* كانت الكنّة تأنف من حماها، فأقامت على زوجها الدنيا ولم تقعدها يومَ طرح عليها، بحياء شديد، بعدما تبيّن أنّ في أحشائها ذكرًا، أن يطلقا اسم الجَد على وليدهما، مؤكدة أن اسمًا "دقة قديمة" كهذا سيعقِّد الولد، ويجعله محط سخرية زملائه في الروضة والمدرسة، ناهيك عمّا سيسبِّبه لها من إحراجٍ لا يُحتمل بين أصدقائها، وبين أقاربها الذين درجت أحناكهم على طقِّ الأحرف اللاتينية. وكانت تمقت حماتها التي لا تفقه شيئًا سوى الطبيخ والنفيخ والتنظيف، والتضحية *
جلس أبو شادي في ركنٍ قصيٍّ من المطعم الصاخب، يفتل شاربه الرفيع ببطء، ويرقب، عن بُعد، الأرداف المتراقصة والنهود المتقافزة في ساحة الرقص المحاذية للشارع.
كان أبو شادي أكبر الزبائن سنًا بلا منازع. لا بل إنّ غالبية الجالسين والراقصين كانوا أصغر من أصغر أبنائه. كان يفتل شاربه، ويحرّك رأسه، المصبوغيْن بصلف، وكأنه يتحسّر على كل السنين التي مرّت عليه مقبورًا مقهورًا بين العمل والبيت. أما الآن، وبعد أن أحالته البلدية إلى التقاعد، فقد تفرّغ لنفسه قليلا، وصار يوغل في السهر ويرتاد المطاعم والبارات. وهو ما لم يفعله منذ أربعين عامًا، قبل أن يزوّجه أبوه من أم شادي التي اقتطفها المرض الخبيث العام الماضي، دون أن تتمّ عقدها السادس.
كانت أم شادي- أو "المرحومة"، كما كان يقول- امرأةً بسيطةً كادحة. ومع أنّه لم تسبق زواجهما قصّةُ حبٍّ تذكر، فقد كانت حياتهما رضيّةً مستورة رغم المتاعب والمصاعب، ورغم شظف العيش الذي اضطر المرحومة إلى الخروج للعمل في تنظيف البيوت. ولم يعارض أبو شادي أن تعمل المرحومة، خاصة وأنها لم تكن تنظف سوى بيوت أغنياء اليهود.
ودارت بهما الأيام، فأنجبا صبيًا وبنتين، وصار أكبرهم شادي محاسبًا ناجحًا ميسور الحال، لكن أمّه ظلت تعمل في تنظيف البيوت حتى بعد تخرّجه وعمله في أحد أكبر مكاتب تدقيق الحسابات. كانت تكوي له القمصان، بعناية شديدة، مع أوّل خيط من الفجر، قبل أن تخرج لتلحق بالباص الذي يقلها إلى سفوح الكرمل. وتزوّج شادي فتاةً شقراء، ممشوقة القوام واللسان، من عائلة ميسورة، وسكنا في حيٍّ راق على سفح الكرمل، بعيدًا عن أهله، وكان عليه أن يعمل جاهدًا، لئلا يقصّر في سداد قرض بيته الرحيب المطل على البحر، ولئلا تشعر زوجته المدللة بالندم على ارتباطها بـ "ابن الخدّامة"، كما كانت تنعته كلما تشاجرا (وكان هذا يحدث مرّة في الأسبوع على الأقل)، وكما علـَّمت ابنهما أن يناديه إذا ما رفض له طلبًا.
لم تكن المرحومة تطيق كنّتها المغرورة، ولم ترد لبكرها هذه الزيجة أصلا، لأنها كانت تشعر أنها امرأة لعوب، وأن عائلتها تعاملهم باستعلاء، ولأنها سمعت أنها كانت "مقضية ومصدية" أيام دراستها الجامعية؛ لكنها، رغم كل ذلك، لم ترد كسر قلب ابنها، الذي صار "محاسب قد الدنيا"، مُتيمًا بفتاته الفاتنة، وبشعرها الأشقر الملوكيّ، ومبهورًا بعائلتها سليلة الحسب والنسب.
