كندا تعتذر للسكان الاصليين.. من يعتذر للشعب الفلسطيني؟



بعد مرور سنوات قليلة على إعلان الاتحاد الكندي في عام 1867، اقتضت سياسة الحكومة الفدرالية إنشاء مدارس داخلية خاصة بالسكان الاصليين، يزج فيها بالتلاميذ بعد أخذهم عنوة من ذويهم في أبكر سن ممكنة، ويبقون فيها لعشرات السنين منقطعين عن ثقافتهم الأصلية وتراثهم وتقاليدهم ومعتقداتهم الروحية، بغرض دمجهم في المجتمع الكندي الجديد، واستيعاب عاداته وثقافته الغربية البعيدة عنهم... وقد تم خلال اكثر من مائة عام إجبار نحو 150 الف طفل على الانفصال عن عائلاتهم ومجتمعاتهم المحلية وإخضاعهم لعملية غسيل دماغ منظم.
أغلق الجزء الاكبر من هذه المدارس في سبعينيات القرن الماضي، وتم إغلاق ما تبقى منها في العام 1996، وما زال 80 الفًا من تلاميذها على قيد الحياة، يؤكدون انهم  تعرضوا فيها  لسوء المعاملة والاهمال وكل انواع التجاوزات... الجوع والحرمان وحتى الايذاء البدني والجنسي والعاطفي والعنصري، منهم فيل فونتين الذي يتزعم حاليا الجمعية الخاصة بالسكان الاصليين (او المجلس الوطني للمندوبين)، إذ أمضى عشر سنوات في واحدة من هذه المدارس، وقد وصفها للصحافة قائلا: "إن هذه المدارس أسوأ صفحة في تاريخنا، فرضت ثقافة طاغية على ثقافة أخرى، لقد أضر ذلك بقدرتي على إقامة علاقات مع الآخرين من حولي، وان أظهر احترامي لنفسي، كنت أشعر بالخجل لأنني ُولدت من السكان الاصليين...".
ويرى العديد من قادة السكان الاصليين بأنّ تجربة المدارس الداخلية حافلة بأكثر الافعال العنصرية المؤذية التي لم يعرف التاريخ الكندي مثيلا لها في عنفها وفظاعتها، أثرت سلبا على عدة أجيال متعاقبة من أبنائهم، وأن إرث تلك المدارس "لا يزال يثقل كاهل مجموعاتهم التي تشهد نسبا عالية من إدمان الكحول والانتحار أعلى من المعدل الوطني، ومعدل عمر أقل بخمس او سبع سنوات بالمقارنة مع الكنديين العاديين، ودخلاً اقل بكثير من متوسط  دخل الفرد الكندي". وقد تحدث عن هذه الامور أيضا القاضي الكيبكي غيسلان بيكار الذي ينتمي للسكان الأصليين، وأكد في اكثر من مناسبة بأنّ إرث المدارس الداخلية ما زال واضحا يسهل تلمسه، خصوصا في الفارق الاجتماعي والاقتصادي الكبير جدًا ما بين السكان الاصليين وغيرهم من الكنديين الآخرين.
ولهذا تقدمت مجموعات من السكان الاصليين طيلة السنوات الماضية بشكاوى كثيرة، تلتمس فيها تعويضات عن الايذاء البدني والجنسي الذي لحق بعدد كبير من ابنائهم في المدارس الداخلية، وأقرت تقارير رسمية كندية على ضوء هذه الشكاوى بوقوع انتهاكات وإساءة معاملة واسعة النطاق للسكان الاصليين في نظام تلك المدارس، واستجابة لهذه التقارير اصدرت اللجنة القانونية في كندا في عام  1996 تقريرا بعنوان "إستعادة الكرامة: الرد على إيذاء الاطفال في المدارس الكندية"، وعلى ضوئه أعلنت الحكومة الكندية برنامجا جديدا عنوانه: "تجميع القوة: خطة عمل للسكان الاصليين"، دعت فيه إلى شراكة جديدة مع السكان الاصليين تستند على الاعتراف بأخطاء ومظالم الماضي، والتقدم على طريق المصالحة ومداواة الجراح ووضع خطة مشتركة للمستقبل، وعبرت الحكومة ببيان خاص بالمصالحة عن أسفها للذين عانوا من مأسي وتجاوزات المدارس الداخلية.
هذه التطورات التاريخية الكاشفة للحقائق لم تحسم تشابكات العلاقة المعقدة مع السكان الأصليين، مما أدى إلى مواصلة تقديم آلاف الشكاوى من قبل الضحايا الاحياء  المتضررين من نظام المدارس الداخلية ، واستمر هذا الوضع حتى أيار من العام 2006، حيث توصلت الحكومة الكندية والكنائس المعنية ونحو 90 الفًا من الذين عاشوا ذات يوم في تلك المدارس، إلى إتفاق يضع نهاية لسنوات طويلة من الشكاوى القضائية المرفوعة، ينص على دفع تعويض مالي قيمته الاجمالية تقترب من ملياري دولار للضحايا، كما يقضي بانشاء لجنة "للحقيقة والمصالحة".
وقد تم فعلا تشكيل هذه اللجنة وبدأت أعمالها في مطلع شهر حزيران من العام الجاري 2008 برئاسة القاضي هاري لافورم من السكان الأصليين، وحُدّد لها أن تستمرفي تأدية واجباتها  لمدة خمس سنوات قادمة، سيتم خلالها الاستماع للمتضررين وجمع شهاداتهم بهدف الكشف عن تفاصيل انتهاكات المدارس الداخلية المؤلمة، وقد صرح رئيسها عند اختياره: "نحن نعرف ما حدث، وما نود سماعه الآن هي القصص من الناس أنفسهم، ليس من أجل فرض عقوبة، بل من أجل ان نتقدم نحو المستقبل لبناء علاقة جديدة وتفهم أفضل"، كما أكدت الأوساط الحكومية الرسمية أن "المصالحة المطلوبة ليست فقط من اجل السكان الاصليين للبلاد، بل من اجل كل الكنديين، إنها تربية وتثقيف للمواطنين غير الأصليين  ومعرفة ما حدث بالضبط من اجل  العمل معا والتقدم إلى الامام".
ولاستكمال المصالحة المنشودة وتضميد الجراح، طالب عدد من قادة السكان الاصليين ان تقدم الحكومة الكندية اعتذارًا للاحياء من ضحايا المدارس الداخلية، يعلنه رئيس الوزراء بنفسه في احتفال عام، وهذا ما تم فعلا،  فقد قدم رئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر اعتذارا رسميا للسكان الاصليين في جلسة رسمية للبرلمان عقدت خصيصا بتاريخ 11.6.2008، بحضور كافة زعماء الاحزاب الكندية، وأحد عشر زعيما من زعماء السكان الاصليين بلباسهم التقليدي، ومجموعة من الذين عاشوا ذات يوم في تلك المدارس، جلسوا في صفوف  البرلمان الأمامية، بينهم مارغريت وابانو التي تبلغ من العمر 104 أعوام، كما تابع خطاب الاعتذار عشرات الملايين من المشاهدين على مدى اكثر من ساعة عبر قنوات التلفزة.
ردد رئيس الوزراء في مستهل خطابه التاريخي كلمة "آسفون" بخمس لغات: الانجليزية والفرنسية وOjibwa وCree وInuktitut... قدم اعتذاره للسكان الأصليين، ولما يقرب من 80 ألفًا ممن ما زالوا على قيد الحياة من تلاميذ المدارس الداخلية... اعتذر بعبارات صريحة لا تحتمل التأويل، طلب منهم الصفح والغفران، واعترف في سياق اعتذاره لهم بخطأ إبعاد الاطفال قصرا عن ذويهم، وبخطأ إنشاء تلك المدارس، ووصفها بأنها كانت بمثابة مؤسسات للإساءة بحق الأطفال، وأنها أسهمت بخلق فراغ لدى العديد من الأسر بسبب فصل الاولاد وابعادهم عن كنف الامهات والآباء والأجداد، ووعد بعدم تكرار مثل هذه الأخطاء الجسيمة بعد الآن، وكرر "نحن نأسف" و"نحن نعتذر" في نهاية كل فقرة من خطابه، وأكد على أنه باعتذاره "تضع كندا نهاية لواحد من أشد الفصول ظلاما في تاريخها".
بعد انتهاء رئيس الوزراء من خطابه، أدلى عدد من زعماء السكان الاصليين بكلمات تحت قبة البرلمان عبروا بها عن قبولهم الاعتذار، واجمعوا على أن الحكومة الكندية قدمت اعتذارًا مخلصا وحقيقيا، وأنه خطوة مهمة وايجابية لإقامة علاقة جديدة بين كل الكنديين، تقوم على الاحترام  المتبادل، كذلك قدم زعماء الاحزاب الرئيسية اعتذاراتهم أيضا، وتمنوا ان يكون اعتذار الحكومة الكندية نقطة تحول في العلاقة بين السكان الاصليين وغيرهم من الكنديين، وان يتمكنوا كلهم من المضي قدما معا بمختلف ثقافاتهم في بناء علاقات إنسانية يجمعهم فيها حب المكان الذين يعيشون فيه.
