كنت في السودان، خلال الايام الماضية، بعد انفجار قضية المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، لويس اوكامبو، وتوصيته للمحكمة بتوقيف الرئيس عمر البشير بعد تحميله مسؤولية الانتهاكات في مناطق دارفور. ذهبت الى السودان قلقا من تكرار التجربة العراقية، عبر سيناريو شبيه او مماثل نتيجة سلسلة من القرارات الدولية التي خصت السودان، فالقلق مشروع، حيال بلد عربي مستهدف كما كان العراق ومايزال، مثلما هو الحال مع سورية والجزائر بأدوات مماثلة او مغايرة، فلكل بلد عربي خصوصيته: يجدون الذرائع والاسباب والدوافع والعناوين لرصده وإدانته، على طريق تطويعه او تركه عرضة للعواصف السياسية والاقتصادية تأكل به حتى تنهيه.
السودان هو المرشح بعد العراق، بسبب نظامه السياسي. فالقائمون على النظام وقادته، لديهم نزوع استقلالي، ولديهم رؤية طموحة اسلامية وقومية وافريقية وعالمية، يتوسلون لها وبها في خلق نموذج سوداني عالي الهمة ومقتدر، تساعدهم في ذلك امكانات اقتصادية وموارد طبيعية ثرية، من بترول وذهب، وحيوانات لاحمة، وإنتاج زراعي وفير، وشعب تعددي يقترب من الاربعين مليونا، وموقع جغرافي مهم مطل على البحر الاحمر، ومحاط بتسعة بلدان، فالسياسة والموارد والجغرافيا مصدر قوة للسودانيين وعنوان طمع وماهية اهتمام لدى القوى الدولية المتصارعة او المتنافسة.
ذهبت الى السودان قلقا، وعدت مطمئنا، ليس لأن السودان ونظام الانقاذ وحزب المؤتمر الوطني الحاكم، مالكين لمفاتيح سحرية غيبية غير واقعية وظفوها لمواجهة اعدائهم في الخارج وخصومهم في الداخل، او ان لديهم ادوات مخفية قادرة على فك الحصارات المتعددة المفروضة عليهم وقادرة على احباط البرامج المعدة ضدهم.
بل عدت مطمئنا نتيجة لقاءاتي مع قادة المؤتمر الوطني وقادة القوى السياسية الاخرى المشاركة والمعارضة للحكومة الائتلافية بين حزب المؤتمر والحركة الشعبية، فهم يملكون المفتاح الذهبي لخوض المعركة بنجاح، ويملكون الارادة والقرار والانحياز لقضية واحدة عنوانها "الوحدة الوطنية" والعمل على توسيع "القاعدة الاجتماعية" و"القاعدة السياسية" لنظام الحكم، فمن دون هذه القاعدة الواسعة من الشراكة لا يمكن مواجهة "العدو"، ومن دون معالجة الاختلالات الداخلية وخصوصا في دارفور لا يمكن قطع الطريق على توصية اوكامبو ولجم اجراءات المحاكمة وتواليها وتداعياتها، فالقضية ليست قانونية بل هي سياسية بامتياز واضح وعلني بلا مواربة، والقانون والاجراءات والتوصيات هي مجرد ادوات لخطة سياسية تستهدف السودان وتقويضه وتركيعه وتمزيقه.
اول رد فعل للرئيس كان دعوته للقوى السياسية السودانية، وتوضيح الصورة لهم والمكيدة المرتبة للسودان وطلب مشورتهم، ولم ينتظر حثهم وطلب مشاركتهم حيث تباروا وتنافسوا معبرين عن وطنيتهم رغم خلافاتهم مع السياسات الرسمية، والفجوة القائمة بين بعضهم وبين حزب المؤتمر والحركة الشعبية، ومع ذلك عبروا عن استعدادهم للمشاركة والتماسك والوحدة في وجه "أي أجنبي"، فالأولوية للسودان والسودانيين عربا وأفارقة، مسلمين ومسيحيين، فالسودان للسودانيين وليس للعرب وحدهم او للمسلمين وحدهم، بل هو للعرب ولغير العرب وللمسلمين ولغير المسلمين، تحكمهم المواطنة والعشرة والشراكة، وهي مصدر فخرهم، رغم وجود الخلافات والتباينات بين القوميات والديانات، ولكن تداعياتها تتراجع امام قوة التناقض بين السودان ووحدته ومصالحه العليا من جهة، وبين الاجنبي الذي لا يريد خيرا للسودان، من جهة اخرى.
الوحدة الوطنية بين السودانيين، اتفقت اولا على المبادئ القائمة على تبرئة شخص الرئيس من أية مسؤولية او تبعية فرضتها التجاوزات التي مسّت حقوق الانسان، وثانيا تبرئة القوات المسلحة باعتبارها حامية الوطن وسياجه، وثالثا إدانة ومعاقبة اي شخص تورط في اي عمل فيه مساس بحقوق الانسان السوداني.
وهناك سعي لإجراء المصالحات مع القوى السياسية المسلحة المعارضة للنظام ودعوتها للحوار، سواء تلك التي وقعت اتفاقا مع الحكومة او استنكفت عن ذلك:"الفصائل ثلاث: الاولى برئاسة في اركو مناوي سبق له وان وقع على اتفاقية ابوجا مع الحكومة في شهر ايار/ مايو من العام 2006، والثاني برئاسة عبدالواحد محمد نور وهو مؤسس وزعيم حركة تحرير السودان وقد كان من المفترض ان يوقع على اتفاقية ابوجا ولكنه تراجع في اخر لحظة، والفصيل الثالث يرأسه الدكتور خليل ابراهيم زعيم حركة العدل والمساواة، والفصائل الثلاثة تشكل العمود الفقري للقوى السياسية المسلحة في دارفور".
يضاف إلى هذا استمرار العمل بالخيار الديمقراطي، عبر اجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية واللوائية في العام القادم، على قاعدة القانون الذي اقره البرلمان الانتقالي بمشاركة وموافقة الاغلبية الساحقة من القوى السياسية السودانية.
العمل على حل المشاكل الداخلية هو اساس النجاح في لجم القوى الخارجية، وعدم إعطائها الفرصة للتدخل والتسلل الى الوضع الداخلي، وهذا ما تم الاتفاق عليه بين الاطراف السودانية، وهذا سبب ثقتي وتفاؤلي وعودتي مطمئنا الى صلابة الموقف السوداني واعتماده على نفسه وتماسكه ووحدته الداخلية، وهي الصخرة المجربة لهزيمة اي برنامج أجنبي ضد ارادة شعب، يتوق للحرية والكرامة والندية والاستقلال.
* الخرطوم
hamadehfaraneh@yahoo.com
حماده فراعنة *
الأربعاء 30/7/2008