وكانت الكنّة تأنف من حماها، فأقامت على زوجها الدنيا ولم تقعدها يومَ طرح عليها، بحياء شديد، بعدما تبيّن أنّ في أحشائها ذكرًا، أن يطلقا اسم الجَد على وليدهما، مؤكدة أن اسمًا "دقة قديمة" كهذا سيعقِّد الولد، ويجعله محط سخرية زملائه في الروضة والمدرسة، ناهيك عمّا سيسبِّبه لها من إحراجٍ لا يُحتمل بين أصدقائها، وبين أقاربها الذين درجت أحناكهم على طقِّ الأحرف اللاتينية. وكانت تمقت حماتها التي لا تفقه شيئًا سوى الطبيخ والنفيخ والتنظيف، والتضحية، والتي لم تتقن لفظ اسمها الفرنسيّ حتى يوم مماتها، حتى أنها لم تصبر حتى مرور الأربعين، وأصرّت على أن تسافر وزوجها بعد شهر من موت أمه إلى إحدى الجزر اليونانية لقضاء نهاية الأسبوع مع صديقاتها وأزواجهنّ، ورفضت أن يقتني شادي لأبيه قارورة عطر صغيرة من السوق الحرّة في المطار وسألته: منذ متى يتعطّر أبوك يا ابن الخـ...؟
الابنة الثانية، شادية، تزّوجت رجلا كنديًا من أصل فلسطيني، مطلـَّق ويكبرها بثلاثة عشر عامًا، له ولدٌ من زواجه الأوّل. سافرت معه إلى كندا وأنجبت منه طفلتين توأمين. وكانت شادية تتصل بالبيت كل يوم أحد، وتزورهم مرة كل سنتين تقريبًا، في عطلة رأس السنة، هاربةً من ثلج كندا وصقيعها إلى شتاء البلاد الدافئ. وقد لاحظ أبو شادي أن اتصالاتها الهاتفية أخذت تتباعد بعد وفاة أمها. لكنه لم يكترث، لأن المرحومة هي التي كانت تتولى شؤون الأولاد طيلة حياتها، فيما كان هو منهمكًا في العمل وتأمين لقمة العيش الشريفة.
أما الابنة الصغرى جمانة، التي كانت أجمل من شادية، لا بل أكثر جمالا وأشدّ جاذبية من كل بنات الحيّ، فلم تتزوّج، مع أنها قاربت الثلاثين. "الزواج مؤسسة فاشلة"، كان تردّد دائمًا بالفصحى، "لأنها تنتج أفرادًا بائسين ومجتمعًا عقيمًا". فقد درست جمانة الفلسفة والتربية في الجامعة، لكنها لم تجد وظيفةً في مجالها، فعملت كسكرتيرة في مكتب محاماة، وأصبحت تتقاضى راتبًا محترمًا لم تكن لتحلم به بعد عشر سنوات في سلك التعليم. وكانت تنبّه على والدها بأن يمحو كلمة "كاتْبة" من قاموسه، وأن يستعمل بدلا منها كلمة "مديرة مكتب".
لم يعارض أبو شادي بتاتًا، فقد كان سعيدًا بوظيفتها الهامة وراتبها المغري، مع أنه لم يستسغ تأخّرها في العمل، إلى ما بعد منتصف الليل في بعض الأحيان، ولا مبيتها خارج البيت حين تكون هناك "قضية كبيرة" في إحدى محاكم العاصمة البعيدة. ولكنه لم يسأل أكثر من اللزوم، لا بل أنه كذّب عينيه حين رآها، ذات ليلة، من نافذة غرفة نومه، وهي تقبّل مديرها المتزوّج في سيارته الفارهة قرب البيت، وصدّق ابنته، التي أقسمت بشرفها وبرحمة المرحومة وغربة شادية، أنّ ما حدث هو أنها استدارت لأخذ ملف مهم من المقعد الخلفي، وهذا كلُّ ما في الأمر.
لم يبحث أبو شادي عن الملف. وكان، في مرحلة ما، قد سلـّـم ببقاء جمانة عزباء، خاصةً وأنها كانت تدفع فواتير الكهرباء والماء وتشتري حاجيات البيت، وتطبخ أحيانًا. وكان، في قرارة نفسه، واثقًا من تربية أم شادي للبنات، ومن أنّ صغيرته جمانة ليست كبنات هذه الأيام الخليعات، المُتشخلِعات في البارات والمطاعم حتى الصباح، بل مديرة محترمة لمكتب محترم. وحتى لو تأخرت ليلاً، فإن مديرها يقلها إلى البيت بنفسه، بسيارته التي لم يمرّ على الحارة مثلها منذ يوم زفاف شادي وتشريف عروسته لإلصاق العجينة على باب المنزل.
كان النوادل في المطعم الصاخب يعرفون أبا شادي، وموقع جلوسه، وطريقته في نفض السيجارة، تمامًا كما يعرفون كل طاولة وكل كرسي هنا. كان موعد إيابه إلى البيت ملاصقًا لموعد إغلاق المطعم كل ليلة. وكثيرًا ما كانوا يتندّرون فيما بينهم، وعلى مسامعه أحيانًا، من هذا الختيار المتشبِّب. من بدلته ذات القطع الثلاث، التي ما زال محتفظا به منذ زواج شادي ويلبسها صيفًا وشتاءً. ومن ربطات عنقه الزاهية، المربوطة بعناية المتقاعدين. ومن اهتمامه اللافت بحلاقة ذقنه كل يوم، كما لو كان يخشى ظهور شعيراتٍ رمادية تفضح زيف سواد رأسه وشاربه الفاحم.
كان قليل الكلام. وكان الجميع يعرف أنه لا يشرب إلا العرق؛ ثُلثًا بثلثين، وقطعة ثلج واحدة، لأنه لا يحب البيرة، ولأن المطعم لا يقدّم الكونياك الرخيص. ثلاثة كؤوس تكفي ليميل رأسه طربًا، ونظراته الثاقبة لا تترك بقعة في أجساد الفتيات الراقصات دون أن يعبث بها وبما تبقى من ذكرياته البعيدة مع المرحومة، قبل أن يهترئ جسدها من الإنجاب ويترهل ثدياها من الرضاعة، وقبل أن تتشقق بشرتها وتنتفخ أوردتها وتتشرّب يداها رائحة مواد التنظيف.
أتى أبو شادي على كأسه الثالث وهمّ ليقوم، على غير عادته، والموسيقى والرقص على أشدّهما. ترك على الطاولة شواقله الخمسين، كعادته، وخرج من الباب الخلفي ليمضي على مهله. لم يترنّح، فقد تعوّد جسده على إيقاع المسير المتثاقل، مثلما تعوّدت قدماه على هذه الطريق إلى البيت. أشياء كثيرة تغيّرت على الجوانب، معالم كثيرة غابت وأخرى بانت، لكن البيت ظلَّ هناك. كان يختال، بشيء من الألم، ويدندن بوقع بطيء، ينزع إلى الاختناق:
"يا رايحين ع حلب حبي معاكم راح
يا محمّلين العنب تحت العنب تفاح
كل لمن وليفه معه وانا وليفي راح
يا رب نسمة هوا تردّ الولف لينا"
وصل إلى البيت فلم يجد أحدًا. جمانة ليست في غرفتها. فعاد إلى دندنته الخافتة، فلا بد أن قضية كبيرة أو ملفًا مهمًا قد جعلها تتأخّر. جلس على أريكة في الصالون، نظر إلى صورة المرحومة المعلقة على الحائط، هزّ رأسه وتنهّد وململ شيئًا. لم يكن يغمض لها جفن إذا تأخّر أحد الأولاد خارج البيت. جلس ينتظر عودة جمانة. شعر أن النعاس يباغته، فأوقد التلفزيون وراح يقلـّب المحطات، ولكن النوم أخذه بعد بضع دقائق.
دخلت جمانة، فوجدته نائمًا على الأريكة بكامل ملابسه. ببدلته السوداء، وقميصه الذي كواه بنفسه، وربطة عنقه العنابيّة المشذورة بخيوط الذهب. غضبت قليلا وصاحت توقظه: "يابا.. فيق يابا.. قوم نام في أوضتك". ولكنه لم يفعل. اقتربت منه. أمسكت بيده، وإذ بها باردة كقطعة ثلج.
رجا زعاترة
السبت 9/8/2008