(إلى الشاعر محمود درويش في يوم رحيله)
يمـوت النـاس من حـولي كل يـوم، فأتجـرع كأس رحـيلهم المـر، وأفـتـقـدهم بدرجـات مختـلفة. إلا أن قليـلاً من الأشخاص، لا يتعـدى عـددهم أصـابع اليـد، لم أصـدق أنهم ماتـوا، وحـتى هـذه اللحظة أرفض أن أعـترف بأنهم ليسـوا موجـودين بيننا أحـياء يرزقـون. أولهم جـمال عـبد الناصر، وثانيهم والـدي، وثالثـهم نـزار قـباني، ورابعهم أنت... وأعـتـقـد أنـك الأخـير، فكل الذين سـأرفـض الاعـتراف برحـيلهم هم أصـغـر مـني بكثـير.
ســمعتُ النـبأ... وتجَـمَّـدَت مشاعـري، وما زالـت، ولا أعـرف إلى مـتى.
جلسـتُ في العـتمة أجـوب بنـظري الأضـواء التي تلمـع في أعـالي جـبال الجـليل المحـيطة بي، وعلى جليـد مشـاعـري ارتـدَّ صـدى الكلمات التي راحـت تـدور في داخـلي: "بـرحـيله مات جـيلٌ، وانقـضى عهـدٌ، وجـف نبـعٌ، وانهار صَـرحٌ في فلسـطين!"
وكررتُ تلك الكـلمات إلى أن أدركـتُ أني أكـرّرها بلا انقـطاع، وأني سـأكرّرها طالما أنا جالـس أبحـلق في عـتمة فلسـطين. فنهضتُ، وفجـأة وجـدتُ نفـسي أقطـف خصلـتـين من الزعـتر في حديقـتي... وها أنا الآن جالـس أرشـف في حضورك كـوباً من الشـاي بالزعـتر الجـليلي الأخضر، وأكتـب هذه الكـلمات.
لا أريـد أن أكتـب عـنك، فالآلاف سـيكـتبون عـنك ويوفـونك حـقـك. أريـد فقـط أن أسـتعـين بالكـتابة لأتذكـر تلك المرات الثـلاث الـتي التقـيتـك فـيها في حـياتي.
كانـت المرة الأولى قـبل رحـيلك الأول عن فلسـطين بعـامـين. كنـتَ أنت واقـفـاً في محـطة البـاص عـلى مفـرق البـروة، وكـنتُ أنا قادماً من المدرسـة الثـانـوية في الـرامة بعـد انتـهاء أحـد الامتحانات النهائـية، في طريقي إلى عـكا لأقص شـعـري وأتـناول صحـناً من الحُمُّص في "مطعـم أبو الـياس" الشـهـير...
منـذ أن وقـع بصري علـيك عرفـتـك، فصُـورتـك التي كـنتُ أراها في صحـف ومجـلات الحـزب كانت مطبـوعة في مخـيلـتي، أما أنت فلم تعـرفـني، فأنا لم أكـن في ذلك الوقـت سـوى طالـباً ثانـوياً ليـس له اسـم ولا يعـرفه أحـد.
حـين وصلتُ إلـيك قـلتُ لك "صباح الخـير"، فـنظرتَ نحـوي، ومن بيـن آلامـك اسـتـللتَ بسـمة وقـلتَ لي "صـباح النـور".
كـنتَ أنت وحـدك، أما أنا فكـنتُ معـك. ومـع أنه كان في المحـطة مقـعـد، إلا أنك بقـيتَ واقـفـاًً تجـوب بعـيـنيك معـالم البـروة، بُـقـعـة بُـقـعـة، كأنـك تريـد أن تسـلخـها من واقـع الأرض وتمتـصها في أعـماق روحـك.
وجـاء البـاص، وكـنتَ أنت أقـرب مـني إلى الـباب الذي فـُتـِح، لكـنك التـفـتَّ نحـوي وأومـأتَ لي بحـركة من يـدك أنْ أصعـد قـبلك. أذهـلـني لـطـفـك وتـواضعـك وعـروبة أخـلاقـك، فـتـلعـثمتُ وأنا أقـول لك "والله ما بـِصِـيرْ، تـْفـضـل!"
جلسـتَ أنت في المقـعـد الأول، عـلى يمين السـائق، كأنك تقـوم برحـلة وتريـد أن تـَشـبَع من المناظر التي تمـر بكَ حـين تمـر في تـضاريسـها. وجـلسـتُ أنا خـلفـك مباشـرة بقـصـد النظـر إلـيكَ وأنـت تـنـظر إلى فلسـطيـنك. وطـول الطريق كنتُ أفـكر: "أي كـلمات تـدور في ذهـنه الآن؟ كـيف يُحَـوَِل المنـظر من لوحـة إلى معـزوفـة؟" وأكـثر من مـرة قـلتُ لنفـسي: "لعلك الآن تشـهـد مـيلاد قـصـيدة في رأس شـاعر!"
نـزلـنا في سـاحة الجـزّار في عـكا، ومشـيتُ خلـفـك وأنت لا تـدري، إلى أن تـواريتَ أنت في نادي الحـزب، وعـدتُ أنا أدراجي.
ومر رحـيلان، وثلاث هـزائم، واتـفـاق اسـتسـلام، وانتـفـاضـة، وألـف مجـزرة، وأربعـةُ وثلاثـون عـامـاً، إلى أن رأيـتـكَ للمـرة الثـانـية...
كان ذلك في مقـر خـليل السـكاكيـني في رام الله. كـنتُ أقـف في الردهـة مع وفـد نـرويجي، وكانت مديـرة مركـز خـليل السـكاكيـني الثـقافي تشـرح لـنا عـن فعـاليات المركـز. ورأيتـُك تصـعـد الدرج المـؤدي إلى الردهـة...
لم تتغـيَّر كثيراً على الرغـم من أن فلسـطين اسـتعملـتك لتكتبَ تاريخ مآسـيها في تجاعـيد وجهـك، وكـنتَ ما زلتَ مُنتصبَ القامة بشـكل مُذهـل على الرغـم من كل الانحـناءات والانكسـارات في داخـلك... وتركتَ في نفسي نفـس الانطباع الذي تركـتـَه في المرة الأولى: بركانٌ هائجٌ في قـعـر محيطٍ هادئ.
كان عليك أن تمر من بيـننا في طريقـك إلى مكـتبك. وفي هذه المرة كنتَ أنت مَن يَطرح التحـية وأنا من يَرُدّهـا. قـلتَ "صباح الخـير" بنفـس الصوت الذي قـلتَ فيه "صباح النـور" قـبل أربعٍ وثلاثين نكـبة، وقـلتُ أنا لكَ "صباح النـور" بنفـس النبرة الخجـولة التي قلتُ لك فيها "صباح الخـير" قـبل أربع وثلاثين خـيبة أمـل.
لم تلاحـظ وجـودي، ولم أكن أتـوقـع أنك سـتـفعل. ولو لاحظتَ وجـودي لم تكن لتـتـذكـّرني، ولم أكن أتـوقـع أنك سـتـفعل. ومرَّتْ عـيناك على بُعـد جـذع شـجرة زيتـون من عـينيّ... وكنتُ أنا أنظر إليك، أما أنت فكنتَ تنظر إلى العـابريـن في فـراغ الزمن العـابر.
لا تضحكْ مِنـّي الآن، ولكني أُقسِـم أنني شـَممتُ في ملابسك العـابرة عـِبق رغـيف خـبز طابـون سـاخن. هل تـناولتَ بالفـعـل رغـيف خـبز طابـون سـاخن قـبل أن تأتي، أم أنني أنا الذي تـناولتـُه منكَ في مُخيِّـلتي القـرويَّة؟ لن أعـرف ذلك أبـداً.
تركتُ الوفـد الأجنبي، واقتربتُ إلى حيث يمكنني أن أراكَ في مكتبك، فأسـندتُ ظهري إلى الحائط الذي تفـوح من بين حجارته المُسَمسَمَة روائح مجـدٍ ضاعَ أهـله، ورحـتُ أدخـن سيجـارة وأسـترق النظر إليك في عالمك. وبعد دقيقـتين وشـطرين من قصـيدة، رفعتَ رأسـك تبحث عن ورقـة بين أوراقـك، فلمحْـتـَني، ونظرتَ في عـينَيّ، ومن بين آلامـك اسـتـللتَ بسـمة لي، وللحظةٍ في امتـداد الأبـدية انفـرجَتْ أسـارير التاريخ الذي كـتبَتـْه فلسـطين بين تجاعـيد وجهـك، وقـبل أن أرُد لك البسـمة عـُدتَ إلى أوراقـك... وهـناك تركتـُك.
المرة الثـالثة والأخـيرة كانت قـبل أقـل من نصف عـام. كان ذلك في المسـاء، ولم أكن في ذلك الحـين أعـرف أنك كنتَ في مسـاء عـمرك.
كنتَ تنتظرني في أحـد المقاهي الشـعـبية في رام الله. كـنا عـلى موعـد، ووصلتُ أنا إلى المقهى قـبل الموعـد المتـفق عليه بربع سـاعة لأتأكـد من أنني سـأكون هـناك لاسـتقـبالك والترحيب بك حين تصل، ولكنك كنتَ أنت السَّـبّاق كالعـادة.
وكعـادتك، كنتَ تجلـس وحـدك، ولكن ضيـوف المقهى كانـوا معـك رغـماً عـنك... كانـوا ينظـرون إليك، ويتحـدثـون عـنك، ويهمسـون بأشـعارك وعـناوين قصائدك وأسـماء دواويـنك، أما أنت فكنتَ تتـفجّـر حِمَماً في قـاع محيـطك الهـادئ.
كان أمامك كوبٌ من الماء، وكنتَ تكتب بعـض الكلمات على قصاصـة صـفـراء. اقـتربـتُ منـك إلى أن أصبحتُ واقـفـاً أمامـك، وقـلتُ بحـذر كي أخـفـف عـليك الألم الناتج عن قـطع حـبل أفكارك: "مسـاء الخير". ورَنـَوْتَ إليَّ ونهضتَ من مقعـدك ومـددتَ يُمـناك نحـوي في آن واحـد، وأنت في نفـس الوقت تقـول بمَـدَّة الصـوت الممـيّـزة لأهـل الجـليل: "أهليـــــن... وسـهليـــــــــن." وقـبل أن أتمكن من التـفـَوُّه بكلمة أخـرى، قـلتَ بنفـس لكـنة أهـل الجـليل: "أخـيراً عْـرفِتْ إنَّـكْ إنـت هـُو إنـتِ." ولم أعـرف كيف أرد عـليك... في سـريرتي كنتُ أقـول لك : "إنه لـَشـرَفٌ كبيرٌ لي أن تعـرف، أنتَ بالذات، أنني أنا هـو أنا"، ولكني لم أقـل سوى "تـْفـضَّـلْ!"
وسـألتـَني عن عـرّابة وإلى أي حـد تغـيَّـرَت، وعن الرفـاق الذين كنتَ تعـرفهم فـيها؛ أبو إبراهـيم، وأبو نادر، وأبو محـمد، وأبو ناصـيف... وحـدثـتـَني باقـتـضاب عن سـفـرتك الأخـيرة، وحـدثـتـكَ أنا باقـتـضاب عن زيارتي الأخـيرة للبـروة. وتـفـاجأتَ كـثيرا حـين أخـبرتك أني أعـرف والديكَ عن قـُرْب، وأني كـنتُ في بيتـك في قرية الجْـدَيـْدة عشـرات المرات، حيث احتسـيتُ القهـوة التي عـزمني علـيها أبوك، وصنـعـتها لي أمـك، وقـدمتها لي ابـنة أخـيك.
وتحدثـنا فـي ما كـنا عـلى موعـد للتحـدث فـيه، وكلما جـرفـنا الحـديث إلى حـافـة التطـرق للأوضـاع الحـالية في الضـفة والقـطاع، كـنتَ تقطع الحـديث، وتحـاول أن تخـفي ألـمَكَ وامتـعاضك برشـفة من فـنجان القهـوة، ثم تقـول بصوت مرتجف: "نِرْجَعْ لموضوعـْنا أحسـن."
في اللحظة الأخـيرة، على الرصيف أمام المقـهى، قـلتَ لي بصوت لم ولن أسـمع في حـياتي أقـسى مِن ليونـته ولا أعـنفَ من هـدوئه: "سَـلـِّملي ع البـروة بْطريقـَكْ."
شكرتـُك بقـدر ما أسـعـفـتني اللحـظة، وقـلتُ لك: "تصبح على خير."
لم تـرُدّ عليَّ بالكـلمات من فـمك، بل رددتَ عليَّ بملحـَمةٍ تدفـقـتْ أبياتـُها من تلك الضـغـطة الخـفـيفة التي أضَفـتـَها على التـلامُـس بين كفـِّكَ وكـفـّي...
وافـترقـَتْ أيديـنا.... ومَشـَيْتَ مبتـعـداً، إلى أن اخـتفـيتَ في عـتمة رام الله.
لن أودعـكَ مرة أخـرى بعـد ذاك الـوداع.
أتعـرف ماذا سـأفـعـل حين يكـون جسـدك محـمولاً عـلى أكـتاف الناحـبـين؟
سـأذهـبُ إلى البروة...
وسـأجـلـس هـناك على أنقـاض بيـتٍ يُمكـن أن يكون بيتـك...
وسـأبَـلـِّغ البروة سـلامـك...
وسـأحـدّثـهـا عـنك...
وسـأقـول لها أنـك عـائـد إليها مع الريـح في خـريـف الغـضب الأكـبر.
بقلم: مصلح كناعنة
الأثنين 11/8/2008