اليوم تغلقُ القصيدةُ بابَها عليها وتنعزلُ في ركنٍ للبكاء على محمود درويش.
تكتب القصيدة نفسَها بنفسها هذا اليوم، وتكملُ السيناريو وحدها، إخلاصًا لمن أخلص لها العمر كلّه.
وتجتمع المفرداتُ بدلالاتها الجديدة اليتيمة للبكاء...
وتنحني علامة السؤال في العنوان منكسرةً، ويتجمّد الحصانُ وحيدًا في مكانه مُنتظرًا مرّة أخرى عودةً أخرى.
تكتب القصيدة اليوم نفسَها بنفسها بالبكاء!
اليوم، يحضرُ المتنبّي والسيّاب والماغوط وسائر الشّعراء الراحلين الطيّبين، الشعراء الحقيقيين..
يحضرون من كل زمانٍ ومكان..
يحضرُ هؤلاء جميعًا لملاقاة درويش في الضفّة الأخرى.
اليوم، يحضر المتنبّي، صديقُك في يومك وموتك، شخصيًا، مرّتين، في صورة موته/ك: "وإذا لم يكن من الموت بدّ.." فسأذهبُ إليه لأموتَ دون أن يتربّص أحدٌ للآخر، إذ "إنّ الموت مثلي لا يحبّ الانتظار".
فكان موتُك صيغة جديدة لخيار المتنبي مواجهة ما لا بدّ منه، خصوصًا وأنّ ريح المتنبي، أيضًا، سواء أكانت تحتك أم في قلبك، قاتلة هي! فاخترتَ ما اخترتَ: القضاء على القلق (والموتُ الحتمي شأنٌ ثانويٌّ!).
واخترتَ ما اخترت:َ فإمّا أن ترى أيّامك أوضح أو لا تكون.. وإمّا أن تكون الحياة كاملةً أو فليكن الموت الناقص الذي لن يكتملَ أبدًا، لأنّ شعرَك سيبقى يقظًا ليل نهار مثل حرّاس القلاع، ولأنّ شعرَك سيروي الـ 25 سم الباقية لزهر فوضويّ اللون على قبرك، فيشربك الزهرُ على مهلٍ، ويفتّح فيه جمال عينيك إلى أبد الآبدين..
ففاجئ موتك وما بعد موتك كما فاجأتنا في كلّ قصيدة جديدة.
هناك حيث أنت ذاهب سيسألك سيد الموت القادم من بيروت، أما زلتَ حيًا؟!.. أولم تمتْ في بيروت؟!
سيسألك سيد الموت القادم من رام الله المحاصرة: ألم تختنق وتمت في الحصار؟!..
وسيسألك سيد الموت القادم من مستشفى القلب الأول والثاني: أولستَ أنت الذي متّ فوف غمامٍ أبيض.
وستجيب بتواضع: نعم أنا هو.
- إذا كنت قد متّ قبلاً فأين إذًا كنت؟
- كنت في جولة مع المعرّي في رسالة الغفران!
***
محمود درويش أيّام عادَ لزيارتنا في حيفا خلق الحيّ المُمكن بيننا، ثم مضى وابتعد. لم نكن نعلم أنّ اللقاء بك في حيفا سيكون لقاءك الأخير مع حيفا، أيضًا...
اليوم فقط ندرك أنّنا كنّا نلهو بأشياء غير مُهمّة، بينما كان لاعب النرد يلعب لعبته الجدّية الأخيرة مع الموت.. وكان يفاوضه حول كلّ شيء حتى التفاصيل الصّغيرة.
***
سامحْنا أيها الشاعر الساحر، سامحنا. لقد أوشكت الفتنة أن تقع بين رام الله والجليل. ورام الله جميلة والجليل جميل. تلك تقول إنّه رمزٌ وهو ليس لأحد لأنّه لكلّ أحد وأنا هي أم النهايات، وذلك يقول إنّه من ترابي وأنا أبوه وأمّه وأم البدايات كلّها..
سامحْنا لأنّ حساباتنا السياسيّة كانت مثقوبةً، وسامحْنا لأنّنا لم نعد إلى شعرِك، ولم ندقّق في نثرِك، بحثًًا عن قبرِك، ولم نولِ اهتمامًا لوصول صاحبة التعاليم إليك في الصباحات، لكي تروي مساحة الزهر الصّغيرة بيديها...
سامحنا لأنّنا لم نكن أكثرَ من مهرجانيين وبروتوكوليين.
سامحنا يا مربّي الأمل..
سامحنا يا أجمل الشعراء...
***
اليوم، الثالث عشر من آب، ثمّة قلبان يموتان معك في صمت يوم ميلادهما!.
***
وداعًا يا عاشق البروة والكرمل وحيفا.. وداعًا يا عاشق فلسطين..
وداعًا يا عاشق الكامل والمتقارب والمتدارك وسائر البحور.. وداعًا يا عاشق الشعر..
وداعًا أيّها الرشيق، الأنيق، الدقيق
وداعًا أيها الشاعر الحقيقي.. أيها البريق والطريق..
وداعًا..
شربل عبود
السبت 16/8/2008