لم يكن حفلاً باهراً بأضوائه وحشوده وأعلامه وألعابه النارية. كان بمثابة إعلان جديد عن أن الصين باتت تتربع على عرش العالم بلا منازع، تجمع شعوبه ودوله، تختصر حضاراته، وتقوده نحو قرن اكتسب بالامس هوية ذلك المارد الذي خرج للتو من القمقم، ليغطي سماء الكرة الارضية كلها بقواه العجيبة.
تعمد بلد المليار ونصف مليار نسمة أن يكون حفل افتتاح الألعاب الأولمبية حدثا استثنائيا مثيرا للذهول، ينحفر على الفور في عمق الذاكرة العالمية، ويرفع الستار عن معجزة دولية جديدة، تزيح عن كاهلها أعباء تاريخية ثقيلة، وتتقدم بخطى ثابتة لترث دولا عظمى زالت من الوجود أو هي في طريق الزوال.
كان الحفل فرصة للتذكير بالاختراعات والاكتشافات والابتكارات الاولى التي قدمها هذا الشعب العريق الى البشرية كلها، وهي لا تزال حتى اليوم تساهم في التقدم العلمي والفكري، وتجعل من القفزة النوعية التي حققتها الصين في السنوات القليلة الماضية، مجرد تتويج لمسيرة عمرها مئات السنين، عرقلتها بعض العثرات العابرة، لكنها لم تمنعها من بلوغ العرش.
كان الحفل مناسبة للتأكيد أن الصين ليست دولة كبرى بشعبها واقتصادها وفلسفتها واجتماعها وتقنيتها العالية، بل هي الدولة العظمى الوحيدة في العالم، التي لديها الكثير مما تقوله وما تقدمه للعالم كله، غير قوتها وفتوحاتها العسكرية، كما هي حال الدولتين العظميين السابقتين، اللتين حضرتا الافتتاح وهما غارقتان في حروب باتت سبيلهما الوحيد لحماية عظمة بائدة أو هيبة ضائعة.
في ذلك الحفل بالذات، تلاشت صورة أميركا، وبدت كدولة صغيرة تحل في ضيافة عملاق عالمي قادر على استيعاب الجميع. ولعل وجود الرئيس الأميركي جورج بوش بالذات بين ضيوف الأولمبياد الصيني، أضاف عبئا جديدا على الأميركيين وعلى بلادهم التي ظلت لعقود طويلة مضت تزعم أنها هي الدولة العظمى، التي سينتهي عند نموذجها وفكرتها التاريخ الإنساني المعاصر.
في ذلك الحفل بالذات، بدت روسيا أيضا أنها مجرد قوة عسكرية هائلة تبحث عن فرصة لاسترداد مكانتها العالمية باستخدام قواتها المسلحة، بعدما كانت في ما مضى تكتفي بإطلاق أفكارها العظيمة لتسيطر بها على نصف الكرة الأرضية. كانت الحرب التي اندلعت مع جورجيا أمس حول إقليم أوسيتيا الجنوبي، لحظة افتتاح الأولمبياد، انتكاسة إضافية لمكانة روسيا التي ساهمت في صنع الكثير من أمجاد القرن الماضي.
أما بقية الشعوب والدول التي أرسلت فرقها للظهور في عش الطائر الصيني الخلاب، فإنها بدت أشد تواضعا، تنتمي الى عوالم وأزمان غابرة، والى قارات صغيرة تنتظر موعد وصول المستكشفين الصينيين الاوائل الذين يحملون معهم نتاجهم المادي والفكري، ويعرضون السير معهم في رحلة أكثر تشويقا وإلهاما من تلك الرحلات التي قادها السوفيات والاميركيون في الماضي القريب أو البعيد.
لم تكن الصين تتصنع، أو تدّعي العظمة. كان افتتاح الأولمبياد مجرد إشارة الى أن ذلك البلد الذي حقق معجزات سياسية واقتصادية واجتماعية، يستعد لمعجزة جديدة، سيكون حصاد الذهب دليلها الذي لا يخطئ.
عن "السفير" اللبنانية
ساطع نور الدين
السبت 9/8/2008