقطعه وحده أو مع بعض الأصدقاء، في شوارع الحي القريب من بيته، انصياعا لنصائح الأطباء بضرورة ممارسة المشي حفاظا على القلب من طارئ ما. لم يعد ممكنا لمحمود أن يتأمل شجر الطريق ولا المارة ولا غسيل الشرفات، ولم يعد ممكنا أن يرى الشمس وهي تغطس ناحية الغرب على مسافة، من القرية التي شهدت صرخته الأولى في آذار البعيد. أو أن يستمتع بهواء البلاد الذي يهب رخيا، رغم المستوطنة التي تجثم على رأس الجبل القريب.
غاب محمود، وما الذي لم يصبه النقصان جراء هذا الغياب! لا المكتب سيبقى على الحالة التي كان عليها يوم كان محمود هناك، ولا الشارع ولا الحي ولا المقهى ولا الصحيفة ولا الكتاب، ولا القضية ولا الشعر ولا نبات الأرض ولا غيم السماء، ولا كل من كان يحيط بمحمود من بشر وأصدقاء.
غاب محمود في لحظة قاسية مؤلمة، وليس ثمة من عزاء إلا في ما تركه من إرث إبداعي مدهش خلاق، ستظل أجيال وأجيال تنهل منه قيم الوطنية والحق والنبل والخير والجمال، وسوف يظل محمود حيا في القلوب وفي العقول على مر الزمان.
محمود شقير
الأحد 17/8/2008