- مقتطفات من الحوار الذي أجري مع محمود درويش في رام الله عشية أمسيته الشعرية في حيفا، في 15 تموز 2007، لصحيفة "الاتحاد" وفصلية "مشارف" -
*العودة إلى الكرمل*
من الصعب عليّ أن أحدّد شعوري منذ الآن عندما سأواجه أبناء شعبي في مكان يحتلّ مكانة خاصة في شعري وفي ذكرياتي، وهو مدينة حيفا. من الطبيعي أن يكون الشعور الأول الذي أحمله الآن هو شعور باللهفة، وشعور بالخشية أيضًا. تمتزج الخشية باللهفة لأن الزمن الذي فصلنا عن بعض زمن طويل، كبرتُ فيه بطريقة ما، وأبناء جيلي كبروا بطريقة ما، ونمت أجيال جديدة لم يحصل من قبل احتكاك بحساسيتها الشعرية...... أرجو أن تكون المسافة الجغرافية بيني وبين قرّاء الشعر الذين سألتقيهم في حيفا مسافةً وهمية، وان يكون التطابق كاملا بين ما أحسّ به وما يحسّون به، وبين حساسيتي الشعرية وحساسيتهم الشعرية.
أكثر مكان موجود في نصّي الشعري وفي تكويني الثقافي هو حيفا.. فيها عرفت كل أنواع التجارب الأولى وترعرعت شخصيتي الشعرية والثقافية والسياسيّة |
لقد عشتُ في حيفا عشر سنوات كاملة، وفي حيفا عرفت كل أنواع التجارب الأولى: تجربة الكتابة، تجربة النشر، تجربة العمل الصحفي، تجربة السجن، الاعتقال المنزلي والإقامة الجبرية.. في حيفا ترعرعت شخصيتي الشعرية والثقافية والسياسيّة، أيضًا. وبالتالي أستطيع أن أعتبر أن أكثر مكان موجود في نصّي الشعري وفي تكويني الثقافي هو حيفا، بدون شك. صحيح أنني لم أولد في حيفا، وحيفا ليست مدينتي، لكنها مدينتي بالتبنّي؛ تبنيتُ حيفا مثلما احتضنتني هي كواحد من أبنائها..
درويش يحاور الزملاء رجا زعاترة وبشير شلش وهشام نفاع، في مكتبه في رام الله (بعدسة: سهام داوود)
كل الذين عملت معهم في "الاتحاد" قد رحلوا: إميل توما وإميل حبيبي، صليبا خميس، محمد خاص، توفيق زيّاد، عصام العباسي وعلي عاشور. لم يبق من هم أحياء سوى توفيق طوبي الذي أتمنى له عمرًا مديدًا. ما زلت أذكر المكان: كان مبنى الجريدة عبارة عن غرفتين فقط أمامهما ساحة في شارع مار يوحنا. الذين عملت معهم وتعلمت منهم كثيرا غابوا جميعًا، للأسف الشديد.
*بشارة المقاومة*
لا شك في أن أدب المقاومة قام بدور تبشيريّ وحمى الجماهير العربية في إسرائيل من تهم وطنية كثيرة كانت ستلحق بهم. لأن العالم العربي كان ينظر إلى العرب في إسرائيل نظرة سلبية، وعندما وصل هذا الشعر إلى العالم العربي تغيّرت النظرة إليهم وأصبحوا يُعاملون كوطنيين ومقاومين. بهذا المعنى قام أدب المقاومة بدور تاريخي لا يمكن إخفاؤه، وهو أنه غيّر أو أجرى تعديلاً على صورة العرب في إسرائيل عند أشقائنا العرب في الخارج.
أعتقد أن التيار السائد عند الجماهير العربية في إسرائيل أنهم لم يتخلوا عن وعيهم بقوميتهم وحقوقهم القومية، ومن أجل ألا يخسروا هذه الحقوق وهذا الانتماء قبلوا بأن يتعاملوا مع الدولة الإسرائيلية كمواطنين فيها يطالبون بالمساواة مع سائر المواطنين. إذًا، أنشأوا توازنًا بين الوعي القومي ووعيهم كمواطنين. لكن هذه المعادلة لا تستقيم دائمًا (.....) باعتقادي أن هذه الهوية ستبقى متوترة إلى أن تُحل القضية الفلسطينية. وما لم تحل القضية الفلسطينية سيبقى التأزّم في محتوى هذه الهوية الملتبسة، وهي فعلاً ملتبسة.
*المقاومة والحداثة*
ما سُمّي بشعر المقاومة، سمّي بالمصادفة. عندما كنا نكتب شعرًا لم نكن نعرف أننا نكتب شعر مقاومة. كنا نعبّر عن حياتنا وهمومنا وعن حبنا لبلادنا وللأشجار ولصديقاتنا وللحياة، دون أن نعرف أن هذه النصوص تسمّى شعر مقاومة.
شعر المقاومة بهذا المعنى احتلّ مكانةً كبيرة في الوجدان العربي الخارج من هزيمة 67. وبالتالي احتلّ مكانةً معنوية أعلى من مكانته الأدبية. وتذكرون أنني كتبتُ في وقت مبكّر، في العام 68، مقالتي الشهيرة "إرحمونا من هذا الحب القاسي". كنت أشعر أن هذه موجة عابرة. موجة انتقام الذات العربية من هزيمتها باللجوء إلى أي صوت يأتي من داخل إسرائيل ليعطيها الأمل بالصمود والانتصار. وفعلا هذه الموجة عبرت بسرعة. وتعرّض الفلسطيني في ما بعد لمحاكمات مضادة؛ طُردَ من الحداثة الشعرية العربية.
