الى تيسير حيدر...مع حبّي



نعم كبرنا يا تيسير...لكنّنا صغرنا أيضًا...ها هو الصبيّ يخرج من مغارة شيخوختي...يرى"العريض"* من على شرفة المنزل متقدّماً... آلاف الأمتار...يصعد إلى قمّته عدواً... يحتضن صخرة الصوّان البيضاء...قابضاً على الحلم الذي غادره لنصف قرن...ويبكي!...

 ***

ها هو الآن يسير الى مدرسته... بضعة مئات الأمتار...متذكّراً كيف كانت المسافة تتجاوز الكيلومترات...ها أنذا أراه من جديد منتعلاً جزمتيه المطّاطيتين...غارقاً لمنتصفه في الثلوج...هارباً من صقيع الماء القارص مالىء الجزمتين...إلى شرح الأستاذ...ها هو يعود الى ما قبل الإندثار...

 ***


اليوم يتمرأى باللّون الذهبي لسجّادات "الإلبي"** المتشمّسة على السّطوح...صاغياً لوشوشة الدواري المتخمة...تجتاح عروقه حرارة الضوء...تتسرّب روحه من ميازيب تمّوز...يستحمّ جسده برائحة الغار...يبتلع التراب الأحمر، أمام ناظريه، زبد الهزائم...يتصوبن العار في صدره بالليف البازغ من جلد الأسطورة...يعود البحر أزرقاً فوق الوهاد والرّوابي...تعتمر شتلات التّبغ لآلئها...معانقاً مرّها مرّ حبّات الزيتون...ليسيل الزيت على دخان التّعب...معطّراً بحلاوة فوز الحياة على الموت...ورحيق الإنتصار...وأريج فلسطين المشرق على جبين القنطار...

 ***


تيسير...على مسمع الآذان التّائقة للطرب الأصيل...تزقزق الحساسين بطولاتها...تروي البحانين انتصارات الأجنحة المتحرّكة الصغيرة على الثابتة العملاقة...ها هي (زينب) مفاخرة: "وقفت ومشيت على اللحم الحيّ لساقيّ المبتورتين...لأنني عشت زمن الوقوف والسّير الى الأمام"...ها هو الختيارالأعزل (أبو رمزي)  يتباهى بمشيه، منتصف الليل، إلى وسط البلدة ليقبض على من اعتقده جاسوساً يطلق النار علامة للعدوّ...ها هم يروون باعتزاز كيف رفضت (عليا)، التي لم تأكل منذ ثلاثة أيام، استلام الطعام من مقاوم "لأنكم أحوج منّي اليه"...وها هم يتداولون بمرح كيف ناشد (موسى)، العجوز (أبا محمد)، أن يقرأ أدعيته بصوت منخفض - بينما كانت السماء تمطر أصوات القنابل - لأنه يريد أن ينام...هكذا صار النوم أصعب مع تلاوة الدعاء منه مع صخب الانفجار...

 ***


تيسير...تعلّمتم من الخلد حماية الحياة الحرّة...ومن النمل تخزين مؤن البقاء الكريم...كلانا يا صاح كبر على طريقته...طائرا فينيق صاعدان من الرّماد...أحدهما جزء من تبديد أسطورة الفناء...والآخر حمل جسده المتجمّد بصقيع الإغتراب ليتدفأ بأشعة الشمس المشرقة من فوق الأكفّ السّمراء...

 ***


وكلانا صغر أمام قطرة من دماء الشهداء...وأمام أمّ الأساطير...ذاهبة بنا الى ما قبل قبل زمن الهزائم...وما بعد بعد العزاء...

 ***


تيسير...هيّا نستعيد ونستمتع بأحلامنا...البيضاء...الخضراء...الحمراء...والصّفراء...


------------------


 
* "العريض": أحد الجبال المحيطة ببلدة عيترون.
* "الإلبي": القمح المسلوق قبل تنشيفه وجرشه لتحويله إلى برغل.

حبيب فارس
الأحد 27/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع