ضمن مهرجان "مسرحيد"، عُرضت يوم الأحد الماضي مسرحية "الأبله"، وهي مسرحية لممثل واحد من إخراج منير بكري وتمثيل شادي سرور. اسم المسرحية مأخوذ عن عنوان رواية دوستويفسكي الشهيرة التي تحكي قصة الحب الفاشل التي عاشها الأمير ميشكين، المصاب بمرض الصرع، بعد عودته إلى روسيا بعد غياب طويل. بالإمكان اعتبار المسرحية على أنها، إلى حد كبير، مسرحية وجودية تطرح قضايا الموت والمعاناة البشرية وصراعات القوة وتحقيق الذات وغيرها من قضايا الوجود.
بعد خروجي من المسرحية مباشرة، طالعني وجه خالد أبو علي، الذي يعمل في إدارة المركز المسرحي عكا. أنا أعرف خالد وهو أيضا يعرفني، منذ أن عملت مجنِّدا للأموال في نفس المسرح، وعليه، فقد نظرت إليه نظرة لطيفة أرفقتها بابتسامة، الأمر الذي ترك لديه الانطباع بأني قد خرجت راضيا عن المسرحية. ومع أن انطباعه يبقى في جوهره صحيحا، إلا أن لدي بعض الملاحظات عن نقاط ضعف أظن أن المسرحية تعاني منها.
المسرحية تتحدث عن شاب فلسطيني مسجون سوف يُعدم خلال ثماني دقائق. من خلال المونولوجات نفهم ماذا يدور في رأس هذا الشاب. انه فنان، وهذا يعطي المسرحية طابعاً تحليليا، لكونها تلجأ إلى تحليل عالم الفن من خلال أفكار فنان مسجون. هنالك أيضاُ تطرق مباشر إلى دوستويفسكي، إذ من حين لآخر، يقوم الممثل بإجراء حوار معه.
الجانب الوجودي للمسرحية أثار لديَّ أفكارا مختلفة. لقد نجحتُ في التماهي مع الشخصية، ربما لكوني من هواة الفن وربما لأن التمثيل كان جيدا. إضافة، فقد نجح جو المسرحية في أن يثير فيَّ شعورا بالاكتفاء، ذلك لأن المسرحية تتناول جانبا من الحياة لا نفكر فيه عادة، ألا وهو وضع فنان سجين على وشك أن يُعدَم. من خلال تأمل هذا الوضع، بدت لي مشاكلي سهلة وليست ذات أهمية.
عندما نشاهد مسرحية أو فيلما أو نقرأ رواية ما، فإننا عادة ما نميل إلى تصديق ما يطرحه العمل الفني أو الأدبي، حتى وإن كان العمل مُغِرقا في الخيال وحتى لو كان ما يعرضه أو يرويه مستحيل الحدوث. إتّباع هذا السلوك، المعروف باسم "تعليق عدم التصديق"، يمَكننا من الاستمرار في المشاهدة أو القراءة والاستمتاع بالعمل، رغما عن استحالة حدوث ما نشاهد أو ما نقرأ. لكي ننجح في تأجيل عدم تصديقنا أو تعليقه، فإن على القصة أن تُروى، أو المسرحية أن تُمثل، بأسلوب يساعدنا على فعل ذلك. من هذه الناحية، لم تكن المسرحية موفقة تماما لأن التمثيل اتسم في بعض المواضع بالمبالغة الشديدة، إلى الحد الذي بدا فيه أحيانا أقرب إلى تمرين في ورشة مسرحية. فحين يصاب الممثل بنوبة صرع ويبدأ في التشنج والحركات المبالغ فيها، لا يستطيع المشاهد إلا أن يشعر بأن التمثيل مبالغ فيه، الأمر الذي يُصعِّب عليه محاولة "تأجيل عدم التصديق" والاقتناع بمصداقية ما يرى.
المسرحية تقارن وضع الموت بوضع الجنون، وهي تلجأ إلى وصف الجنون وكأنه موت من نوع معين قد يمر به الفنان. وهي تفعل ذلك من خلال وصف العلاقة بين المجتمع والفنان، قبل جنونه وبعده. كذلك تحاول المسرحية أن تناقش أهمية البحث الذاتي لدى الفنان، بحيث يأخذ نصها شكل نقاش يضع أمام الجمهور قضايا هامة ويناقشها. هذا الأسلوب يشهد على نضج النص، وهو أمر قلّ ما نجده لدى كتابنا الذين نادرا ما يكتبون نصوصا تحوي نقاشات تشمل الرأي والرأي الآخر وتحاول أن تجد نقطة الوسط بينهما. إن غالبية النصوص التي نصادفها هي في العادة عبارة عن مونولوجات تفرض حقائق ناجزة لا نقاش حولها.
لكي أنهي، أقول أنه على الرغم من كون المسرحية تقدَّم من قبل ممثل واحد ومن كون الديكور لا يتعدّى نقاطًا من الماء تسيل من أعلى، فإن المسرحية تنجح، من خلال التمثيل الجيد والموسيقى الناجحة والنص المقنع، في أن تأخذ المشاهد إلى داخل صراع فنان يواجه موته. بعد مرور يوم على مشاهدتي للمسرحية، وجدتني أقول لنفسي انه بالنسبة لكل من يعيش مثلنا في هذه الدولة التي تذكرنا دائما بالموت، فإن مسرحية "الأبله" تضع، من دون شك، إصبعا على ما يحيطنا من وجع.
في تعريف بالمسرحية قرأته في مجلة "ترفزيون"، جاء أن المسرحية من تأليف طاقم العمل. على هذه المعلومة أضيف أنة لو أتت أيّة مجموعة بنصف ما في هذا العمل، فسوف يكون في ذلك ما يبرر أن تلتقي ثانية لتكتب نصا آخر.
فؤاد سليمان
السبت 2/8/2008