"لماذا أُحِبّ عكّا؟!"



(1)


-أُحِبُّ عكّا لأكثر من سببين.
كيف تحقّقتُ أنا نفسي من هذين السّببين؟!..
لم يكُن ذلك سهلا ..
أنا من النّوع الذي لا يستطيع أن يغمض جفنيه بينما تنام داخله "حقيقة" جاهزة من
هذا النّوع – أقصد "حقيقة ما أحبّ" ..
ولو كلّفني ذلك صحّتي ..فأنا لا أستطيع النّوم ..حتّى أصل إلى السّبب- أقصد سبب كون الأمر الذي أحبّه "حقيقة"!
إنّها "إشكاليّة كبرى" معترف بها حتّى في مجال نظريّة المعرفة وفلسفة العلم.
 فحينما يؤكّد المرء وجود  أمر ما، فهو يعتبره حقيقيّا.
من هذا المنطلق تهتمّ فلسفة المعرفة بالبحث عن حلول للعديد من المسائل الفلسفيّة المتعلّقة ب"الحقيقة". ولكن أوّلا تحدّد أي نوع من الاشياء يُعدّ حقيقيّا وأيّها زائف- غير حقيقي.
وأنا متأكّدة من كون إسم "عكّا" محفورا في قلبي، بعد ان اجتمعت شرايينه ،خلافا لخريطة القلب الغيريّة، لتؤلف معا  كلمة "عكّا".
من هذا المنطلق كانت لي وقفة تأمّل شخصي حذر لمعالجة أمر"الحفريّات" ذلك الذي تمّ على القلب المسكين. ولِمعالجة هذا الاشكال، توجد عدّة نظريّات حول ما يجعل الأشياء "حقيقيّة".
ترى النّظريّات القويّة، أنّ الحقيقة خاصيّة، في حين تصفها النظريّات التفريغيّة
(Deflationary) بأنّها ليست سوى وسيلة من وسائل اللّغة.
و"محبّتي لعكّا" هي ميزة من ميزاتي الظّاهرة لعيان أصدقائي "الحقيقيّين"..
محبّة حتّى العنادة.
وعنادتي  هي سرّ وجودي:
-"أنا عنيدة" ..إذن أنا موجودة!
-"أنا أفتّش وأنقّب" ..إذن أنا موجودة!
-و"أنا أحبّ عكّا" ..فإذن أنا موجودة ..قطعًا موجودة!

-"لماذا أحبّ عكّا؟"


أحبّ عكّا لأكثر من سببين.
كيف أيقنتُ أنا نفسي بهذين السّببين؟!
لم يكُن سهلا التّيقّن من ذلك..
سهرتُ..
فتّشتُ..
نقّبتُ..
وفكّرتُ حتّى ملّ عقلي منّي وناولني الاجابة يأسًا من "عنادتي".

-"لماذا أحبّ عكّا؟"


إنّها قصّة طويلة ..تبلغ من العمر ستّين عامًا..
إنّها قصّة لم تنته..فهي لم تصل نقطة النّهاية..
إنّها قصّة من الجدير نعتها بالرّواية..

-"لماذا أحبّ عكّا؟!"

أحبّ عكّا لأكثر من سببين.
ستقرأ أنت بعينيك الاجابة بكلّ بساطة بعد جلدتين "أكلتهما" أنا على جلدي..
حتّى وإن لم تكلّفك أنت معرفة الاجابة  سوى "مسحة" سريعة من عينيك,الاجابة حتّى فازت بها عيناك أنت بكلّ بساطة, كلّفتني أنا صحّتي..وسهري ليال طويلة.. وقراءة كتب كثيرة من الفلسفة مرورا بحضارة اليونانيّين وحضارة كلّ أمّة ،منذ كانت تبحث الفلسفة عن أصل الوجود في أيّام طاليس مرورًا بأيّام زينون والسفسطائيّين وسقراط الذي أنزل الفلسفة من السّماء إلى الارض لإشاعة الفضيلة بين النّاس والصّدق والمحبّة ، حين اعتمد العقل والمنطق ،كأساسين من أسس التّفكير السّليم الذي يسير وفق قواعد تحدّد صحّتة أو بُطلانه.
تابعتُ تطوّر مواضيع الفلسفة خلال فترات تاريخيّة متعاقبة وهي ليست وليدة يومها
 فرأيتُها تصبح  أكثر تعقيدًا وتشابكًا في مواضيعها حتى رافقتُ الفلاسفة (وأخيرا)عند التأمّل في مفهوم "الحقيقة". فسألوا أسئلةَ حرجةَ حول طبيعةِ هذا المفهوم..حتّى تجرّأت أنا لأسأل"لماذا أحبّ عكّا؟"..


