في اوائل شهر حزيران من سنة 1967، ونحن في المعهد الدراسي في اوج دراستنا للتحضير للامتحانات النهائية للسنة الدراسية الاولى لنا في المعهد، وصتنا الأخبار التي فاجأتنا عن نشوب الحرب العدوانية التي شنها حكام اسرائيل وبالتواطؤ وبدعم امريكي بريطاني على الدول العربية بتاريخ 5 حزيران من سنة 1967. هذه الحرب التي حضرت لها المخابرات الاسرائيلية وبالتعاون مع المخابرات الامريكية والبريطانية وكان تحضيرا مبرمجا من اجل اسقاط الانظمة المعادية للاستعمار في مصر وسوريا وكان التحضير على ان تكون حربًا خاطفة وسريعة.
ومع بدء هذه الحرب، تعطلنا نحن الطلاب من اسرائيل ومن باقي الاقطار العربية كليا عن الدراسة لأكثر من أسبوع تقريبا ونحن نجلس نستمع للاذاعات ووكالات الانباء الموجودة في المعهد ونسمع تحليلات من المدرسين في المعهد، وكنا في الايام الاولى نسمع "تهجيصات" احمد سعيد المذيع المشهور في ذلك الوقت في محطة "صوت العرب" عندما كان يقول: "هنيئا لك يا سمك"، فاعتقدنا ان هناك انتصارا هاما تحققه الجيوش العربية، وإذ من الناحية الفعلية كانت إسرائيل قد قضت على الاكثرية المطلقة من الطائرات المصرية وهي مرابطة في مطاراتها، والقيادات العسكرية برئاسة عبد الحكيم عامر تسهر في النوادي الليلية وقائد الاركان شمس الدين بدران يمر بمدريد ليقدم للمخابرات الامريكية كل ما دار من محادثات مع القيادة السوفييتية في ذلك الوقت.
وفي تاريخ 9 حزيران سمعنا الخطاب التاريخي لجمال عبد الناصر الذي أعلن فيه مسؤوليته الكاملة عن الهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية وفي الوقت نفسه أعلن استقالته من رئاسة الجمهورية العربية المتحدة. وبعد سماع هذا الموقف من الرئيس عبد الناصر واذا بالجماهير تخرج الى الشوارع بالملايين في مصر وباقي الاقطار العربية بمظاهرات جبارة جميعها تهتف بحياة عبد الناصر وتطالب بإبطال قرار رئيس الجمهورية العربية المتحدة بالتنحي عن رئاسة الجمهورية. وهكذا عمليا استطاعت الجماهير خلال يومين من المظاهرات الحاشدة في تاريخ 9 و10 حزيران سنة 1967 ان تفرض عودة جمال عبد الناصر لرئاسة الجمهورية وفي اليوم الثاني من الهبة الشعبية اجتمع مجلس الأمة المصري ومنح الرئيس جمال عبد الناصر صلاحيات خاصة وواسعة من اجل تعبئة الجماهير واعادة القدرة العسكرية والسياسية للجمهورية العربية المتحدة وكل هذا بعد موافقة جمال عبد الناصر على عدوله عن قرار الاستقالة الذي اعلن فيه عن مسؤوليته الشخصية عن الهزيمة التي مني بها الجيش المصري، والتي لم تكن متوقعة، وقد قال عبد الناصر في رسالته الى مجلس الامة المصري: "أنا متأثر جدا بالثقة الاجتماعية بي التي اعرب عنها الشعب المصري وشعوب البلدان العربية والصديقة". وخلال هذه المظاهرات العارمة التي اجتاحت العالم العربي للمطالبة بعدول عبد الناصر عن قرار تنحيه، كان ايضا قادة الدول الاشتراكية قد اجتمعوا بتاريخ 9.6.1967، واصدروا بيانا ضد الاعتداء الاسرائيلي واعلنوا فيه قطع العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل وادانة العدوان الاسرائيلي واعلنوا وقوفهم الكامل الى جانب الشعوب العربية في معركتها العادلة ضد العدوان الاسرائيلي وضد التواطؤ الامبريالي مع هذا العدوان الغاشم. وكانت الدول الاشتراكية وبالتعاون مع الجمهورية العربية المتحدة وسوريا وباقي الدول العربية تعمل بشكل متواصل من اجل اصدار قرار في مجلس الامن الدولي يدعو الى الانسحاب الكامل من المناطق العربية المحتلة. وقد كنا حتى ذلك الوقت متعطلين عن الدراسة بشكل كلي، نحن وجميع الرفاق من الدول العربية، وحتى ذلك الوقت كانت القوات الاسرائيلية تقوم بهجوم مكثف ضد سوريا بالرغم من قرار مجلس الامن بوقف القتال وفي الواقع ان القوات الاسرائيلية كانت قد احتلت هضبة الجولان بعد قرار مجلس الامن بوقف القتال على جميع الجبهات.
