الأصل اللاتيني لكلمة Disaster ليس إلا Dis-star ، أي غياب النجم. والذي أضاع نجمه فقد بوصلته وسياقه، ولا معنًى خارج السياق، وهذا هو الكابوس بعينه. خسرنا اليوم نجماً كانت بوصلته تدلّنا إلى فلسطين، وإلى الشعر والجمال.
منذ عملية القلب الأخيرة، وأنا أخشى قدوم هذه اللحظة. هكذا هو الأمر عندما نحب، نخشى الخسارة، القلب هشّاً، قابلاً للانكسار كالبلور على الرخام. لكن، كيف تعدّ قلبك لموت مفاجىء؟ كيف تدرّبه على الخسارة قبل موعدها؟ وأي احتياطات بوسع القلب اتّخاذها في انتظار شبح موت قادم من بعيد؟ هذه هي طبيعة القلب، يقودنا ولا نقوده، ويرفض محاولات التدريب والترويض، ويأخذنا إلى النهايات المفتوحة بحلوها ومرّها.
سأعتذر لك عن بعض ضحالتي اللغوية، وبعض الافتقار للأصالة. لا أستطيع أن أكتب عنك إلاّ بكلمات مضمّخة بعطر لغتك، موشومة برسمها، مستعيناً باستعاراتك، ومتّكئاً على مجازك. صحيح أنّه بعد أن فاض نهرك، واتّحد في بحر اللغة، أصبحت الكلمات والمعاني جزءاً من هذا البحر وملكاً للعامة. لكن فيضك كان كبيراً، إيقاعه خاص، ونكهته مميزة، ولا يستطيع السابح فيه ، إذا كان نظيف النيّة، إلاّ أن يتعرف على ملامح لغتك، وأن يستشعر رائحة النهر في البحر، وأن يرى ألق النبع. من الصعب على نفسي أن تتعرف إلى نفسها، وعلى لغتي أن تجد مفرداتها، دون أن تتورط في عالم المعاني الذي شاركت في صنعه بقلم وورقة.
كيف نفهم المنفى، بمعزل عن روايتك ورحلتك الشخصية، وما قلته في المنفى وعنه، وعن الهنا والهناك؟ كيف نغرس في الوجدان حرب لبنان الأولى والكينونة الفلسطينية، وشعور الوحدة والتيه دون "مديح الظل العالي" و "ذاكرة للنسيان"؟ كيف نؤسس لحقنا في الوجود دون سجالاتك الذكية؟ dكيف نشرب قهوتنا دون أن نستذكر غزلك في القهوة، وكيف لا نتبارى في حمل صينية القهوة لأن "حامل القهوة، حامل الكلام"؟ كيف نمرّ بمطار دون أن نستذكر "مطار اثينا"، وكيف سيكون الكرمل الذي لم تتوقع ميتة أحلى وأسمى وأشهى من ميتة فيه، وكرّست حياتك لترسّخ اسمه في الذاكرة عبر مجلة "الكرمل"؟ كيف نغازل المرأة الجميلة دون أن نسمع همسك الناعم: " وانتظرها... بصبر الحصان المعدّ لمرتفعات الجبال"... و "بذوق الأمير البديع"؟ كم من الصبايا سيفرحن لأنّهن يحملن اسم "ريتا" ولهن قصيدة حب حاضرة؟ كيف نراقب الفراشات بحياد شاعري بعدك؟ وكيف لا نتحيّز إلى جمال "زهر اللوز"؟ كيف لا نستعيد الفرح كلما انكسر القلب وتعثّر الحظ لأن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"؟
لقد وسّع محمود درويش هامش المناورة اللغوي والمعنوي، فأعطانا فسحة للحركة، ومنطقة للكرّ والفرّ، منطقة محرّرة مجازياً من الاستيطان، من الأسطورة الصهيونية. منطقة ترفع فيها علماً، وتفرح ساعة وتبهر بالجمال. بين ديوان وآخر كنا ندخل حالة انتظار. نسأل أنفسنا إلى أية قمة جديدة سوف يأخذنا هذه المرة. لقد كذّب الأطالس التي أقنعتنا بالسبع قارات، واكتشف قارات أخرى أكثر جمالاً، ومحا الفرق اللغوي بين الاكتشاف والاختراع.
لم يأخذنا إلى البعيد من المفردات، بل دعانا لنتفرّس من جديد في المألوف والعادي منها، ومن قلب العادي أبدع الاستثنائي، ومن خيوط باهتة رسم لنا لوحات من قوس قزح، ومن المألوف صنع الدهشة. مع كل نص تشعر وكأنك تعاتب الكلمات، فهي ذاتها التي ألفتها عشرات السنين أو ظننت أنك عرفتها تفاجئك بوجه آخر، وتضغط على وتر مختلف من أوتار القلب. تستأذنك الكلمات من عملها اليومي العادي، وتخرج في نزهة برفقة محمود وتعود إلينا جديدة تماماً، فنوشك أن لا نعرفها. تخفي الكلمات وجهها بحجاب، وتأبى إلا قلم محمود ليرفعه، ولنكتشف، تحت أنفنا مباشرة، بحراً زاخراً بالمعاني والصور والمشاعر، كنا قد غفلنا عنه في غمرة بلادتنا وروتين إيقاع حياتنا. نقف على حافة عتاب الكلمات فتقول لنا ما قاله محمود للعاشق المتسرّع:" تأنّ وانتظرني، خذني برفق وتفرّس فيّ أنا كما أنا، وليس في حمّى البحث عمّا قبلي أو بعدي، عمّا ورائي أو أمامي".
سيتزاحم النثر والشعر على محمود، وسيغار النثر من الشعر كثيراً، لأنّ محمود-كما في حياته- لم يقبل زواجاً أحادياً، وأصر على مغازلة الشعر والنثر معاً. محمود ناثراً ليس أقل منه شاعراً. وبين هذا وذاك ستفتقده فلسطين وشعبها، فهو الصوت والرمز.
إلاّ أنّ أهم رسائل محمود كانت ولا تزال فهمه الخاص لعلاقة الشعر بالوطن، والجمال بالأخلاق، والعلاقة بين كليهما من ناحية وبين السياسة من ناحية أخرى. لقد أصرّ على اعتبار كتابة الشعر مهنة لها أصولها وقوانينها وإيقاعها ومتطلّباتها. إن التزاماً كمثل هذا هو ضرورة فنية وأخلاقية وسياسية في نفس الوقت. ما كان واضحاً هو إصراره على التعامل مع الجمال والفن باحترام يليق به. كل فعل جميل هو فعل مقاوم لأنه يجعل الحياة أجمل ويستحق أن تعاش. الجمال وطن والوطن جمال. هو وطن لأننا أمامه ننسى أنفسنا وننغمس كلياً فيه، وتقصر المسافة بين الذات والموضوع، وينتهي الاغتراب عن العالم. ولا يكون الوطن وطناً إلاّ إذا أنهى حالة اغترابنا عن العالم واستشعرنا تماهياً معه. لا معنى للوطن إذا لم يكن بمقدوره أن يأخذ بيدنا إلى الحرية أولاً وإلى الجمال ثانياً.
لقد صدّق محمود استعاراته وأغرته الفراشات كثيراُ، ومن فرط حبّه لها ذهب مع قلبه للمنازلة، كما تذهب الفراشات إلى الضوء. إلاّ أنّ محمود لم يذهب بسذاجة الفراشة إلى موته، وإنما برشاقة الفارس الشجاع، وهو في عزّ عطائه وشموخه. مات دفعة واحدة لا بالتقسيط، ولأنه سقط من القمة، ولأن روحه كانت من البلور تطايرت الشظايا لتطال كل واحد منّا، جريحاً بنفس مقدار الحب الذي نكنّه له.
هكذا فهم محمود العالم والمقاومة: الجمال والحب هما الرصاصتان المؤهلتان لاختراق قلب الموت. لقد صوّب وأصاب وانتصر على الموت . أنظروا داخلكم لتجدوا محمود بانتظاركم، مصغياً إليكم بتأني العاشق الذي لا يملّ.
فلسطين خسرت رمزاً ومدافعاً عن حقّها في الاسم والوجود، واللغة خسرت ابناً مشاكساً بحب وأباً معطاء، والجمال خسر حليفاً عنيداً، والشعر فقد جناحاً يرفّ به.
* الناصرة
تنشر هذه المقالة بالتزامن مع نشرها في صحيفة "النهار" البيروتية
رائف زريق *
الجمعة 15/8/2008