غداة إلقاء خطاب الاعتذار انشغلت الصحافة الكندية بهذا الحدث التاريخي الكبير، وعنونت صحيفة "الجازيت" اليومية واسعة الانتشار صفحتها الرئيسية بالبنط العريض جدًا: "آسفون"، وثبتت تحته صورة كبيرة لرئيس الوزراء وبجانبه فيل فونتين بلباسه الهندي التقليدي القديم، وأوردت على صفحة كاملة تصريحات لعدد كبير من ضحايا المدارس الداخلية والدموع تترقرق في عيونهم، تحدثوا عما أحدثته تجاربهم المؤلمة في المدارس الداخلية من أضرار نفسية لهم، وقد استكملت هذه التصريحات بتصريحات  أخرى لزعماء الاحزاب السياسية الكندية، تفيض ترحيبا بالاعتذار وتعبر عن دلالاته الايجابية للتصالح.
اثنان فقط من هؤلاء الزعماء، هما زعيم حزب بلوك كوبيكوا، وزعيم الحزب الدمقراطي، طالبا رئيس الوزراء بأن يلحق إعتذاره التاريخي بخطوة أخرى هامة للغاية لإكمال المصالحة، يتم فيها توقيع كندا على إعلان الامم المتحدة بخصوص حقوق  السكان الاصليين في العالم، الذي صدر في العام الماضي ووافقت عليه 143 دولة في مقابل معارضة أربع دول هي كندا واستراليا ونيوزلندا والولايات المتحدة الامريكية  وامتناع 11 دولة عن التصويت، وأرجعت الدول المعارضة بما فيها كندا سبب رفضها لهذا الاعلان إلى كونه لا يتماشى مع قوانينها المحلية، خاصة وانه يحدد قواعد جديدة للمحافظة على حقوق الانسان الخاصة بالسكان الاصليين وحقوقهم في أراضيهم ومواردهم الطبيعية، وتمتعهم بفرص متكافئة وامتيازات متساوية مع غيرهم من المواطنين.
ورغم عدم توقيع الحكومة الكندية الحالية المحافظة على هذا الاعلان المهم، فإنه من الضروري التأكيد على ان الاعتذارالذي قدمته للسكان الاصليين قد نال تأييد الشعب الكندي بكل أطيافه، واحترام العالم كله لهذه الخطوة الشجاعة التي اقدمت عليها، والتي سوف يسجلها التاريخ لها بكل فخر واعتزاز، لأن كلمة "آسف" ليست بالسهولة التي تبدو بها، خاصة عندما تقدم من أعلى شخص في السلطة، والأمل كبير في أن تستفيد كل الدول من تجربة كندا وتقدم اعتذارات مشابهة لكثير من الاقليات الدينية والاثنية التي ظلمت عبر التاريخ بكل ما ينطوي عليه الظلم من شرور وآثام، وفي مقدمتهم الشعب الارمني الذي تعرض لمذابح جماعية في تركيا راح ضحيتها اكثر من مليون من الارمن وبعضا من الطوائف المسيحية الاخرى كالسريان والكلدان والاشوريين وغيرهم.
وهناك شعب آخر ينتظر إيقاظ الضمير العالمي لإنصافه، هو الشعب الفلسطيني الذي أصدرت الأمم المتحدة لصالحه مئات القرارات التي أكدت على حقوقه الثابتة في تقرير مصيره دون عوائق وفي الاستقلال الوطني والسيادة، ولم تتعامل الاسرة الدولية بجدية مع تلك القرارات... تجاهلت وجودها زمنا طويلا، وتركته لعقود طويلة يعيش تحت الاحتلال في ظل أوضاع بالغة الاضطراب والتفجر، قد تسفر عن فوضى شاملة لا تقتصر على الشرق الاوسط وحده... فهل تنتصر قوى السلام على قوى الهيمنة والاحتلال وتلبى الطموحات الفلسطينية الوطنية؟
إن تحقيق السلام الحق في ارض السلام هو المطلوب الآن، واعتذار الدول التي أسهمت في مأساة الشعب الفلسطيني فمتروك للمستقبل... سوف يتم يوما على نحو مؤكد، تماما كما اعتذرت كندا لسكانها الاصليين بعد عشرات العقود .

* كاتب فلسطيني مقيم في كندا

الدكتور سميح مسعود
الجمعة 1/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع