يعمل الشاعر الفلسطيني غسان زقطان منذ بداياته على قصيدة خافتة ومنخفضة النبرة على رغم تشبعها بالإيقاعات والتدفق العاطفي والوجداني. وإذا كان مصدر الشعر عند زقطان هو الغناء فإن غنائيته لا تتصل بالاحتفال الكرنفالي ولا بالحماسة الإنشادية بل بترجيع حنون وترسلٍ قلبي يبعد الكتاب عن التأليف المصطنع والصنيع الزخرفي والمعادلات الذهنية الصرفة. كأن هذا الشعر هو شعر ريفي بامتياز ليس بالمعنى الرومانسي فحسب بل بمعنى البحث الدائم عن البراءة، كما لو أن هذه الأخيرة هي مفتاحه الأهم للولوج الى فلسطين التي لا تتم استعادتها من طريق الدماء المراقة وحدها بل من طريق الاحتفاظ بدم السلالة النقي وبمهب الحياة التي انصرمت.
في مجموعته الأخيرة «كطير من القش يتبعني» لا يحيد غسان زقطان كثيراً عن الخط الذي رسمه لنفسه في مجموعات سابقة مثل «سيرة بالفحم» أو «بطولة الأشياء». لكن ثمة خفوتاً أكثر في الصوت وجنوحاً أقل الى استنفار الكائنات والوقائع والأحداث التي استنفرها في الماضي. ولا أعرف على وجه التحديد إذا ما كان هذا الخفوت ناجماً عن التقدم في العمر وحده أم عن استنفاد التجربة السابقة التي أفرغ الشاعر خلالها كل ما كان يحمله من ذكريات الطفولة والصبا الأول ومن رسم بورتريهات كثيرة للبشر الذين أحاطوا به والذين أطاحت بهم مجازر الاحتلال، أم معارك المواجهة الضارية مع العدو، أم وطأة الزمان وتحولاته القاسية. وأياً يكن الأمر فإن ما لم يتغير في تجربة زقطان هو ابتعاده عن التهويل اللفظي والبلاغي والصوتي وعن الاتكاء على القضية الكبرى التي يناضل شعبه تحت رايتها منذ أكثر من قرن. وما لم يتغير أيضاً هو ذلك الحنين المتواصل الى الأزمنة المفقودة والى البشر الذين قاسموه فراديسها وعذاباتها الأولى. وربما تتقاطع تجربة غسان زقطان من هذه الزاوية مع تجربة الشاعر اللبناني وديع سعادة، على رغم اختلاف الأسلوبين، حيث لا ينفك كل منهما عن مطاردة الهواء المتسرب من شقوق الأعمار التي تآكلت والأماكن التي تهدمت وأصبحت أثراً بعد عين، حيث الأصدقاء والأهل يذهبون «بعد أن يتركوا الخبز فوق الوسادة/ والشمع في الأمنية».
قد تكون عبارة غسان زقطان «مثل حلم في الظهيرة» التي جعلها عنواناً لإحدى قصائده هي العبارة التي تختزل مناخات الشاعر ورؤاه وطريقته في التطلع الى الأشياء. فالشعر هنا لا يشي بالعتمة التي تكتنف العالم أو تسهم في إخفائه ولا بالظلام الذي يهيء للنوم أحلامه المناسبة بل هو شعر يتفتح، على غموضه النسبي، في الضوء الخالص وتحت شمس الظهيرة الساطعة والتطلع النوراني الى مسقط الرأس. ومع ذلك فإن هذه الظهيرة ليست قائمة في الحاضر المعيش بل في فضاء الذاكرة التي تتسع أطيافها من بعد. على أن ذلك الفضاء لا يعتمد على المشاهد البصرية وحدها بل تتداخل في جنباته الروائح والأصوات والمذاقات المختلفة للنساء والأشجار وكائنات الطبيعة. وفي تلك الممرات القديمة للماضي يعلن الشاعر عن «جرس واحد يصعد التل خلف الزمان القديم/ وخلف الشجيرات في السفح/ حيث الكلاب القديمة مطوية في الحكاية/ والدور ملمومة في الهواء المصبر/ جرس واحد كان يندهها بإسمها وهو يصعد/ ربما كي يرى الهاء معقودة "فوق حرش الصنوبر".
*شظايا سيرة*
لا تحضر فلسطين في شعر غسان زقطان عبر هالتها الأسطورية المألوفة في أدبيات مماثلة ولا عبر التهويل الإيديولوجي والسياسي ولا عبر الإنشاد الملحمي العالي بل تتحول الى أقل من ذلك بكثير، أي الى قصاصات تلال وأضغاث بيوت وفلول ضحكات وأوجاع بعيدة. وهي في كل ذلك لا تختلف عن أوطان الآخرين وعن حاجتهم الى مكان عادي وبسيط يأوون اليه كما تفعل الوحوش او الطير، ويحميهم من ضراوة الطبيعة أو غوائل الدهر. وفي غياب ذلك المكان لا يجد غسان زقطان بداً من صياغة وطن بديل على أرض الكلمات. وطن تتعانق فوقه الموجودات وأشباهها، الأحياء والأموات والحقيقي مع المتخيل. وعلى رغم ان شعره مشوب بالكثير من النزوع الفردي الذي يجعل القصائد أقرب الى شظايا السيرة الذاتية منها الى أي شيء آخر فإن أنا الشاعر لا تحضر بمفردها مرة واحدة بل تأتي مصحوبة دائماً بأنا الجماعة الذين لا بد من وجودهم لكي يحتمي زقطان من سطوة البرد أو غائلة العزلة والمنفى. ومع أن الشاعر لا يحمل ادعاء كونه حادي الوطن والأمة، ومع ان صوته أكثر تواضعاً من حمل هذا الدور، إلا أن نار السلالة تطارده أينما ذهب وتحضر في قصائده كلها على شكل موتى غابرين أو فقراء وفلاحين قاسموه فلذة من عمره، أو على شكل نساء غاربات يلوحن من وراء الأفق.
لا يتردد غسان زقطان في كتابة القصائد النثرية، وان كانت نسبتها قليلة بالقياس الى قصائده المفعلة. ولكن قراءة متأنية لهذه القصائد تدفعنا الى الاستنتاج بأن موهبة الشاعر الحقيقية تتجلى في شعره الموزون أكثر من سواه. ربما لأن حساسيته الشعرية تجد تعبيرها الأمثل والأكثر تلقائية في قصائد الوزن، وربما لأن خبرته في هذا النوع من الكتابة تفوق بكثير خبرته النثرية التي تحتاج الى المزيد من الدربة والطواعية.
لا بد أخيراً من الإشارة الى ان مجموعة غسان زقطان الجديدة تبدو وكأنها تختتم حقبة من كتابته قائمة على استدراج الذاكرة واستدعاء الزمان والمكان الماضيين لردم ما تهدم على أرض الواقع وما تناثر من صورة الوطن أو حياة أهله. لكن خروج الشاعر نحو آفاق أخرى ومحطات جديدة يبدو أكثر من ضروري وفي أوانه تماماً.
* شاعر لبناني ("الحياة" اللندنية)
شوقي بزيع
السبت 9/8/2008