مر وقت طويل حتى تمكنا من استيعاب ما جرى ومن فهم الامور بشكل أوضح، خاصة وان هناك عددا من الرفاق السوفييت الذين يعرفون جيدا المواقع السورية في هضبة الجولان لم يستوعبوا ان هذه المنطقة يمكن ان تحتل من قبل القوات الاسرائيلية لأنهم كانوا يعرفون جيدا التحصينات والامكانيات الموجودة هناك، التي يمكن استغلالها بشكل جيد للمقاومة ولدحر العدو. لقد كانت تصلنا الأخبار بشكل دائم ومن خلالها عرفنا كيف ان السلطة تهيئ الجو بين الجماهير العربية عن طريق اعوانها ففي 6.6.1967 كتبت "الاتحاد" افتتاحيتها تحت عنوان "الجماهير العربية ليست "رهائن" بل جسرًا للسلام"، وكان عمليا تعليقا على خبر نشر في جريدة هآرتس عن الاجتماع اليهودي العربي الذي عقد في الناصرة وتكلم فيه سيف الدين الزعبي نائب المباي "العربي"، حيث جاء فيه أنّ "عضو الكنيست سيف الدين الزعبي هاجم في مطلع كلمته الفئة القليلة من عرب اسرائيل المستمرة في التحريض وفي تشويش الجو، وبتأكيده ان هذه الفئة غير مخلصة لدولة اسرائيل بقدر ما هي مخلصة لدول اجنبية تبعد عن حدود بلادنا آلاف الأميال، اظهر السيد الزعبي دهشته الشديدة من ان السلطات في اسرائيل تواصل السكوت عن هذه الفئة وتمنحها قانونية العمل" إلى هنا نص الاقتباس من الخبر. هكذا كان دور النواب العرب في الأحزاب الصهيونية في ذلك الوقت، الخدمة المطلقة لحكام اسرائيل وضد مصالح شعبهم، ففي كل ازمة كانوا يخرجونهم من اجل ان يتصدوا للقوى المكافحة والصلبة ضد العدوان الاسرائيلي على الشعوب العربية وكذلك على الجماهير العربية داخل اسرائيل.
لقد قام جهاز الشرطة بالعمل على خلق جو ارهابي في قرانا العربية خلال ايام الحرب وبعدها عن طريق الضابط سيء الصيت "ابن اسحاق" حيث كان يدخل الى القرى بشكل استفزازي ويجري اعتقالات عشوائية وبشكل خاص عندما صاح في وجه عمال من دير حنا "ان الدمقراطية قد انتهت".
ان كل هذه الاخبار التي كانت تصلنا من البلاد خلال فترة الحرب وعن دور رفاقنا بالتصدي لمثل هذه الزعرنات كانت تشعرنا بالاعتزاز والفخر بالدور التاريخي الذي يلعبه حزبنا في مثل هذه الاوضاع الصعبة والمأساوية، حيث وقف حزبنا منذ اللحظة الاولى ضد هذه الحرب العدوانية التي شنّها حكام اسرائيل ضد الشعوب العربية، ومقابل هذا الموقف الاممي والمبدئي وقفت المجموعة التي انشقت عن الحزب الشيوعي وسميت زورا وبهتانا باسم الحزب الشيوعي الى جانب حكام اسرائيل وبدأت تغرد ضمن الاجماع الصهيوني، وبهذا الموقف عمليا سقطت آخر ورقة كانت تغطي عورة مثل هؤلاء المنشقين وعزلوا كليا من قبل الحركة الشيوعية العالمية وبدأ نقاش داخلي في هذه المجموعة وبدأ عدد من الرفاق يفكرون من جديد الى اين اوصلتهم هذه المجموعة التي تخلت بشكل كلي عن المبادئ الاممية واخوة الشعوب وانحرافهم الكامل نحو الصهيونية وعلى هذا الاساس اصدر ثلاثة اعضاء من لجنتهم المركزية منشورا اعلنوا فيه تركهم العضوية في حزب هذه المجموعة المنشقة وهم الشاعر الكسندر بن وليون زهافي وشلومو شملي، وبعدها بفترة عادوا الى صفوف الحزب الشيوعي اليهودي العربي ومعهم عاد عدد آخر من الرفاق الى صفوف الحزب، وهناك البعض الآخر الذي يئس وانعزل كليا في بيته وتخلى عن النشاط السياسي.
نتيجة للموقف الواضح والصريح الذي وقفه الاتحاد السوفييتي وباقي الدول الاشتراكية ضد العدوان الاسرائيلي على الشعوب العربية وكذلك الموقف الاممي الصادق الذي وقفه حزبنا الشيوعي منذ اليوم الاول ضد هذه الحرب العدوانية وطالب بالانسحاب الفوري ووقف هذه الحرب المجرمة، وعلى اساس هذه المواقف الجريئة والشجاعة عملت الاوساط الحاكمة وأجهزة إعلامها على التحريض المنفلت ضد الدول الاشتراكية وضد الحزب الشيوعي الاسرائيلي وكانت نتيجة هذا التحريض السافل أن جرت محاولة اغتيال للرفيق ماير فلنر السكرتير العام لحزبنا الشيوعي بتاريخ 5.10.1967 وأصدر المكتب السياسي للحزب الشيوعي بيانا ادان فيه محاولة الاغتيال الآثمة ضد القائد الشيوعي والسكرتير العام للحزب. وقال الحزب في بيانه "لقد وقع هذا الاعتداء الآثم والمخطط على حياة الرفيق ماير فلنر نتيجة التحريض الشوفيني الأهوج المعادي للشيوعية، الذي يشن من على صفحات الصحف ومن على مختلف المنابر العامة منذ مدة طويلة ضد الحزب الشيوعي الاسرائيلي وضد كتلته في الكنيست وضد الرفيق ماير فلنر شخصيا بسبب موقفنا الجريء ضد حرب الخامس من حزيران العدوانية، ومن اجل السلام العادل بين اسرائيل والدول العربية". وكان الرفيق ماير فلنر قد نقل الى المستشفى في تل ابيب وهو ينزف دما وهناك قدم له الاسعاف الاولي ومن ثم ادخل الى غرفة العمليات للمعالجة، وقد صرح الاطباء انه نجا بأعجوبة من الموت. وبعدها بفترة سافر الى الاتحاد السوفييتي لاتمام العلاج ولحضور احتفالات الخمسين لثورة اكتوبر، وهناك التقينا به انا وباقي الرفاق الذين يدرسون في المعهد وعندما علمت ادارة المعهد بوجوده في موسكو دعته لالقاء محاضرة حول الوضع في الشرق الاوسط وحول الوضع في اسرائيل، وكان حضورا واسعا جدا من قبل الاكثرية المطلقة من طلاب المعهد واساتذة المعهد والادارة، وفي تلك المرحلة كانت الاحتفالات تجري على قدم وساق في جميع انحاء الاتحاد السوفييتي بمناسبة الذكرى الخمسين لثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى.
خلال تواجدنا في الاتحاد السوفييتي كنا قد حضرنا احتفالات ذكرى ثورة اكتوبر التاسعة والاربعين وكذلك حضرنا احتفالات الاول من ايار في الساحة الحمراء ولا شك انها كانت احتفالات ضخمة وهامة ولكن احتفالات الذكرى الخمسين لهذه الثورة التي غيرت وجه التاريخ كانت خاصة ومميزة عن الاحتفالات السابقة من حيث ضخامتها وترتيبها، وكانت قبل الاحتفالات في يوم الذكرى قد جرت احتفالات عديدة في مختلف انحاء الاتحاد السوفييتي وبشكل خاص الاحتفال الذي عقد في قصر المؤتمرات والذي تواجد فيه اغلب قادة الاحزاب الشيوعية في العالم وبعض قيادات الدول الصديقة والدول الاشتراكية وكذلك نحن طلاب معهد "لينين" وفي هذا الاحتفال ألقى الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف خطابا هاما بمناسبة هذا الحدث التاريخي الهام وفيه استعرض انجازات الثورة خلال أعوامها الخمسين.
ان الاحتفال المميز كان في يوم الذكرى نفسها أي في نفس التاريخ لانطلاق الثورة في السابع من تشرين ثاني في الساحة الحمراء والذي فيه كان يجري استعراض قوة الاتحاد السوفييتي العسكرية والاقتصادية والسياسية، اذ عرض في هذا الاحتفال اسلحة متطورة جديدة والتي كان هدفها المحافظة على السلم العالمي، وكذلك استعراض القوى العاملة التي ابرزت ايضا انجازات الاتحاد السوفييتي الاقتصادية.
(يتبع)
توفيق كناعنة
السبت 9/8/2008