بتأخير عامين أسقطت الحرب الخائبة على لبنان الضلع الأخير في المثلث الحاكم التي شنها،حالوتس،بيرتس وأولمرت وانتهت بالنسبة للإسرائيليين فعليا بإسدال الستار أمس الأولعلى حقبة خليفة أرئيل شارون، آخر رؤساء المؤسسين.
صحيح أن التحقيقات والتسريبات الفضائحية حول رئيس وزراء يتلقى مظروفات الدولارات لجيبه الخاص قد شكلت للوهلة الأولى الضربة القاضية التي أنزلته عن مسرح السياسة لكنها في الواقع كانت خسارة متراكمة بالنقاط بدايتها في عمليتي أسر الجنود في غزة ولبنان وصمود المقاومة فيهما رغم إنزال الجحيم على رؤوس عناصرها... مات في بنت جبيل ودفنته مظروفات تلانسكي كما قال نحوم برنيع.
قبل إيهود أولمرت تم طرد إيهود براك وبنيامين نتانياهو من سدة الحكم عقب فشلهما في إدارة شؤون إسرائيل وفق منهجية ورؤية واضحة وبل حركات بهلوانية.
والمشترك بين الثلاثية الفاشلة لا يقتصر على الإطاحة بهم من قبل النظام السياسي والرأي العام فحسب فهم يمثلون الخط الفاصل بين مرحلتين مرحلة القادة المؤسسين ومرحلة القادة الجدد، الشباب مكملي طريق الطلائعيين.
وربما تستبطن قصة استقالة الرئيسين رابين وأولمرت الفارق بين إسرائيل اليوم وإسرائيل الأمس. في حينه نشر مراسل صحيفة هآرتس في واشنطن دان مارغليت نبأ عن وجود حساب مصرفي خاص لزوجة رابين، ليئا خلافا لنظام معتمد وقتذاك ولم يعد معمولا به هذه الأيام. وفيما كانت تلك المخالفة الإجرائية التي تتجاوزها مخالفات سير مرورية أحيانا بخطورتها كافية لتقديم رابين استقالته المفاجئة تشبث أولمرت بمقعده بأسنانه وأظفاره ولم يستسلم قبل أن يقوم بكل المناورات الممكنة في السياسة في محاولة للبقاء رغم بحر الفساد الذي يلفه.
عبر الهوة بين رابين وأولمرت يطل وجه إسرائيل الجديدة المدارة من قبل قيادة موبوءة بالفساد حتى ظهرت الحكومة في العامين الأخيرين عصابة لصوص وزعران وشلة أقزام مقارنة مع جيل المؤسسين في ظل تتابع فضائح الاغتصاب والقبلات الساخنة وسرقات الملايين.
ما يشهده المشهد السياسي اليوم يعكس تيارات باطنية داخل المجتمع الإسرائيلي تتفاعل بقوة بتأثير من العولمة، تغليب حب الحياة والاستمتاع بها على الصالح العام ( يندر أن نسمع "جيد أن نموت من أجل بلادنا) فتور حماس الصهيونية الطلائعية بعد مائة عام على نشاطها المحموم. هذا علاوة على تراخي الصهيونية بعد استنزافها في مواجهات وحروب لا نهاية لها نظرا لاغتصاب حقوق الآخرين والتعويل على منطق القوة والتدليس والرهان على الزمن. إسرائيل القديمة ذات القيادة النظيفة اليدين والكريزماتية وذات الرؤية الواضحة لن تعود باستبدال أولمرت فالتغيير المشتهى إسرائيليا عميق بعمق أزمة القيادة فهذه ليست قصة الإطاحة بتوني بلير في بريطانيا.
في المقابل فإن خضوع كافة الإسرائيليين للقانون حتى كنت رئيسا للحكومة هو نقطة قوة في نظام سياسي حتى لو كان إثنوقراطيا. للمفاضلة فقط هل يمكن لأحد محاسبة لصوصنا من الحكام العرب ممن ينهبون ويسلبون خيرات الأمة منذ عقود؟ فهذه سلطة الرئيس عباس تواصل اعتقال الأكاديميين والصحافيين لمجرد التعبير عن قناعاتهم السياسية وبدبلوماسية.
في إسرائيل فتحت الصحافة العبرية النار على أولمرت دون رحمة وكشفت فضائحه وساهمت في طرده من ديوان رئاسة الوزراء. رغم كل التحفظات من أدائها ودورها السلبي في التحريض على العرب وتكريس عقلية الحرب والنظر عبر فوهة الأمن فإن كلاب الحراسة الإسرائيلية أدت دورا تحسد عليه في مراقبة وكبح المؤسسة السياسية.
وبحسب "نظرية المؤامرة" المعششة في عقولنا أطيح بأولمرت من قبل أوساط اليمين والمؤسسة الأمنية بعدما اقترب من تحقيق السلام مع العرب على غرار ما تعرض له رابين. لا شك أنها نظرية مثيرة ومنطقية في غلافها الخارجي لكنها غير صحيحة فأوراق أولمرت احترقت بعد هزيمته في لبنان وانكشاف تورطه في سلسلة فضائح ليس يسيرا التعامل معها بتسامح.
وعلاوة على الدروس والقراءات السابقة للسلطة الفلسطينية أن تتعلم كيف لا تضع بيضاتها (إذا ظل لديها بيض) في سلة أولمرت صاحب الأقوال الجميلة عن السلام والمراهنة على المفاوضات كخيار يتيم والقيام بملاحقة المقاومة في الضفة الغربية.
لا شك أن كذبة آنابوليس بالخريف الماضي لم تنطل على عاقل لكنها أضرت بالمصالح الوطنية الفلسطينية ولم تنجح بإنقاذ المسيرة السياسية في غرفة الإنعاش بحالة كوما منذ سنوات. ويأتي تنحي أولمرت عن المسرح السياسي تلاوة للفاتحة على روح المسيرة السياسية. في قرارة نفسه يعرف الرئيس عباس أن صلحا لن ينبت من مداولاته مع إسرائيل لكنه ربما فوجئ بسرعة رحيل أولمرت فهل يسارع للعمل الجدي للتخلص من مستشاري السوء أمثال ياسر عبد ربه والعمل الحقيقي لإنجاح الحوار مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وترتيب أوراق البيت الداخلي. أما مواصلة التشبث بالمسيرة السياسية كمصلحة عليا من خلال القول إن ما يجري في إسرائيل فهو شأن داخلي لن يؤثر عليها فهو سراب ومحاولة مفضوحة لطمر الرأس بالرمال أو تشريح جثة هامدة وربما صناعة وهم يبرر استمرار بقاء المفاوضات ينبوعا للمناصب والرواتب والمنح..دجاجة من بيضها السمين يأكلون كما قال نزار قباني.
لكن المقلق ما يخبأه تغيير الخيول في إسرائيل للفلسطينيين بالغد. يحتار الإسرائيليون وفي كديما تحديدا بين تسيبي ليفني النظيفة وبين شاؤول موفاز رجل الأمن لكنهم سيختارون على ما يبدو بمن يسجد للأمن وللعقلية العسكرية أكثر،موفاز. بين هذه وذاك الله يستر من قيام خليفة أولمرت بمحاولة إثبات أمنيته وهيبته العسكرية بإراقة الدماء الفلسطينية على غرار عناقيد الغضب يوم فعلها شيمعون بيرس عام 1996...الله يستر.
وديع عواودة
الأحد 3/8/2008