اعتاد سعد الدين ان يدخل ديوانه صباح كل يوم ملتحيا لحيته البيضاء الطويلة متعمما بعمامته، يرتدي جلبابه الابيض الناصع ويلف جسمه المليء بعبائته السودء ذات الطوق الاصفر الذهبي . يتكور على فراشه في ديوانه الواسع الرحب ، تتدلى من عنقه الى نصف بطنه سبحة سوداء يجالسه دائما في مجلسه كتاب القرآن الكريم، وكتاب شمس المعارف وكتاب اصل الجن وحسبهم ونسبهم واسمائهم . يجلس وقد اعد نفسه لاستقبال الزائرين القادمين من الرجال والنساء ، هذا لغرض حجاب ليشفي ولده المريض وذلك جاء راجيا قراءة تعويذة او مسحة مباركة على راس ولده لطرد الروح الشريرة التي اصابته من عين حسوده ، ومن طالب لربط فم الوحش عن دابته الضالة ، ومن امرأة جاءت تطلب حجابا تتداوى به من العقم ، واخرى تتوسل اليه ليكتب لها حجابا لتوثيق عرى الحب والمحبة بينها وبين زوجها ، والثمن ليس بخسا او زهيدا فمن سرة تندس تحت الفرشة او مجيدة ذهبية او قطعة فضية .
وذات يوم خرج سعد الدين عن المألوف ، فخلع جلبابه الابيض وعمامته وارتدى قمبازا ، وسروالا اسودا ، وغطى رأسه بكوفية سوداء خشنة تقيه برد الشتاء وتعقل بعقال ، وانتعل (بسطارا) امتشق منساسا واعتلى ظهر بهيمته قاصدا حقله في سهل البطوف اسوة بباقي الفلاحين . بدا يخطو خطواته فاخذ يتلو لنفسه دعاء السفر ، متوسلا من ربه متضرعا ومناجيا ان يهوّن عليه امره ويسهل دربه ، ويقيه عناء السفر ، ويحميه من تجشم الصعاب ، انطلق في طريقه وكان الجو صافيا وشمس شباط تحاول جاهدة اختراق بعض كتل الغيوم المتلبدة في السماء في ذلك الصباح ونسمات من الريح هادئة باردة كانت تهب تلفح وجهه فالتثم بطرف كوفيته اتقاءا من لذعات تلك النسمات . وفي طريقه الى الحقل وصل الى منطقة "الشناقة" حيث تغمرها المياه في فصل الشتاء بتربتها الرخوة . فتلاثيا للغرز او التغوّر في الوحل في ارض "الشناقة" اعتاد الفلاحون ان يبحثوا ويسلكوا طريقا التفافيا . اما سعد الدين فابى الالتفاف والسير في الطريق الالتفافية اسوة بالفلاحين الآخرين . فلديه قناعاته الخاصة ، فسحب بهيمته وراءه يخوض مياه الشناقة وعلى بعد عشرات الامتار كان قد قطعها غرزت البهيمة وربخت في الماء وفي الوحل شاهده احد الفلاحين وهو يخوض المياه فحذى حذوه وقاد ثوره وسار بنفس الطريق التي سار بها سعد الدين فاصاب ثوره ما اصاب البهيمة . اخذ سعد الدين يعاقب جاهدا باذلا كل طاقاته مستعينا بكل تعويذاته لانتشال البهيمة وتخليصها من الغور . بينما هو في هذه الحالة منشغلا لتخليص بهيمته استذكر سعد الدين "الولي" يوسف الدّحي من قرية الدحي الذي ولد مشوها وعاش كسيحا في حالة رثة ارتدى اطمارا تفوح منها رائحة اسنة كريهة . واذا ما تنقل ينتقل زحفا معتمدا على كفيه ويديه . لكنهم اولوه خارقة ومعجزة فاقت خوارق الرسل والانبياء . روا عنه وتناقلوا خرافات ان بمقدوره التنقل وقطع المسافات في رحلاته وتجواله الى اي مكان او قرية شاء في لمح البصر منحوه قوة الاسراء ليلا او نهارا عند الشروق وعند الغروب تمنى سعد الدين وعقد الامال ان يمر يوسف الدحي من هناك فيراه فيستعين بخوارقه فينتشل بهيمته وعندما خابت آماله في مرور "الولي" الدحي سرح به خياله فاستذكر مشهد جنازة جده الشيخ وهو يطير بجثمانه مع النعش وتراءت له صورة المشيعون وهم يتهافتون ليناشدوا جثمان المتوفى بالكف عن الطيران وهم يرددون : "هدي يا مبارك هدي" فتمنى لو تمر روح ذلك الشيخ من فوق تلك البقعة من سهل البطوف فتساعده على انتشال البهيمة وتطير بها كما كان يطير النعش . استفاق سعد الدين من استذكاراته وتخيلاته على صوط الفلاح خليل ابو علي وهو يعاقب بدوره هو الاخر واضعا ذيل ثوره على كتفه ويشد به الى اعلى مستغيثا مناجيا سعد الدين " يلا يا سيدي سعد الدين " وفي كل مرة كان يشد الفلاح خليل بثوره كان يردد تلك العبارة من الاستغاثة . تبرم سعد الدين وضاق ذرعا من تلك الاستغاثات فصرخ بالفلاح خليل ليكف عن استغاثته فقال مخاطبا الفلاح "ولك يا خليل خلي سعد الدين بحاله لينتشل سعد الدين اولا حمارته " وراحت هذه الحكاية مثلا لتعيش على السن وشفاه الناس حتى اليوم . ولتدخل في فولكلور الحكايات الشعبية وعلى بعد امتار من سعد الدين انتصبت زهرات النرجس الجميلة بلونيها الابيض والاصفر ، فاحت منها رائحة عطرة يعبق منها الجو وانسابت رائحتها مع انسياب تلك النسمات وقد احنت رأسها على غير عادتها لكنها احنته حزنا وخجلا على ما اصاب سعد الدين مرت اسابيع وشاء القدر ان يرحل سعد الدين رحلته الابدية رحلة اللا عودة وسار موكب جنازته عاديا ككل الجنازات غابت من الجنازة العدة والاعلام التي رافقت من سبقه وافتُقِدَت كوكبة قارعي الطبول وضاربي الدف وتوقف تحليق وطيران الجثمان وكف الناس عن المناجاة والتوسل ، واختفت عبارات "هدي يا مبارك هدي" وخلص الناس من الشعوذة والدجل دفنوا سعد الدين ودفنوا معه عهد الخرافات والاساطير.
عمر سعدي *
الجمعة 8/8/2008