حزبنا الشيوعي يُحيي 90 عامًا من النضال:
ذكريات خِتيار لم تمُتْ أجياله (30)



*تعرّفنا في موسكو على شخصيات شيوعية عربية مثل الرفيق فؤاد نصار، والرفيق حسين مروّة* وجودنا في الاتحاد السوفييتي، وفي موسكو تحديدًا، كان من الطبيعي أن يدفعنا للعمل على استغلال الوقت بأقصى ما يمكن من التنظيم من اجل التعرف* ترى اغلب المسافرين في المترو يحملون كتابا ويقرأون فيه خلال وجودهم في القطار وخلال تنقلهم من محطة الى اخرى عن طريق الدرج الكهربائي*

 

كانت للرفيق اميل توما بصفته احد القادة الاوائل للشيوعيين العرب في فلسطين، علاقات واسعة مع قادة الاحزاب الشيوعية في العالم العربي، وعن طريقه عرفنا ايضا عن قرب بعض قادة الاحزاب الشيوعية في العالم العربي من امثال الرفيق طيب الذكر فؤاد نصار الذي ذكرته سابقا بانه السكرتير العام للحزب الشيوعي الاردني وابن الناصرة البار، حيث كان في زيارة الى موسكو وقد استضافه الرفيق اميل توما في بيته مع عدد من قادة الحزب الشيوعي الاردني، ودعانا الرفيق اميل توما الى هذا اللقاء، أنا والرفيق طيب الذكر الرفيق سليم القاسم والرفيق نمر مرقس طول العمر له، اللذان حضرا للدراسة في المعهد في اوائل سنة 1967 لمدة ستة اشهر. وفي اللقاء جلسنا وجها لوجه مع الرفيق فؤاد نصار ومع عدد من قادة الحزب الشيوعي الاردني، في الحقيقة انني والرفاق الآخرين شعرنا بالسعادة والفرح بلقاء مثل هؤلاء الرفاق وبشكل خاص الرفيق فؤاد نصار الذي قاسى الكثير من ظلم النظام الملكي الأردني وقد قضى عدة سنوات في سجن "الجفر" الرهيب في الاردن.
وعندما حكم عليه بالسجن عشر سنوات في اوائل الخمسينيات من القرن الماضي، نظم الرفيق حنا أبو حنا قصيدة بعنوان "عشر سنين"، ما زلت أذكرها، حيث قال في مطلعها "عشر سنين وهل تحسبون بأنّ الزمان سيرخي العنان لحكمكم ايها الظالمين عشر سنين".
لقد كان من الممكن ان يكون الرفيق فؤاد نصار احد قادة حزبنا لولا انه كان في العام 1948 في مهمة حزبية على ما اذكر في منطقة الخليل. لقد اشعرنا خلال جلوسه معنا، خاصة نحن الذين لم نعرفه سابقا، بأهمية هذا اللقاء وانه من خلالنا يشم رائحة الوطن الذي ولد فيه وكافح وما زال يكافح من أجله حتى آخر ايام من حياته. وكان هذا الشعور واضحًا جدًّا عنده، عندما ودّعناه وودعنا، فاغرورقت أعيننا جميعا بالدموع لاننا شعرنا وهو كذلك اننا سوف لا نلتقي مرة اخرى خاصة وانه كان قد بدأ يظهر عنده المرض، وهكذا فعلا لم نستطع ان نراه او يرانا مرة اخرى، خاصة انه شعر ان هؤلاء الرفاق الذين يجلس معهم كان من الممكن أن يعمل معهم أو أن يكون مسؤولا عنهم، حيث كنا جميعا من منطقة الناصرة الحزبية المدينة التي ولد فيها وعمل فيها في أوائل شبابه.
وكذلك في تلك المرحلة كنا قد تعرفنا على المفكّر الشيوعي اللبناني الشهيد الرفيق حسين مروة حيث كان في بداية الطريق لانجاز عمله الهام والذي عمل على انجازه سنوات طويلة وكان في النهاية مؤلفًا من جزئين كبيرين بعنوان "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية".
وكانت الطبعة الاولى من هذا المؤلف قد صدرت سنة 1978. وهذا المؤلف او هذا الدراسة هي من اهم الدراسات لكل من يريد ان يتعرف بشكل واضح وصحيح حول الفلسفة الاسلامية المتطورة في ذلك العصر.
لا شك ان وجودنا في الاتحاد السوفييتي، وفي موسكو تحديدًا، كان من الطبيعي أن يدفعنا للعمل على استغلال الوقت بأقصى ما يمكن من التنظيم من اجل التعرف على مختلف معالم موسكو التاريخية وكذلك على كل منطقة نزورها من مختلف أنحاء الاتحاد السوفييتي التي سمحت لنا الظروف بزيارتها. وفي الوقت نفسة كانت ادارة المعهد تنظم لنا زيارات خاصة في مختلف الاماكن التاريخية في موسكو ولنينغراد والى مختلف المصانع الكبيرة، فخلال الأشهر الأربعة من سنة 1966 التي مرّت منذ وصولنا الى موسكو، نظّم المعهد لنا عدة زيارات هامة في مختلف انحاء موسكو، حيث زرنا قصر الكرملين والأماكن هناك التي عمل فيها لينين والحكومة السوفييتية الأولى بعد الثورة الاشتراكية الكبرى، ومن المعروف ان قصر الكرملين هو أحد القصور القديمة والجميلة، وهو كذلك أحد المواقع التاريخية الهامة في العالم وله مميزاته الفنية الخاصة. وأجرينا كذلك زيارة الى ضريح لينين المتواجد في الساحة الحمراء والمحاذي لقصر الكرملين. وقد شاهدنا ايضا في هذه الزيارة عملية تبديل حرس الشرف الذي يقف بشكل  دائم على باب الضريح. يخرج هذا الحرس من الكرملين بمشية عسكرية منتظمة حسب دقات ساعة الكرملين وتكون آخر ضربة لأقدام الجنود مع آخر دقة من دقات ساعة الكرملين. ويتواجد خلال هذا الحدث بشكل دائم المئات من الجماهير الذين يأتون الى هناك من اجل رؤية هذا المنظر الجميل جدا.
كنا نقوم ايضا بزيارات شخصية الى مختلف المواقع في جميع انحاء موسكو من مسارح وحدائق التي تعج بها الحركة والنشاطات الفنية والرياضية، فمثلا ذهبنا الى المسرح الكبير المسمى "بولشوي تياتر"، هذا المسرح التاريخي القديم لحضور إحدى حفلات الباليه، حيث يعرض هذا المسرح بشكل دائم مثل هذه الحفلات وحفلات الأوبرا وغيرها، وكذلك زرنا قصر المؤتمرات حديث العهد والذي بني في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي والذي يعتبر ايضا من أجمل المشاريع المعمارية.
وفي موسكو الكثير من الحدائق الجميلة المتواجدة في مختلف انحاء المدينة والمليئة بالاشجار المثمرة وكل وسائل الراحة الضرورية للإنسان لملء وقت الفراغ. ومن هذه الحدائق الجميلة "حديقة غوركي"، هذه الحديقة الرحبة التي سميت على اسم الكاتب السوفييتي الشهير مكسيم غوركي، وفيها تجد كل تريد من وسائل الراحة ووسائل التسلية الذهنية والبدنية، وتجد ايضا القاعات المفتوحة للجميع وفيها تعرض مختلف المسرحيات لأعظم الكتاب والأدباء الروس والسوفييت لجميع الأجيال الكبار والصغار وكذلك القاعات الرياضية لممارسة جميع انواع الرياضة البدنية ويمر فيها أيضا نهر صغير حيث تمارس فيه رياضة التجديف في القوارب. وفيها أيضا عدد من المطاعم المرتبة والجميلة والمطاعم الشعبية. في الواقع ان هذه الحديقة من اجمل الحدائق، وهي مليئة بالحيوية والنشاط على مدار كل ايام الأسبوع حيث انها تبقى تعج بجميع انواع النشاطات الثقافية والرياضية والاجتماعية، وهذا ما يميز هذه الحديقة عن بقية الحدائق الجميلة المتواجدة في جميع أنحاء موسكو.
ومن المواقع الجميلة جدا في موسكو "المترو"، أي القطار الارضي، الذي تقع غالبية محطاته تحت الأرض. وفي داخل محطات المترو هذه ترى عالما كاملا من الناس حيث قيل لنا في ذلك الوقت انه يقل يوميا اكثر من ثلاثة ملايين مسافر. وبالفعل فإنك ترى مدًّا هائلا مكوّنا من بشر يسيرون بهدوء وانتظام تام وعمليا لا تسمع الا صوت الاقدام تجري خلال تنقلك من محطة الى اخرى، لأنّك ترى اغلب المسافرين يحملون كتابا ويقرأون فيه خلال وجودهم في القطار وخلال تنقلهم من محطة الى اخرى عن طريق الدرج الكهربائي. وهذا الواقع هو المميز الأساسي في تلك المرحلة للشعب السوفييتي الذي أحب القراءة واحب استغلال كل لحظة من وقته بشكل مرتب ومنظم وبشكل خاص القراءة، هذه الظاهرة تراها في مثل هذه الأماكن وفي الحدائق ايضا بشكل دائم .
ان محطات القطار الارضي التي تمر بها تجدها قطعة فنية جميلة وكل محطة تختلف ترتيبها ومنظرها عن المحطات الاخرى وهي فعلا قطعا فنية بكل ما يعنيه الفن من جمال ومعنى.
ان الذي يزيد موسكو رونقا وجمالا هو نهرها المعروف باسمها أي نهر موسكو. ان هذا النهر في الواقع لم يبق على طبيعته الاصلية بل ان ذهن الإنسان استعمل هنا من اجل الجمال، حيث عملت ادارة بلدية موسكو بشكل مبرمج ومنسق على تغير مجراه وطابعه الأصلي حتى يصبح اكثر جاذبية وجمالا، وعلى هذا الاساس عملت على إحداث تغييرات في مجراه من أجل ان يمر بأكثر ما يمكن من الأماكن في مختلف احياء موسكو، والهدف هو ان يتمتع بجماله اغلب سكان مدينة موسكو. وهذا بالاضافة الى كثافة الغابات الجميلة التي تحيط بالمدينة، والتي تكون دائما مليئة بالمتنزهين وبشكل خاص في ايام الاحد والاعياد.
ومن الايام الجميلة التي عشتها في موسكو كانت احد ايام الشتاء المعروفة في روسيا عندما طلب مني احد أساتذتي الذي كان يدرسنا تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي مرافقته الى رحلة صيد الاسماك الى احد المواقع على أطراف نهر موسكو. ومن المعروف ان الانهر في فصل الشتاء تكون متجمدة وهي عمليا تكون ملعبًا كبير لجميع الناس العاديين والرياضيين الذين يمارسون هواية التزلج على الجليد وهذه الهواية هي اكثر الهوايات المحببة لاهالي موسكو والروس بشكل عام، وكذلك ممارسة هواية الصيد في مثل هذا الفصل. وفي الواقع عندما وصلنا الى هذا الموقع الذي اختاره الأستاذ كان المكان قد امتلأ بالهواة من جميع الأشكال. وكان الاستاذ قد احضر معه كل لوازم صيد الاسماك، واحضر معه كذلك كرسيين من اجل ان نجلس ونمارس هذه الهواية ومن اجل القيام بذلك بدأ بحفر حفرة كبيرة نسبيا في الجليد حتى وصل الماء وبدأنا برمي الصنارة الى الماء من خلال هذه الحفرة وهذا المنظر اول مرة اراه، وبالرغم من البرد الشديد فقد كانت هذه العملية جميلة جدا، تجلس انت وترى آخرين يجلسون ويمارسون نفس الهواية ومن حولك ترى جموع كبيرة من الناس تمارس هواية اخرى وهي هواية التزلج على الجليد، وكان الهدف ليس كمية الأسماك التي نصطادها مع انه اصطاد كمية قليلة من الاسماك ولكن الشيء المميز هو قضاء يوم جميل، وكان أحد أجمل الأيام التي عشتها في حياتي.
ومن الايام الجميلة ايضا كانت الرحلات التي كنا نقوم بها في ايام الصيف، حيث كنا نقوم برحلات في السفينة داخل النهر، حيث نخرج من المحطة المخصصة للسفن والقوارب الصغيرة ونبحر في النهر اكثر من ساعتين وهناك في احدى المحطات ننزل في غابة من اجمل الغابات وتعود السفينة الى محطتها الاولى ونحن ننتشر في الغابة ومعنا كل ما يلزم من اجل قضاء يوم جميل في احضان الطبيعة الخلابة، يوم مليء بالسرور والفرح والجو الإنساني والرفاقي الذي لا يمكن ان يمحى من الذاكرة أبدًا. وفي ساعات المساء، تعود السفينة لتعيدنا الى حيث انطلقنا بعد أن قضينا هناك أكثر من ستة ساعات في هذا الجو الجميل والهادئ.

توفيق كناعنة
الجمعة 1/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع