كان اللقاء الاول في الفاتح من ايلول 1956، وفي مدرسة كفر ياسيف الثانوية، قبل ان تحمل اسم طيب الذكر يني يني، لنكون تلاميذ في صف واحد طيلة اربع سنوات متتالية، في هذه القلعة الوطنية الخالدة التي خرّجت المئات من ابناء شعبنا الفلسطيني، ليحملوا مشاعل الحرية، الكلمة الصادقة، ومواجهة السلطة الغاشمة تحت وطأة الحكم العسكري البغيض، الذي ما زال ورثته وعكاكيزه واذنابه وعملاؤه يعيشون فسادا وخرابا في قرانا العربية الابية، محاولين تجزئتها الى طوائف وقوميات وشعوب، وكأنه لا رابطة وطنية، قومية، ثقافية، تاريخية ومستقبلية بينها.
كان ذلك الشاب الوسيم، بالبنطال القصير، مع عشقه لعبد الحليم حافظ، وبشكل خاص لأغنية: حبك نار، بعدك نار، قربك نار، نار يا حبيب نار، مش عايز اطفيها، خلي قلبي مولع فيها..!!
محمود سليم درويش كان على استعداد لمصادمة ومواجهة كل من يجرؤ على الجهر بصوته ويقول: انه لا يحب اغاني وصوت عبد الحليم!!!
كنا جيران السكنى هناك مع مجموعة من الزملاء الاتراب: محمد علي طه، سالم جبران، يوسف شنان، محمود يتردد علينا كلاجئ في دير الاسد ومن ثم في الجديدة.
اوائل بواكيره الشعرية كان ينشرها في الصحف المحلية، وعلامات النبوغ الواعد تلوح على محيّى هذا الشاب، رغم هول النكبة، التهجير والتشريد، واذا بمحمود يشتد عوده، يرفع هامته، تنتصب قامته مع عصافير بلا اجنحة، ولتنمو لها الاجنحة الخفاقة الخلاقة المحلقة عاليا، في سماء الوطن والغربة رغم الشجن.
عبث الفتية الشبان مع بعض المعلمين وتدبير المقالب لهذا المربي او ذاك، واحترام مدير المدرسة الاول، طيب الذكر مطانس مطانس "البوسناني" الوطني المتوهج، وعشية الحرب والعدوان الانجلو – فرنسيلي على مصر ام العروبة، مصر عبد الناصر وليس ايتام تالي زمان، الذين لا هم في العير ولا في النفير، في عهد رعاة الابقار!!
يد الحكم العسكري الطويلة تتطاول على هذا المدير الشهم وبمكائد مفتعلة من قبل بعض التلاميذ السذج، دبرها الاسياد الاوغاد، للاطاحة بهذا المدير الوطني وتنصيب المرحوم عبد العزيز لويا "ابو سعد" اليهودي العراقي بدله. فيصبح مطانس مطانس معلما، ولكنه يواصل مسيرة العطاء لهؤلاء الطلاب العطاس الذين اتوا من مختلف القرى الجليلية والكرملية معا، لينهلوا من عين/نبع/كفر ياسيف المدرار. وتشاء الظروف ان نتخرج بعد 4 سنوات لينصرف كل الى طريقه طبقا لميوله، وما خطط له في تلك الظروف الحالكة، ولم تلتق وجها لوجه الا على صفحات المجلات والجرائد الحزبية وبشكل خاص: الغد، الجديد والاتحاد اطال الله عمرها المديد لتبقى سنديانة الدار وحامية الذمار في غزوات ذي قار، هذا الطائر الكنار المغرد انغام بلابل وحساسين هذه الديار، التي كانت عامرة بأهلها وحجارتها وبساتينها، رغم ما يقوله دعاة الصهيونية الكاذبين: شعب بلا ارض يعود لأرض بلا شعب! وكان الاربعمائة وثماني عشر قرية مهجرة قسرا وعنوة، لا هي في العير ولا في النفير، ومن ضمنها البروة، ميعار، الدامون، والقائمة طويلة، عدا عن المائة قرية الرازحة المتشبتة بزيتونها وصبارها والمدن المختلطة حولها. كمربين في حقل التعليم التقينا الشقيقين احمد وزكي اللذين ادارا ثانويتي المكر-الجديدة وشعب، احيانا وجها لوجه واحيانا على صفحات الدوريات كما هو الامر مع محمود واسطة العقد بينهما.
* باق في البروة*
طيب الذكر، الكاتب الفذ اميل حبيبي اوصى قبل رحيله، ان يكتب على ضريحه: باق في حيفا، ولعمري بأنّ هذا الحلم، هو الذي راود محمود درويش خريج مدرسة توفيق طوبي، وتوفيق زياد، واميل توما، واميل حبيبي في الحزب الشيوعي والجبهة والمنابر المتألقة، بعد ان سبق وتخرج من مدرسة يني يني. كاحتراق الشمعة ورحيل راشد حسين محمود في الغربة، هكذا يرحل محمود الذي تزوج القضية بعد ان تزوح عليها طيب الذكر ابو عمار جالبا لها الضرّة المرة، فبقي محمود متعنسا مستنكفا عن الزواج وبناء اسرة صغيرة كالآخرين، لأنه رأى في كافة الفلسطينيين في الداخل والخارج هم اسرته، عزوته، اهله، اترابه، انجاله، احفاده وذريته التي لا تعد ولا تحصى (خمسة في عين الحساد).
العلاج القسري في تكساس ورعاة الابقار هناك، يشاطرون رعاة الابقار في مستوطنة "احيهود" المقامة على اراضي البروة الناطرة الصابرة، لتدنيس حرمة مقابر البروة المسيحية والاسلامية معا، وكأن الدنيا ضاقت في وجوههم، وما اكتفوا بما نهبوه وسلبوه ودمروه فيمدون اياديهم الطويلة الى هذه المقابر، لينالوا من قدسيتها وقدسية خوري البروة، خوري المسلمين قبل المسيحيين، خوري البلد بغض النظر عن حنا، الياس، جورج ومحمد، مصطفى وعلي.
كتبوا لك يا محمود، يا من حننت الى قهوة امك وخبز امك زيتون امك وابيك يباع بالمزاد العلني يا محمود، المعهود بكسر القيود في عصر الجمود والقهر والقمع القومي. انت باق في البروة، رغم انوف الحاقدين الشامتين: الروح، النفس، الشعر، الوطن، الاحاسيس والمشاعر حتى لو واروا جسمك بعيدا في رامالله – فالوطن كله البروة البارة الصابرة.
*خراب الهيكل*
صديقة يهودية، من احدى القرى التعاونية غير البعيدة عن البروة مسقط رأسك، قالت لي حين نقلت لها خبر رحيلك، ومع كثير من الالم والحسرة، وهي تعرف الاسرة في الجديدة، هل هي صدفة ان ترحل يوم ذكرى خراب الهيكل، وذكرى صوم التاسع من آب طبقا للتقويم العبري، ومضت قائلة معزية، الامر ليس صدفة، بل ليذكر الشامتين الساخطين: ها هو علم الحرية وكاتب وثيقة الاستقلال الفلسطينية، الذي أبى ان يكون وزيرا للثقافة، ليتفرغ الى الابداع الحق وتسليط الاضواء العالمية على الجرح الفلسطيني النازف دما احمر نقيا، كدم ابراهيم الخليل، ابي الانبياء واول مسلم جنيف على وجه المعمورة.
نطمئن الصديقة اليهودية ونطمئن شعبنا الأبي الشهم الذي انجب محمودا، ان هيكل الشعر والنثر الذي شيد صرحه محمود، عاليا، شامخا محلقا، لن يتداعى، لن ينهار. بل سيزداد شموخا وعنفوانا مع هذه السواعد المفتولة، رغم الاقتتال والاحتراب الاخوي الدامي، تربعت وستبقى متربعا على هذا العرش الهيكل، ليس بوطنيتك وقوميتك وحسب، بل وبالقصائد الغزلية المتناثرة هنا وهناك في مختلف دواوينك، وان صعب عليك ان تفصل بين فلسطين والفتاة، كل واحدة هي الاخرى، فلسطين هي الفتاة والفتاة هي فلسطين، كما البروة هي فلسطين، وفلسطين هي البروة، والجامع هو الكنيسة في قدسيته، وآثار القدم الهمجية المدنسة هي نفسها في القدس، بيت لحم، الخليل، البروة وميعار وبقية الديار والصبّار.
الزيتون، الصبار، الزعتر، الميرمية، الزوفا، الاقحوان وشقائق النعمان ما زالت تشمخ في الربيع وعلى مدار السنة في البروة وغيرها قائلة: هنا باقون!!
*سقط قمر من احد عشر كوكبا*
هكذا نعى التلفزيون اللبناني "الجديد" رحيل محمود درويش الابن البار للبروة والوطن، حين تزاحمت العبرات مع العبارات على محيى المذيعة اللبنانية الرقيقة.
تلفزيون دمشق الغالي، كسوريا الكبرى، سوريا الثقافة، المجد والادب قدمتك ببث حي مباشر وكأنك بيننا، وستبقى بيننا لتؤكد للجميع في طوق الحمامة الدمشقي:
في دمشق/ تطير الحمامات/ خلف سياج الحرير/ اثنتين/ اثنتين
في دمشق/ ارى لغتي كلها/ على حبة القمح مكتوبة/ بإبرة انثى/ ينقحها حجل الرافدين
في دمشق اتطرّز اسماء خيل العرب/ من الجاهلية/ حتى القيامة/ او بعدها/ بخيوط الذهب
ومضيت مع دمشق الخالدة في نفوس الملايين اثنتين وعشرين مرة، ربما لتذكر اثنتين وعشرين شقيقة/ اخت/ ابنة خالة/ ابنة ضرة او بدوقة ، ان دمشق هي الشرعية، الوفية، الابية، السخية، مختتما ذلك بهذا النداء الدمشقي:
في دمشق/ يغني المسافر في سره/ لا اعود من الشام/ حيا/ ولا ميتا/ بل سحابا/ يخفف عبء الفراشة/ عن روحي الشاردة.
هكذا يا محمود، يا ابا سليم، رغم ان سليما، سليمك، عزف عن لاقدوم الجهري. ليبقى ناطرا، ساهرا جاهزا على اطلال البروة، لينادي الصديق حنا ابراهيم، قلاع الحجارة من مقالع البعنة الغنية السخية، ليجهز لك ضريحا، صرحا، هيكلا كذاك الذي يليق بالابطال الميامين في اولى القبلتين وغزة هاشم، وجبل النار، وجنين جنين مع محمد بكري، الذي كسر الاطواق الفولاذية، لينادي ابناء عمومتنا في تل ابيب بالذات: اننا هنا باقون، باقون، شئتم ام ابيتم، طوعا او قسرا.
*لا تعتذر عما فعلت*
محمود لا يعتذر لأحد، وبالمقابل على الآخرين ان يعتذروا له، ان يطلبوا صفو خاطره، عما فعلوه له، لأسرته، لقريته، لشعب، لوطن، لانسانيته ولأمميته معا، هاك تشدد عاليا، زاهيا، نافيا، مع هذا التشكيك والتخبط ولاضياع ومحاولة طمس معالم الهوية الوطنية الفلسطينية، لتؤكد للجميع:
لا تعتذر عما فعلت، اقول في/ سري، اقول لآخري الشخصي:
ها هي ذكرياتك كلها مرئية/ ضجر الظهيرة في نعاس القط
عُرف الديك/ عطر المريمية/ قهوة الأم/ الحصيرة والوسائد
باب غرفتك الحديدي/ الذبابة حول سقراط/ السحابة فوق افلاطون
ديوان الحماسة/ صورة الاب/ معجم البلدان/ شكسبير
الاشقاء الثلاثة، والشقيقات الثلاث/ واصدقاؤك في الطفولة والفضوليون "هل هذا هو"؟ اختلف الشهود/ لعله وكأنه، فسألت: "من هو؟" لم يجيبوني، همست لآخري: "أهو/ الذي قد كان انتَ... انا؟" فغض الطرف، والتفتوا الى امي لتشهد/ انني هو... فاستعدت للغناء على طريقتها: انا الأم التي ولدته/ لكن الرياح هي التي ربته.
قلتُ لآخري: لا تعتذر الا لأمك!!
كذا انت انتَ، انتما، انتم، نحن، هم، هن، الواحد من الكل والكل في واحد، نشد ازر بعضنا البعض، رغم الشتات، الغربة، الامراض، الداء، الدواء وعدم الشفاء تعرج على ابي الطيب وابي تمام، ونزار، والجواهري والسياب وتلك الملائكية الراحلة النيزكية الباقية في بلاد الرافدين، رغم آثار القدم الهمجية لبوش المنحوس المتعوس، واذنابه وزعانفه في محور الشر الحقيقي الذي يقتل القتيل ويمشي في جنازته، ما عند قريش خبر.
*بين شطري البرتقالة*
البرتقال اليافاوي والشموطي، والذي يحاولون طمس اسمه ومعالمه وطعمه، فحينا يسمونه "فلنسيا"، واشنطن، فرنسي، ابو صرة وغير ذلك من العدوان العلني على هذا التراث الزاخر الفاخر، ليس في يافا وحيفا وحسب بل من المطلة حتى ايلة، ومن البحر حتى النهر، وزميلك، صديقتك، صنوك، سند ظهرك، يقاسمك يشاطرك البرتقالة والحز في الثمرة الواحدة، رزق العرب مشترك، وابو زيد قسم العصفور الى اربعين فارس وفارس!! فكيف الأمر بسميح الفصيح، والذي يتذكر اغتيالات ورحيل حبات من العقد في ظروف غامصة قاهرة، مشبوهة الايدي التي تقف خلف رحيل هؤلاء من غسان كنفاني العكاوي، الى كمال ناصر، كمال عدوان، راشد حسين وغيرهم من قافلة الوطنيين الاحرار في هذه الديار.
شاعرنا الفارس الذي لن يترجل ولن يرحل، لست وحدك الذي تناجي وتناغي دمشق الخالدة، على منابر العالم، ها هي كاتبة اسرائيلية يهودية سورية اسمها إستر حلواني، قدمت الى البلاد، وما زالت تصر على هويتها فتكتب مذكراتها وبالعبرية بالذات تحت عنوان "دمشق مدينتي" وتحدثنا، وتحدث اليهود رغم حملات التضليل والتهويل عن جبل الصالحية، السوق الطويل، سوق الجوخ (الجوايخية)، مسجد القلعة وصلاح الدين الايوبي، والاستقلال الثقافي الذي تمتع به يهود سوريا عامة، وتحدثنا عن الصناع والتجار، والسجاد، والشباب المهذب هناك. حتى الدكتور اليهودي الشامي من آل الحمرا، الذي قدم الى بلاد السمن والعسل، يعترف بعظمة لسانه: اكبر خطأ تاريخي ارتكبته تركي لمدينتي دمشق الشام وقدومي الى هذه الديار!!
*حصار لمدائح البحر*
من كثرة الاشجار وكثافتها يصعب علينا رؤية الغابة الكثيفة، ومن كثرة اشعارك دواوينك، مضافاتك، قهوتك، وشاي الزوفا والميرمية ودقة العدس، يصعب علينا الاختيار، بدك تحيرو خيرو"، انت تحيرنا فعلا في كثرة خياراتك التي تخترق الحدود ولا تعتذر لأحد:
لماذا تركت الحصان وحيدا، مع اوراق الزيتون وعشاق فلسطين آخر الليل، حبيبتي تنهض من نومها، العصافير تموت في الجليل، احبك او لا احبك، محاولة رقم 7، تلك صورتها وهذا انتحار العاشق، مديح الظل العالي، ورد اقل، ملهاة النرجس ملهاة الفضة، ارى ما اريد، احد عشر كوكبا، والقائمة طويلة جدا جدا اطول من طول البلاد وعرضها واكثر من قرانا المهجرة النازحة والرازحة.
أخانا محمود، معنا موجود، رغم القيود والحدود:
في المساء الاخير على هذه الارض نقطع ايامنا
عن شجيراتنا، ويغدّ الضلوع التي سوف نحملها معنا
والضلوع التي سوف نتركها، ههنا.. في المساء الاخير
لا نودع شيئا، ولا نجد الوقت كي ننتهي
كل شيء يظل على حالة، فالمكان يبدل احلامنا
ويبدل زواره، فجأة لم نعد قادرين على السخرية
محمود الباقي: سجلنا وسيسجل ابناؤنا واحفادنا: انا عربي... ونحن الى قهوة الوالدة ام سليم، امنا جميعا، على اجنحة العصافير، عصافير الجنة، وسجلنا خطبة "الهندي الاحمر" ما قبل الاخيرة، امام الرجل الابيض، حجر كنعاني في البحر الميت، عندما يذهب الشهداء الى النوم اصحو، وأحرسهم من هواة الرناء، اقول لهم تصبحون على وطن، من سحاب ومن شجر، من سراب وماء.
نمر نمر
السبت 16/8/2008