(..) أنَّنا فلسطينيون فهذه بديهية، وأَنَّنا عرب هذه أيضًا بديهية، أمّا عندما يجري التأكيد عليها دائمًا في الأدب فهناك، باعتقادي، نوايا نقدية غير بريئة لإخراج هذا الأدب من التراث الأدبي العربي. لا أحب كثيرًا أن أُسمّى الشاعر القومي أو الوطني. صحيح أنا فلسطيني، وأنا فخور بذلك، لكن هذه التسمية توجِّه القارئ لقراءة مستوى ما فقط من شعري، وهو أنني أعبّر عن القضية الفلسطينية. نعم، شعري يعبّر عن القضية الفلسطينية ولكن على النقاد أن يتعاملوا مع شعري أولا على أنه شعر ثم يسمّى مقاومة أو غير مقاومة.. ما يشاءون. يجب أن يتم التعامل مع الشعر الذي يكتبه الفلسطينيون على انه شعر أولا، ومن الطبيعي أن يحمل هذا الشعر البعد الوطني والقومي وكل المسائل المرتبطة بتعريف الهوية.
*ماذا يقول لنا الشعرُ*
عندما نتكلـّـم عن دور الشعر، نتكلـّـم كلامًا افتراضيًا.
من يقرأ الشعر؟ يقرأ الشعر من هو قادر على القراءة، ومن عنده إمكانيات ثقافية لفهم الشعر، ومن يحب الشعر. أما القول إن الشعر كالخبز وكالهواء فهو حلم، حلم أقرب إلى الوهم.. "يا ريت"، لكن ليس ثمّة فنّ هو كالخبز والهواء.
دور الشعر ليس آنيّا (...) دور الشعر برأيي هو إنتاج الجماليات وتطويرها، وأن يغيّر باستمرار مفهوم الشعر، نحو الأفضل ونحو الأعمق، ونحو ما لا نعرف. هو انفتاح دائم على الحريّة. وأسوأ ما في الشعر وأكثر ما يضره هو التكرار، تكرار ما قيل، وأسوأ أنواع التكرار ليس تقليد الآخرين بل تقليد الذات. قد يبدو لنا أنّ الشعر في مرحلة ما كان يقوم بدور أكبر، لكن هذا الشعر الحماسي والتحريضي فيه قليل من الشعر. وعودة لسؤالكم: هكذا كنا نعرف. كنا نكتب ببراءة تامة وعفوية تامة، لكن الزمن والتثقيف الدائم للذات يجري تغيّرات على طرائقك التعبيرية وعلى أسلوبك التعبيري.
*الجيل الجديد*
أعتبر أن جيلي هو جيل "سلاح الهندسة" في الشعر الفلسطيني. نحن قدّمنا ما يسمى "الواجبات الوطنية" ودافعنا عن تاريخ هذه الأرض وعن تاريخ هذا الشعب. قدمنا كل البراهين المطلوبة لنقول اننا شعب له الحق في الحياة. أي قدّمنا من الإيديولوجيا ما يكفي. فالجيل القادم عليه أن ينتقل لحقل آخر. ليس حقلا مضادًا (...) هذا جيل يجرّب. وأنا أحب عبثيته. يجب أن يعبث وأن يكسّر حتى ننتبه له. هذا أولاً. ثانيًا، التمرّد ميزة لجيل الشباب. أي شاب غير متمرّد لا يمكن أن يكون شابًا، هذا عجوز مبكّر. يجب أن يتمرّدوا علينا وعلى أنفسهم، وعلى أهلهم وهويتهم ووطنهم. هذا دليل حيوية، لأنه إذا فقد هذا الجيل الغضب أو التمرّد يكون قد شاخ مبكّرًا. هذه المشاغبة جميلة.
*مقتل النصّ*
شكوت من الترميز عدة مرات، لكن الشكوى الآن ليست من القراء بل من بعض النقاد الأكاديميين ممن لديهم إفراط في التأويل السياسي للنص الشعري. تصوّروا مثلا أن أستاذًا جامعيًا كتب دراسة أكاديمية حول "جدارية"، وكانت لديه قدرة على الترميز بحيث اعتبر أن الشخص المريض في "جدارية" هو القضية الفلسطينية، وليس الشاعر. أي أنه لا يستطيع قراءتي خارج الترميز السياسي، خلافا للقارئ العادي. صحيح أنه يوجد في كل نص عدة طبقات من المعنى، لكنها ليست سياسية كلها. حين أكتب قصيدة وجودية عن الحياة والموت والخلود، كيف يجرؤ ناقد أكاديمي على أن يرى فيها القضية الفلسطينية، والجواب: لأنه يصعب عليه أن أتكلم من خارج القضية الفلسطينية، وهو يريد أن يسجنني في لغة السياسة. إذًا، أنا لست ضحية لكنني أشكو من الإفراط في الترميز السياسي. إن التركيز على قراءة واحدة للقصيدة، سواء أكانت سياسية أم نفسية، يقتل النص الشعري.
السبت 16/8/2008