.....

وكلّفتني الإجابة أيضا حتّى فازت بها عيناك أنت بكلّ بساطة قراءة كتب كثيرة من التّاريخ..يعود إصدارها إلى أكثر من ستّين عامًا..
يعود إصدارها إلى موجات شبه الجزيرة ابتداء بالكنعانيين وأبجديتهم ..،قدسهم ،أريحاهم ،عسقلانهم ،غزّتهم ..وعكّتهم.. مرورا بالانفاق وتأمّلا بالأسوار..
 وصولا بالعبرانيّين ودخولهم دور التّنظيم ،داوود  فهيكل سليمان..
 فالفلسطينيّون  من كَريت وبحر إيجة..إلى غزة جنوبا إلى ما بعد جبال الكرمل شمالا
فالحكم الآشوري وزوال مملكة اسرائيل..وانتصار البابليّين ونبوخذ نصّر وترحيل سكّان يهودا إلى بابل وتدمير الهيكل..
وهزم الفرس للبابليّين والاستيلاء على فلسطين وسماح "قورش الفارسي" بعودة إلى أورشليم  ..هزيمة الاسكندر الأكبر للفرس ،موته.. فوقوع المسكينة بيد السّلوقيّين والبطالمة الذين دمّروا الهيكل..
فالرّومانيّون –عند استبدال الفارسي باليوناني ..وحرق مكان الهيكل بأصابع "هدريان" الكبريت ف "إيلياء" التي هجّرت اليهود..فالمسيحيّة ..فالقدس بؤرة للحجّ المسيحيّ فأغسطوس فولادة المسيح في بيت لحم فإلى النّاصرة..

"لن يبقى حجر
على حجر"
(عن الهيكل)


فالانقسام فالشّرقية البيزنطيّة ومنها فلسطين التي فتحها الاسلام لاحقا..
القدس فالقِبلة الأولى فالاسراء والمعراج..
فانتقال السّلطة إلى بغداد فالاهمال فالسّلجوقيّون، فالفاطميّون، والغزوات الصّليبيّة
فمجد الحضارة الاسلاميّة  مرورا بصلاح الدّين..
فالامبراطوريّة العثمانيّة..
عصر النّهضة في أوروبا..
ونهضة الظّاهر عمر:

"قف على دار بها الحسنى        تجلّت بالزيادة
دارة البدر بها اللي               ث استوى والعود عاد
شادها عثمان ذو الإحسان       من أعطي السّيادة
فانظر التّاريخ سهلا             هذه دار السّعادة"


 
مرورا بالمشروع العمراني .. بباب العمدان وحجارة جامع الجزار بقبّعته الخضراء تفوح منه رائحة خرائب قيسارية وعتليت والنّخيل العتيق..
فانكسار نابليون أمام "المُحصّنة"..ساكبا غيظه على السّفينة :

" لولا ذلك الرّقيق البوشناقي لغيّرت العالم"!

وظلّت عكّا بأسوارها المنيعة "قاهرة نابليون"،من رمى  قبّعته ليظلّ معصم عكّا الجميل وسواره الأجمل..


" بأمر الله هذا السور قاما
بعكا من فتى بالخير قاما
أبى الفرسان ظاهر المفدي
أعز دولته دواما
فباطن بابه الرحمات فيه
وظاهره العذاب لمن تعامى
وذا بالله صار حمي فأرخ
بناك الله فخر الأياما"

....

اللاسامية..
فهرتسل و"أرض الميعاد" كحلّ "للمشكلة اليهوديّة" ..
فالبريطانيّون ،الوعد الكاذب والمراسلات المخادعة مع الشّريف حسين..
تمرّد العرب .. فخنجر سايكس بيكو..

يونيو الثّورة العربيّة ..
فعلم وأربعة رموز للاستقلال والتّاريخ:
الأسود العباسي
الأخضر الفاطمي
الأبيض الأموي
والأحمر الثّوري


"يا علمي-  يا علمي
يا علم العرب أشرق واخفق- في الأفق الأزرق يا علم
لبنيهن الاباة كيف لا –  نفديك كل خيط فيك
دمعة من جفنهن خفقة من صدورهن- قبلة من ثغرهن يا علم
يا علمي-  يا علمي
يا علم العرب أشرق واخفق- في الأفق الأزرق يا علم"


(قبل الاستيقاظ ينتحر الحلم..
لكنّه حلم ميّت ميّت دون الحاجة للانتحار..
فلا قيمة للاستيقاظ..)

العلم لم يُشرِق.. ولم يخفق..وفي الأفق خازوق "من العيار الثّقيل"..
خازوق بلفور ال 17......
.....

فأوغسطوس ال 29-  قيام أصحاب الهيكل  بإحياء  ذكرى تدميره..
واستفزاز في البراق..
ذكرى المولد النّبوي بعد يومين..
وتقاطر الأمّة على حائط البراق..
فصِدام..
وتهمة "حبّ فلسطين"..
فسجن عكّا سنة الثّلاثين:

"كانوا ثلاثة رجال يتسابقوا عالموت
أقدامهم عليت فوق رقبة الجلاّد
وصاروا مَثَل يا خال وصاروا مَثَل يا خال
طول وعرض لبلاد…

يا عين…..

نهوى ظلام السجن يا أرض كرمالك
يا أرض يوم تندهي بتبيّن رجالك
يوم الثلاثا وثلاثة يا أرض ناطرينك
مين اللي يسبق يقدّم روحه من شانك
 
يا عين….

***
من سجن عكّا طلعت جنازة محمد جمجومِ وفؤاد حجازي
جازي عليهم يا شعبي جازي المندوب السّامي وربعه عموما
محمد جمجوم ومع عطا الزير فؤاد حجازي عزّ الذخيرة
أنظر المقدّر والتقاديري بحْكام الظالم تيعدمونا..."
 
 

(دقيقة حداد!)
.......

فالمحرقة النّازيّة مع ضحايا.. "في ظلّ القمر"..
وضحايا على ضوء القمر..
فالتّعاطف الأوروبيّ والعالميّ مع الأخيرين..تحت الشّمس..
فالتّأرجح..
المواجهة  وغياب الزعماء في السّجون والمنفى ..
فترجيح الكفّة لصالح بن غوريون..
فقرار الأمم المتحدة..
هجوم  فهزيمة ..
وهجيج..
ف 780,000 لاجىء فلسطيني..
فانتكاب..
....

وطوت عكّا برملها الحار أوراقا عدّة من التّاريخ.. إمتداد خمسة آلاف سنة.

جرح..
فقرارات الشّرعيّة الدّوليّة..
فالقرار  194 (3).. الفقرة الحادية عشرة -
لمن خرج خروجا
ومن خرج دخولا..
وانتظار..
فالتهاب الجرح..
واحتراق عروس بحر عكّا- فتاة السّاحل،مَن استحمّت بنار النّكسة حتّى الموت:


 
غسان وسميرة – "الانسان" ..
و"ساعة" الاثنين
هل من فارق بين الموتين؟!

"يا سميرة، يا أختي، ورفيقتي في المنفى والطموح والإنسان. لقد وصلت، لقد تعبت وبكيت وتعذبت وتهت في سيناء لا حدود لها، ولكنك وصلت... ها هو سور عكا الثقيل الذي هزه الانتظار يشهد، وتل الفخار يشهد، جامع الجزار يشهد، أيكفي أن نكرمك بوعد.. إذاً فنحن نعدك".
 
 
 
وانتظار..
وعكّا لا تزال تجلس القرفصاء على الشّاطىء تتألّم وتنوح.. تستمرىء عكّا تعذيب نفسها وتتفنّن في تمريغ رأسها في الرّمل الحار وتطوِّر ماسوشيّتها فتتسلّى بتمزيق خدّها ببضع صدفات حادّة على الشّاطىء فتترك كمّا هائلا من الخدوش على الخدّ المُدمّى..فتستمرىء تعذيب نفسها من جديد إذ تقوم بشطف الخدوش بمياه البحر المالحة  وتقوم فتهدأ حينا آخر لتترك انطباعا بإنّها مراهقة رياضيّة..تمارس رياضة الانتظار..
تختبىء في برج السّاعة.. في خان العمدان .. يتراءى لها الباشا أمامها فتناوله حزّورة ظريفة:
-" أنا من أنا  يا عبد الحميد ؟؟!!..
أنا أقع على ساحل البحر الابيض المتوسط في نهاية الرأس الشّمالي لخليجي، فهل عرفت من أنا ؟!..
أنا ضالّتك المنشودة!.. فهلا عثرتَ عليّ؟! "..
سُرعان ما اختفت مثل الصّغار في ردهات نفسها.. في القلعة ..في المنارة .. في حدائق البهائيّين.. ودخلت الشقيّة إلى كنيسة سانت جون فإلى خان الفرنج ..فإلى خان الشّواردة ..وبحركات بهلوانيّة قفزت بين قناطر مياه الكابري  فوقعت سجودا في جامع الرمل  لتقف بعده راكعة في  جامع الزيتونة.. فصلّت وشكرت نهاية  في مسجد الميناء:

سُبحان الذي خلقني ..وسُبحان الذي سوّى من بَناني!
سُبحان الذي خلقني ..وسُبحان الذي سوّى من بَناني!
سُبحان الذي خلقني ..وسُبحان الذي سوّى من بَناني!


 وقفت مداعبة أمام مقام عليه السّلام  وسألت : كيف حال النّاقة يا صالح؟!..
إعتلت صخرة عتيّة داخل البحر، لم تتمكّن منها الامواج، نظرت جنوبًا صوب أختها حيفا وخاطبتها:


أختي يا حيفاي.. يا من تقفين عند نهاية منفاي
عرشك الكرمل الأشم يتوق لقبلة، فخذي: لك شفتاي!

غاليتي يا حيفاي يا من عانق كرملك هذا الفم
شاطئك يبكي الحال وأنا خدّشت وجهي ،خذي: فهذا دم!

قامت إلى حمّام الباشا الخالي من النّوافذ ،تعرّت دون سبب يدعي للخجل لتستحمّ بأنواره القادمة عبر الزجاج الملوّن في سقفه المقبّب وعادت لتطلّ على الفنار لتقول له قبل غلبة النّعاس:


تصبح على برج السّنجق!


وقعت متعبة فتتمدّدت هي على الرّمل حتى الصّباح..تمارس رياضة الانتظار من جديد..
وانتظار..
والقرار لم يتعدّ الإصدار..
وانتظار..
ولم تتوفّر معاني لتنفيذ القرار..
وانتظار..
وانتظار..
جرح وزَّم!
وزَّمْ!
وزَّمْ!
زَمْ!
زَمْ!
زَمْ!


يا سامعي وطالع بإيدك وَزَّم الجرح في روحي و"زَمْ زَمْ"
تعال تبسّم في وجهي خذ بإيدي شفاهك افردها بلا "زَمْ زَمْ"!

يا  سامعي وطالع بإيدك نزّ الجرح في روحي "دَمْ دَمْ"
تعال اغسل دموعي عن عيون قلبي عم يخفق"غَمْ غَمْ"

يا سامعي وطالع بإيدك حنّ الجرح في روحي للوطن "شَمْ شَمْ"
تعال حطّ اصبعك على جرحي  واشبك روحك بروحي "ضَمْ ضَمْ"

يا سامعي وطالع بإيدك جرى الجرح في روحي "يَمْ يَمْ"
تعال وطبّب لي جروحي وكون الدّوا إنت "كَمْ كَمْ"

يا سامعي وطالع بإيدك تخدّر الجرح في روحي "هَمْ هَمْ"
تعال وحبّب الجرح فيّي وقول للجرح "نَمْ نَمْ"

يا سامعي وطالع بإيدك تمادى الجرح في دمي"سَمْ سَمْ"
تعال "وا مسيحي" امسحه بإيدك يلتئم تا اقول أنا "تَمْ تَمْ"!

.....
 
-"لماذا أحبّ عكّا؟؟؟!!!"


"بكلّ تعقيد مبسّط " أحبّها لأنّ..
-"حافلة البروة" هي التي تؤدّي بي إلى عكّا!

-"لماذا أحبّ عكّا؟؟!!"
أحبّ عكا لأكثر من هذا السّبب.
أحبّ عكا "ببساطة مبسّطة" لأنّ..
- "حافلة البروة" هي التي تعود بي من عكّا!

-لماذا أحبّ عكّا إلى هذا الحدّ ؟!


أحبّ عكّا لأكثر من هذين السّببين..
أحبّ عكّا أيضا لأنّها, باختصار..
-لأنّها "عكّا"!
يتبع..

عاشقة عكّا

بنت البروة– إستقلال بلادكم
من المحيط إلى الخليج

إستقلال هيبي
الجمعة 1/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع