موت في البحر الميت (الحلقة الثالثة):
لا شيء يخدع أكثر من السعادة



لا شيء يخدع أكثر من السعادة! قلت لنفسي.
قالت مبتسمة وليست ساخرة هذه المرة: هذه الجملة ليست من إبداعك.
قلت تلك الجملة، التي هي ليست من إبداعي حقا، وأنا سائر في حي المستعمرة في زمارين، زخرون يعقوب اليوم، متأملا بيوت الحجر الوحيدة التي احتفظ بها المستوطنون اليهود، وحولوها إلى مطاعم وحانات للبيرة، سابحا في ماض أتخيل من خلاله وحدة ألكسندروني التي احتلت الطنطورة واقترفت المجزرة الرهيبة في 23/5/1948، كنت حينها في بطن أمي، في الشهر الثاني من تكويني. أتخيل الجنود وهم يلاحقون ضحاياهم في الأزقة، يقتلون بدم بارد، وقد حاصروا القرية من ثلاث جهات، وأبقوا جهة البحر منفذا للذي يريد أن يهرب، أو يغرق. وأنظر في الوقت نفسه إلى أحفاد وحدة ألكسدنروني الذين يتمتعون في المطاعم والحانات، ولا يعرفون حتما أن من تحتهم على شاطيء البحر 250 جثة مقبورة في قبر جماعي، تحول إلى موقف للسيارات.
قلت لغجريتي المتململة في أحشائي: تعالي نشرب كأس نبيذ لأشرح لك من أين لي تلك الجملة، وأريدك أيضا أن تبدئي بسرد قصتك، بكلماتك أنت. لقد حان الوقت، أليس كذلك؟ دخلت الحانة، استقبلتنا نادلة شقراء بزيها الأسود الذي أضفى على جسدها الأبيض مشحة ايروطية، أعادت إلى ذهني، لبضع ثوان، شريطا ايروطيا صوره ماضي الجميل التعيس في جمهورية ألمانيا الديمقراطية.
أجلستنا، وأنا أنظر إلى مؤخرتها. ضحكت غجريتي وقالت: هل ترى؟ أنت لست بحاجة بأن تكون على فراش الموت، ولست بحاجة أن تتخيل. انظر إلى أطياز النساء اليهوديات كما يحلو لك، لن يزعجني ذلك، ما دامت مؤخرتي هي التي تغريك، وتتمناها أيها المتقوقع في أزمنة غابرة، عظيمة بالنسبة لك، والتي تصبح أعظم كلما ابتعدت عنها...وأنا أقول لك: لا جدوى من التشبث بالأزمنة العظيمة.
انطلقت من جوفي ضحكة ساخرة، متقطعة: هذه ليست كلماتك!
أعرف كل شيء عنك! قالت. هذه ليست كلماتي، إنما كلمات قرأتها أنت في رواية "ميديا أصوات" للكاتبة الألمانية كريستا وولف، أنا أعرف ماذا تحب، وما الذي يثيرك.
طلبت كأس النبيذ، نبيذ بوردو الفرنسي.قرأت دهشة النادلة اليهودية على وجهها، عندما طلبت نوع النبيذ. لم تتخيل أن زبونا عربيا يعرف البوردو. عرفت أنني عربي، لأنها سمعتني أتحدث إلى زوجتي بالهاتف الخليوي، قبل أن أجيبها على سؤالها: ماذا تطلب سيدي!

 لاشيء يخدع أكثر من السعادة! قالتها ميديا على لسان الروائية كريستا وولف الألمانية، التي كتبت رواية كاسندرا، تلك الشخصية، التي سباها أغاممنون، ملك ملوك اليونان، بعد انتصار اليونانيون على الطرواديين، وتنبأت بمقتل أغاممنون على أيدي زوجته التي خانته مع أيجيست، وتنبأت بمقتلها هي أيضا على أيدي تلك المرأة.

لا شيء يخدع أكثر من السعادة!
شربت رشفة شرهة من النبيذ الفرنسي. وسألت نفسي:ألا أستطيع أن أحكي حكايتي وحكاية تلك الغجرية بمعزل عن التاريخ المأساوي للقضية الفلسطينية، بمعزل عن المجازر التاريخية والمعاصرة التي ارتكبها اليهودي الصهيوني، وما زال يرتكبها حتى يومنا هذا؟ ألا أستطيع أن أسرد الجميل، وفقط الجميل في حياتي، وتلك الغجرية هي أحد مركبات هذا التاريخ الجميل؟
لا شيء يخدع أكثر من السعادة! كم كنت صادقة يا ميديا. وكم كنت على حق عندما قررت الانتقام من الذين اعتدوا على سعادتك. لست معترضا على نهوض شهوتك عندما التقيت بياسون الجبان، الحقير. وقد عرفت أن الشهوة المبالغ بها تسير بنا إلى الحضيض. كنت سعيدة عندما اكتشفت رجولة ياسون الزائفة، الذي حصل على مبتغاه من جسدك، ومن خيانتك لقومك. فهمت شهوتك في اللحظات الأولى، وفهمت انتقامك، ولم أغضب عليك عندما قتلت أولادك.
الطنطوريون كانوا سعداء، تغنوا بسعادتهم، قرويون على شاطيء بحر الأبيض المتوسط، غنوا أغاني الصيادين، رقصوا حتى أنهكوا أجسادهم، ومارسوا الحب مع نسائهم بعد أن أتوا إلى نسائهم بشبكات مليئة بالأسماك الجميلة، وكانت المرأة الطنطورية تمارس الحب مع زوجها وهي تقاهر أجمل سمكة اصطادها. هل كانت المرأة الطنطورية تغار من الأسماك الجميلة؟

 

غجريتي أجابتني على سؤال محرج وقالت: بالطبع ! عليها أن تغار. المرأة تغار من  حركة الهواء الذي يحيط زوجها، من الممكن أن يحتوي هذا الهواء على رسائل، برائحته ، وصوته،الرجل يا عزيزي يبحث عن شهوته في الهلامية المحيطة به.
الطنطوريون كانوا سعداء، وأبي، صاحب بيارات البرتقال والكلمنتينا على شاطيء سيدنا علي، وشواطيء تل أبيب ويافا، كان سعيدا، وأمي التي تزوجها أبي عندما كانت بنت 15 سنة، كانت سعيدة، وكل الفلسطينيين الساذجين حينها كانوا سعداء، ولم يعرفوا ماذا خبأ لهم القدر. هل خدعتهم سعادتهم؟ هل قتلونا مثلما قتلت ميديا أطفالها؟

أنت تبالغ بشكل لا يطاق! قالت لي غجريتي. أنت تتحامل على تاريخك كله!
قلت لها هاربا من نقاش لن ينتهي إذا بدأته في تلك اللحظة:  دعينا الآن نشرب النبيذ، واحكي لي حكايتك!
قالت مبتسمة وواثقة من نفسها: لا! ليس في هذا المكان وأنت تنظر إلى أطياز اليهوديات.
شربت ما يعادل الزجاجة من كؤوس النبيذ التي جلبتها لي النادلة الشقراء، ذات المؤخرة الايروطية. خرجت لكي أطل على الطنطورة. غجريتي انتظرتني، هناك، مطلة على شاطيء الطنطورة. قالت بهدوء ساحر:الآن سأبدأ، علني أستخرج من باطنك السبب الذي أودى بك إلي.

******

عندما سمعتها تقول: سأبدأ الآن، شعرت بنخزات في داخلي، ثم اختناق، ضيق تنفس، دوخان، وشعور بقرب التقيؤ، وكأنه الوحام الذي تتحدث عنه النساء، وذلك الوحام، الذي ذكرني بوحام زوجتي بحملها لابنتي...ولأول مرة أقارن عملية الكتابة، التي ترتبط بالذاكرة، بعملية اللقاح، أو فلنقل عملية النكاح، انه النكاح مع الواقع، مع الذاكرة...
قالت: ما بك؟ هل أنت مريض؟
قلت: أشعر بالدوخان، وأريد أن أتقيأ.
قالت: تقيأ كما يحلو لك! لن أقرف من تقيئك!
ابتعدت عنها بضع خطوات، أدخلت إلى رئتي كمية هائلة من الهواء الآتي من شاطيء الطنطورة، دقات القلب تسارعت، ابتعدت خطوة أخرى، حاولت أن أنظم نظام تنفسي بوتيرة تعيد نظام دقات القلب، معدتي خانتني، لم تتجاوب مع الهواء الداخل إلى رئتي، إلى جسدي. نظرت إليها، ابتسامة ارتسمت على شفتيها، ليست حزينة، ليست فرحة، ابتسامة محايدة. قالت وهي ما زالت محتفظة بابتسامتها: أعرف! انه أبي! يريدني أن أعود إلى سباتي في داخلك.
تقيأت أباها الذي صرخ في وجهي وقال: هذه الدولة بنيت على جريمة.
قال جملته هذه واختفى. ركضت أبحث عنه في شوارع وأزقة زمارين، وصدى جملته تتردد في فضاء المدينة المغتصبة، وعلى ما يبدو ترددت في أجواء فلسطين من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب. أصابني الغثيان من هذه الجملة، لأنني تخيلت نفسي أسمع جوقة مؤلفة من عشرات، بل من مئات آلاف الأصوات تردد الجملة، بلحن غاضب. ميزت صوت أبي من بين مئات آلاف الأصوات، ثم تلاه صوت أمي، واستطعت أن أميز عشرات الأصوات. أبي لم يقل هذه الجملة أمامي، أمي لم تقلها، وهي التي شردت وطردت من بيارات البرتقال والكلمنتينا، التي أورثها لها أبوها، والذي لم يحرم أي بنت من ارثه المادي، بل أعطى بناته أكثر مما أعطى خلفه الذكوري.
توقفت في حي المستعمرة، أبحث عن ذلك الأب، أبو غجريتي، ذلك المخلوق الذي كان في داخلي، خجلا من لحظة ولادته الكتابية، هذا المخلوق الذي يخجل من ظهور ابنته على صفحة كتاب، لأنه يعتقد أنها زانية، أو خيل له ذلك. تخيلته بسيطا، ككل البسطاء الذين فقدوا في حينه، حين النكبة، كل ما يملكونه من ارث مادي، ووجدوا أنفسهم بلا معين، وبلا سند، واضطروا أن يبدأوا حياتهم في المهجر، ذلك المهجر الذي اسمه الآن إسرائيل. عاشوا في مهجر أساسه وطنهم.
هذه الدولة بنيت على جريمة! بدأت أكرر الجملة، وأخرجها من فمي ومن داخلي بإيقاع سمعته من الجوقة، عله يسمعني، عله يشعر بالتضامن، عله يتوقف في زاوية ما وأنا أبحث عنه. لم أره، لم أشم رائحته. جننت. أريد، أود أن ألتقي بأبي غجريتي وجها لوجه، لأسمع منه، لأحسه، لأضمه إلى صدري، فقط لأنه أبو غجريتي.  أصابني الجنون، جنون البحث عما أفتقده أنا على ما يبدو. وجدت نفسي واقفا أمام الحانة التي شربت فيها النبيذ، وكانت النادلة ذات المؤخرة الايروطية واقفة أمام الحانة لتصطاد زبونا يشرب النبيذ، وينظر إلى مؤخرتها، ابتسمت وقالت لي: هل تريد أن تشرب البوردو؟ نظرت إلى عينيها والى صدرها المندفع كصدر غجريتي وقلت: هل شاهدت عجوزا يركض ويقول: هذه الدولة بنيت على جريمة؟ قالت لي ساخرة: أنت تقصد ميديا التي قالت: هذه المدينة بنيت على جريمة. قلت: ودولتكم بنيت على جريمة. قالت لي: أذن، اذهب واقتل أولادك أيها المعتوه مثلما قتلت ميديا أولادها.
قلت لها: أريد أن أشرب النبيذ. قالت: والعجوز الذي تبحث عنه؟ قلت:سأجده. دعيني أشرب النبيذ وأنظر إلى مؤخرتك، التي تشبه مؤخرة غودر ون: قالت أدخل واشرب ما يحلو لك. كان همها أن أدخل وأشرب النبيذ، لم تسمع اسم غودرون، ولم تهتم لمعنى ترديدي لتلك الجملة، وأنا أردت أن أستريح لبضع دقائق لأجمع قواي لأبحث عن أبي غجريتي.
من الذي كان يتحدث إلي؟ النادلة أم غجريتي؟
جلست إلى نفس الطاولة، مسحت العرق المتصبب على وجهي، شممت رائحة أعرفها، رائحة خمرة معتقة منذ مئات السنين، وضعت النادلة كأس البوردو، بخفة، بحركة راقصة، واستدارت، نظرت إلى داخل الكأس، الأحمر، الصافي، وإذ بي أرى وجه غجريتي.، وجه تلك البدوية الخارجة لتوها من الحمام. قالت لي: أنت تحبني. قلت لها: كيف لا وأنا الذي خلقت ملامحك. قالت: اشرب كأسك وابحث عن أبي! انه ينتظرك في إحدى زوايا زمارين، أريدك أن تسمعه قبل أن تسمعني: سألتها قبل أن تختفي: ما قصده من تلك الجملة: هذه الدولة بنيت على جريمة؟ قالت: هذه ليست جملته، إنها ميديا التي تتحدث في داخلك، تلك الميديا التي قتلت أولادها، وأنت على ما يبدو تريد أن تقتل شيئا ما، تريد أن تقتلني أيها الكاتب...أعرف أنني ضحيتك، أعرف أنك ستقتلني.
اختفى وجهها من داخل كأس النبيذ الأحمر. رشفته مرة واحدة، والنادلة تقترب مني، وضعت الكأس على الطاولة بهدوء، وقلت لها: الحساب! قالت مبتسمة: الكأس على حساب المحل، على حسابي! سألتها: ما اسمك: قالت: ذات المؤخرة الايروطية. ابتسمت، خرجت دون أن أعقب على جوابها الاستفزازي، وذهبت أبحث عن أبي غجريتي.


                                   

******


لست حزينا، ولا أستنهض الحزن، وليس الحزن هو مادة هذه الرواية، والحزن ليس موضوعها.وأنا لست الموضوع. لعلني أبدو للقاريء في أسلوب سردي أنني محبط، وأنني على وشك ممارسة لذة الانتحار، لذة البوذي الذي يحرق نفسه احتجاجا على كل أنواع البؤس والظلم و.......كل ما في الأمر أنني في حالة أورغازما الذاكرة، تلك الأورغازما التي تفيق من سباتها لكي تنبهني أنني إنسان طبيعي، لا يخلو من الأمراض، ولا يخلو من جماليات هذه الحياة، ولا يخلو من تاريخ جميل أنتجته وأنتجه حتى الآن.  نحن ننتج الجميل، وفي الوقت نفسه ننتج القبيح. هذه هي جدلية لا مناص منها.

******

وجدته منكمشا على نفسه تحت شجرة خروب تهنأ في وحدتها، شجرة لم تقدر وحدة ألكسندر وني على اقتلاعها، شجرة فرحت لزيارة هذا المخلوق المنسي، أبو غجريتي. نظرت إليه وهو منهمك بتقشير ثمار الخروب، لم يشعر بوجودي، لم يشعر بوقع خطواتي.كان يلتهم حلاوة الخروب،ويمضغها في فمه، وكأنه طقس وحشي لإعادة التذوق، تذوق تاريخ جميل، تاريخ ذائقة وطن لم يعد وطنه.
قلت له: أعطني قرن خروب!
قال وهو ما زال يمضغ حلاوة الخروب: افرض أنني أعطيتك، هل ستشعر بحلاوته؟ وأضاف: الخروب كان اللذة، لذة المضغ، لذة استسقاء حلاوة الحياة، أن تمضغ قرن الخروب، يعني أنك تتوق إلى حلاوة الحياة، تلك الحلاوة التي افتقدتها، ونحن يا بني، نهيم الآن لكي نبحث عن حلاوة الخروب.
وكان صمت. صمتي وصمت الطبيعة.حركة الريح الخفيفة في تلك الليلة توقفت. أوراق شجرة الخروب تجمدت. الطيور الهائمة في السماء جمدت طيرانها وأدارت نظراتها الى ذلك الأب الذي يمضغ حلاوة الخروب وأنشدت: هذه الدولة بنيت على جريمة!
قال لي وهو ما زال يمضغ الخروب: هل تسمع الطيور الهائمة تغني: هذه الدولة بنيت على جريمة؟ وأضاف: عما تبحث أيها الكاتب التعيس؟ عن قصة زانية؟ التي هي ابنتي؟ لقد غفرت لها زناها.
تركته يهنأ بمضغ حلاوة تاريخه. وأصخت سمعي إلى جوقة الطيور التي تنشد حسب حدسه أن هذه الدولة بنيت على جريمة...
انتظرت حتى ينهي عملية المضغ، مضغ تاريخه.نظرت إلى أعلى شجرة الخروب، لم أر أي قرن. نظرت إلى الأرض، لم أر أي قرن كامل بتكوينه، لقد التهم كل القرون.لقد التهم كل تاريخه، وأراد بذلك، حسب ما استطعت أن أستوعب، أن يخفي هزيمته.

******

لماذا أرادت أن أسمع أباها في البدء، قبل ان تبدأ هي في رحلة سعادتها وآلامها؟ لم يكن يهمني أن أجد الإجابة، كل همي هو أن أسمع القصة، كل همي  أن أتلصص على حكايتهما. واستوعبت الآن ماهية مرض الكاتب، مرض التلصص على مصائر الآخرين، واستوعبت مصدر هذا المرض في هذا الجيل، جيلي أنا، الذي تعب مبكرا من أعباء الألم والسعادة الخادعة أحيانا. كل منا يخوض تجربة "جميلة" أو أكثر، السعادة تغمرنا، تلفنا بعباءة وردية، تبدو لنا في البدء أنها شفافة، ننظر من خلالها إلى العالم بكليته ونقول: الغد لا يهم، متعة اللحظة هي الأهم، في تلك اللحظة، يخيل لنا أننا نحضن العالم في جماليته الفلسفية، لقد حضنا العالم في شبابنا، وأردناه ورديا، ورسمنا ألوانه، صعدنا الجبال الثلجية، ولعبنا، وضحكنا، وقبلنا شفاه زرقاء من شدة البرد، وأعدنا لها لونها الطبيعي، شربنا الفودكا والشنابس، هيلجا ومونيكا، وراينهولد، وأنجيليكا كن داخل هذه العباءة الوردية الشفافة، ونسينا " أمنا الأرض" نسينا النضال، ونسينا التفرقة العنصرية، ونسينا حكايات آبائنا وأمهاتنا عن النكبة، وعن التشريد، نسينا المجازر. نسينا دير ياسين، والطنطورة، وكفر قاسم، لفنا هذا العالم الجديد بالعباءة الوردية الشفافة، التي اسودت، وقالت لنا عندما اكتمل سوادها: عليكم أن تعودوا إلى منابعكم الكئيبة، لقد أديت وظيفتي، واكتمل الوهم. وأستوعب الآن أنني كلما أزحت عن كاهلي عباءة اكتمل سوادها، كنت أستنهض قواي الجسدية والعاطفية، كنت أستنهض شهوة الحياة لكي أجد عباءة وردية جديدة، وكانت تبدو دائما أجمل من العباءات السابقة....إلى أن استوقفني الزمن وقال: إذا أردت أن تستمر معي مسيرتك، فعليك أن تهجرني، عليك أن تعود إلى جزئي أنا الذي يؤرقك...لا تخف! سأنتظرك. قلت له: هل تريد أن أتلصص على ماضي أنا؟ قال هازئا:نعم! لا تستطيع أن تحكي حكاية غجريتك دون أن تنظر الي أنا، الزمن، الذي أتاح لك ممارسة الحزن والألم، ممارسة جدلية حياتك. قلت له: والمكان: قال: المكان يكرهني، لأنه يريدني أن أتوقف، المكان لا يريدني أن أكمل الدورات الطبيعية، لأنه ثابت، مشكلته في عدم قدرته على تجديد جوهره الذي كان. ويريدني دائما أن أثبت. قلت له: إذن دعني أدور معك! ٌقال: لن تجد مكانا متحركا مثلي، أنت الذي يتحرك، وليس المكان، والمكان ربط مصيره بحركتك أيها الطفل الساذج. صرخت : لماذا تسميني طفلا؟ قال: كلكم بالنسبة لي أطفال، حتى لو عشتم معي أكثر من ألف سنة، أنا هو المتجدد دائما بورديته وبسواده. وأضاف: اختر الفترة التي تريدها مني لكي تكمل حكاية غجريتك.

******

هل أرادت أن تسمع منه أولا أنه غفر لها زناها؟
قالت لي وأنا في خضم تعبي من هذا اليوم، وكانت الساعة تشير الى الواحدة ليلا، وزوجتي لم تعرف ماذا أصابني من مرض اسمه الزمان: أعرف أنني ألخص كل تاريخك حتى الآن. لقد سمعت ما قاله لك الزمان. أنت تستعملني لكي تحكي قصتك أنت، وقصتي هي ثانوية أيها الكاتب.نعم! لقد مارست الزنى.
نهضت بهدوء من فراشي، أردت أن ألتقي بها ثانية في حديقتي.
قالت وأنا أنزل درجات الطابق الأول من بيتي: أبي ليس ككل الآباء الذين تعرفهم. لم أرد أن أقاطعها بأسئلة تافهة، وأضافت: أبي هو ابن النكبة، مثلك، يكبرك بثماني سنوات. عد اليه ولا تتركه وحيدا تحت شجرة الخروب.ولا تترك نفسك تحت شجرة حياة وهمية.
وقفت فوق العشب الأخضر في حديقتي، أدخلت الى رئتي كمية كافية من الهواء،، لكي أستنهض قواي في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وإذ بشاب يصرخ، كان واقفا إلى جانب جدار بيتي: ماذا تريد مني أيها الكاتب؟ أنت تلف وتدور، وتحكي حكايات تافهة، لا تعني بالنسبة لي أي شيء. ماذا تريد أن تقول؟
قلت له هادئا: تعال واسمع...قال: زوجتي تريد نهاية الحكاية!
قلت له: ستموت في البحر الميت.
قال وهو يترك المكان: كلنا سنموت أيها الكاتب! والسؤال هو كيف؟
قلت له وهو يترك المكان: المهم لماذا نموت.؟
قال هازئا: كل من عليها فان.
نعم! كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإحسان. ويقول هايديجر: نولد لكي نحضر أنفسنا للموت....هل تاريخنا هو تحضير أنفسنا للموت. ألهذا السبب نمارس الزنىالجميل، لأننا نعرف أننا فانين. الزنى المغلف بالعباءة الوردية الشفافة، التي ستتغطى بالسواد، حين نعي أن زنانا كان فقط متعة لحظة؟
أسأل نفسي الآن: عما أبحث؟ لماذا أكتب الآن؟ ولماذا أبحث عن قصة متخيلة؟ التاريخ يسري في نفسه دون أن يسأل أحدا، التاريخ لم ولن يعبأ بأسئلة المظلومين، والمظلومون متقوقعون على أنفسهم وبيأسهم ولا يحق لهم أن يسألوا الزمان ماذا فعل بهم،لآن عليهم أن يٍسالوا: ماذا فعلنا بأنفسنا.؟ والمكان هو الثابت، المتغير بشكله، ولكنه يحفظ الذاكرة دائما، والزمان يهزأ به بقوله دائما: دوري هو أن أراكم لك الذاكرة، وأن أحملك أعبائي.، لأنني أريد أن أتخلص من أعباء الأغبياء، الذين يؤمنون بي،  أنا هو المتغير، الغادر، سارق المتعة، وأنا أسرق منك متعتك، ومتعة المتعلقين بك. ألم تسمع أغنية ذلك الولهان الذي غنى: امتى الزمان يسمح يا جميل، واسهر معاك على شط النيل؟ أنا الذي يسمح، وأنا الذي يقرر كيف ومتى يلجأون إلي. الماضي هو أطرافي التي لا توجعني أيها المكان. فاهنأ بدموع الذين خلقتهم لك، الذين يعيدون رقصة السعادة الوهمية، التي أبدعوها في جوهري، والآن يحاولون أن يقلدوا ما أبدعوه على أطرافي، التي لا تتحمل يأسهم وحنينهم، ولهذا السبب يسمونني بالغادر، ٍسأمضي بغدري، وسأمضي بخلق المآسي لك، دوما، وسأعدك بذلك. ألم يقل لك كاتب هذه السطور على لسان ميديا: لا شيء يخدع أكثر من السعادة؟ أنا هو الزمان الذي لم ولن يعد أي مخلوق بالسعادة. أنت هو الكاذب. أنا لا دخل لي، لأنني أعرف مقولة الله: كل من عليها فان...ولا أسأل ماذا سيبقى، لأنني لا أعرف ما يخطط عقل المتمسكين بك عبر ما يخلقونه من أوهام...

******

ماذا ستفعل الآن؟ قالت لي.وأضافت هادئة:هل انتهيت من بلورة فلسفة حياتك حول المكان والزمان؟ أنت تهرب من تاريخك ومن قصتك المتخيلة عني، قصتي ليست متخيلة أيها الكاتب! أنا جزء من تاريخك، وأنت تلجأ إلى التورية، لأنك جبان، وجبنك هذا هو عائقك وعائق مستقبلك الإبداعي.لن تستطيع أن تكمل روايتك إذا تمسكت بجبنك.
قلت لها: أنا أحبك!
قالت: هذه بداية جيدة! وماذا بعد!؟
قلت لها منكمشا على نفسي: في رأسي حكاية عن زانية وهمية اختارت موتها في البحر الميت.
قالت: هذه أنا التي في رأسك، وماذا بعد؟
قلت: لقد ماتت!
ضحكت، واهتز جسدها، تخيلتها تهتز راقصة أمامي وتحتي، في فندق من فنادق زمارين، زخرون يعقوب اليوم، تخيلتها وهي مغطاة بأوراق ورد الجوري الأحمر، وأنا ممسك بزهرة ورد الجوري بفمي، أمررها على جسدها، ثم أصل إلى خليجها، لأشم رائحة الوطن. رغم أنها زانية، وتعرف كل أصول وقوانين الزنى، كانت خجلى، وكأنها تلتقي لأول مرة في حياتها مع رجل.
عاد ذلك الشاب، الذي قال لي زوجتي تريد نهاية الحكاية، وصرخ في وجهي هذه المرة:
- زوجتي تريد أن تقرأ قصة حب بدون تعقيداتك الفلسفية، وبدون تلك التفاصيل المملة التي أعرفها، لا تحاول أن...
قاطعته صارخا في وجهه: اذهب إلى زوجتك واكتشف ما بداخلها أيها الغبي!
صرخت في وجهه، وتوقف لساني عن حركته عند سرتها. قالت: لن أسمح لك أن تصل بوردتك هذه إلى خليجي. عليك أن تنهي سرد روايتك، روايتي، حينها سأسمح لوردتك أن تلامسه، وسأرمي بوردتك لكي يلامسه أنفك ، وتشم رائحة الوطن المفقود.! ,أضافت: هل يعجبك تعبيري الأدبي الذي بحثت عنه؟
قلت لها متخاذلا مع نفسي: تعالي نبحث عن أبيك!
قالت ببرود لم أتوقعه: أنا مشتاقة إليه. أعرف أين هو!

كانت الساعة تشير إلى الرابعة بعد الظهر، موعد زيارته اليومية إلى قبرها.

******


كان مقرفصا إلى جانب القبر، بين يديه القرآن الكريم، يقرأ بصوت حزين، مندندا رأسه، الذي تلفه " طاقية" بيضاء محاكة، ظهره حناه الزمن والمأساة، حناه الزمن الغادر، ذقنه حليق، مجعد كطيات الزمن التي تخبيء بين ثناياها كل أحزانه، حزنه غريب، يحتفظ بابتسامة فرح وسعادة، إلى جانبه سلة " بلاستيك"، مخرمة. نظرت إلى السلة لأفحص ما فيها، رأيت: قطعة قماش مخملية، لونها بوردو، على ما يبدو أنها غلاف القرآن.مقص، لتقنيب الشجر، وبالفعل كانت إلى جانب القبر شجرة خروب ، مقنبة باهتمام. قطع قماش بيضاء لتنظيف القبر، الذي وجدته بالفعل نظيفا،، وحروف الكلمات المنحوتة الملونة بالأسود تلمع هي أيضا، لأقرا النص: أنا أبوك، غفرت لك كل شيء، ولن أغفر للزمن.
وقفت إلى جانبه ولم أنبس بأي كلمة، لأنني أردت أن يستمر بغفرانه لابنته. نظرت إلى اليسار، وإذ بي أرى شاهدا لمناضل كبير، فلسطيني قتل في أحد المعارك في سنة النكبة. ابتسم داخلي، واحتفظت بسؤال قفز من رأسي مباشرة، سأطرحه عليه عندما يتفرغ لمساءلتي له.
قالت لي: احتفظ بهدوئك.تمعن به أيها الكاتب! انتبه لكل حركة، لكل التفاتة منه، راقب الناس الذين تكتب عنهم. راقب كيف يحركون أيديهم عندما يتكلمون، راقب تقلبات نظراتهم، راقب حركة التجاعيد على وجوههم.
قلت لها: على ما يبدو أن الديدان في الأرض لم تقترب من جسدك. أتصورك كاملة حتى في مماتك.
قالت:يبدو لي أنك لم تر وجه ميت في حياتك. كيف لكاتب أن يكتب عن الأموات ولم ير وجه ميت؟
ارتعش جسدي، وسالت الدموع فجأة، ابتعدت عنه لأنني كنت خائفا أن أجهش بالبكاء وأقطع توحده مع ابنته، مع غجريتي الميته الآن، في هذه اللحظة.
قالت: تذكر الآن ما يؤلمك، لكي تتفرغ لألم الآخرين.
كيف ألخص لها ما يؤلمني؟ وإذا ما بدا شريط الذاكرة يتحرك، لن يأتي دور ذلك الأب المقرفص إلى جانب قبر ابنته، ولن يأتي دورها هي لكي تملي علي حكايتها. لم أر وجه أمي ولا وجه أبي وهما ميتان. وبعدها رفضت أن اقترب من الأموات الذين أعزهم. أعطيت لنفسي التفسير: أريد أن أحتفظ بوجوههم الحية. لكي أبرر ضعفي. بلى أيتها الغجرية رأيت وجه غودرون.سأصمت الآن. تبا لك أيتها الدموع، ألم ينضب نبعك؟
أكمل! قالت. كيف رأيت وجه غودرون؟ قلت لها صارخا: هذه قصة يطول سردها ويطول شرحها. دعيني أواجه هذا المخلوق قبل أن يفلت مني!

 

ما الذي يؤلمك أيها المخلوق؟ قال بنبرة ساخرة. نظرت إليه، كان قد أدخل القرآن إلى الكيس المخملي، تناول الشرائط القماشية البيضاء، وبدأ يمسح الغبار عن القبر. لم يكن أي غبار هناك. رخام القبر يلمع. وضع الشرائط في السلة المخرمة، وبدأ يلامس الرخام بيديه المجردتين، وكأنه يريد أن يلامس جسدها، وقال: لقد غفرت لك!
مد قامته أمامي إلى الأعلى، محاولا إخفاء انحناءة ظهره، تنفس عميقا، تراجع خطوتين إلى الوراء وقال: ها أنا ذا أمامك! ابدأ أيها الكاتب بوصفي إن استطعت!
دققت في وجهه الحليق، في التجاعيد التي تخفي في طياتها غدر الزمن، في عينيه اللتان ما زالتا تحتفظان ببريق يأبى أن يزول، في تلك الابتسامة اللافرحة واللاحزينة، إنها بين بين، في حاجبيه العريضين. أما داخله؟ فأنا أنتظر شكل ومضمون البوح، بوحه.
هز رأسه مبتسما، لم أستطع أن أحلل ابتسامته، ولم أعرف لماذا ابتسم. انتظرت أن يتكلم.لم أرد أن أغتصب الكلام، تركته يجمع كل قواه لكي يبدأ. توجه إلى السلة، وتناول منها قطعة قماش مخملية، تحتوي بطياتها على شيء ما، لم أستطع أن أميزه، قماش مخملي، نفس القماش الذي يلف القرآن.
قال: لقد عددت ما تستطيع أن تحس به في داخل هذه السلة أيها الكاتب المبتديء! ولم تستطع أن تميز جوهر هذه السلة البلاستيكية المخرمة، لأنك مبتديء! سرد الرواية، رواية الناس البسطاء مثلنا، يحتاج الى نفس طويل، طويل جدا. يحتاج الى تدقيق، وليس الى تفسير وتبرير لمأساتك أنت. لقد استمعت الى داخلك، حين طرحت على نفسك جدلية الزمان والمكان، ذلك النقاش الأبدي، الذي لن ينتهي، سيقرأون روايتك وسيقولون: ما أروع هذا الكاتب. وسيأتي بعدك روائي ينفي نظريتك وسيقولون: ما أروع هذا الكاتب. أعرف أنك تستغل رواية متخيلة لكي تحكي روايتك. وسأساعدك بذلك، وبكلمات بسيطة، وأحيانا ستصدر عني، أنا الإنسان البسيط عبارات لم تتخيل حتى في منامك، أنها ستصدر عنك، فدعني أكمل ما ابتدأته في زيارتي لقبر ابنتي.
وجه نظره الى القماش المخملي، وبدأ ببطء مميت يدير الطيات ، وتوقف عند آخر طية وسأل: ما رأيك؟ ماذا سترى بعد أن أكشف لك ما بهذا القماش المخملي، نفس القماش الذي يلف القرآن؟
استمر هذا المشهد الذي أصفه أكثر من ساعتين. في لحظة طرحه علي السؤال سمعت صفارات سيارات متواصلة ومتقطعة، وأغان تنطلق من السيارات نفسها، وأغان لنساء فرحات يغنين:ادعس يا شوفير ادعس بلا بنزين، وحمولك عرايس يا شوفير.
تجمد كل واحد منا أمام الآخر، وهو ما زال محتفظا بالطية الأخيرة. اختفت الأصوات، واختفت ابتسامته في لحظة انكشاف السكين، الذي أخفاه القماش المخملي، ذلك القماش الذي لف القرآن الكريم.
قال بدون مقدمات: اشتريت هذا السكين بعد أن صليت صلاة الجمعة في الجامع الأقصى، في القدس، القدس الشريف، لكي أنقذ شرفي..... ولم يعرف هو، ولم أعرف أنا كيف ولماذا انهمرت الدموع من عينيه. كانت الساعة تشير إلى موعد صلاة المغرب، ودرجة الحرارة أكتر من عشرين درجة في هذا لصيف الحارق، الذي حرق نبتة الخس الهادئة، التي تهديء أمعدة المحروقين في هذه الحياة.
أنا أهذي. أعرف.ولكن هذياني يساوي صفرا أمام هذيان هذا الإنسان أمامي. قررت أن أهمل غجريتي لأسمعه.
أنت لا تهملني. أنت تكذب على نفسك! همست في داخلي وهي في قبرها. ريثما مللت منه، ستأخذني إلى زمارين، وهناك سأحكي لك ما لن تستطع أذنيك سماعه أيها الغبي، الأطرش، والأعمى.
ما بك أيها المخلوق؟ لم أبدأ القصة بعد. ما قلته وما أريته لك كان مقدمة فقط!
اقترب مني أكثر، ومر بيده على صباحي، مسح العرق المتصبب، وأضاف: تعال نجلس على حافة هذا الشاهد، الذي صنعته بيدي هاتين، اللتان مسكتا السكين لقطع رأسها، ولم تستجيبا للغضب والقهر.
لماذا لم يستجيبا؟ سألت.
اهتز جسده جراء ضحكة ممزوجة بالألم والحنين الى ماض سعيد وقال: كيف لي أن أقطع رأس زوجتي؟ لا تفزع! ابق مكانك! ألم أقل لك أنك ستسمع مني تعابير وتشابيه لا تجدها عند إنسان بسيط مثلي. نعم أيها المثقف، في داخلنا أحاسيس أجمل من أحاسيسكم الكاذبة أيها الكتاب، كل ما يخرج من داخلنا صادق، وعليكم أن تتعلموا الصدق منا. أنتم تدعون المعاناة، وتخلقونها عن وعي، وتفلسفون الأمور، وتكتبون أشياء لا يفهما أحد، وتعقد الندوات بحضور جمهور يدعي انه فهمكم، وتوقعون إصداراتكم بحضور الصحافة، وتذهبون إلى المطاعم في الناصرة وفي حيفا لكي تحتفلوا على حساب ألمنا ومعاناتنا، وتنتظرون الصحافة والنقاد بفارغ الصبر، وتنسون جلوسي هنا الى جانب قبر ابنتي، متألما منتظرا شتاء آخر يبقيني في البيت لأستعيد ذكريات مع أم غجريتك. غجريتك نسخة عن أمها، هي كما وصفتها، دائما تبدو وكأنها بدوية خارجة من الحمام. هل فهمت الآن ما قلته أيها الكاتب؟ لم أرد أن أقطع رأس زوجتي! هل تعرف لماذا أنتظر الشتاء مهما كان قاسيا؟....مد يديه، وبسط كفي يديه وقال: أنظر إلى هذه الخشونة التي لم تتحمل برد الشتاء، كنت أدق الحجر، حجارة هذه المدينة التي تغطي بيوتها، لكي أقي جسدي من التجمد، وأقي يدي من التجمد، ولكن البرد كان يخترق جسدي، ويخترق عروق يدي، كنت في أيام البرد القارص أهرب من حجارتي، وأركض، أركض الى البيت، وأدعس البنزين بشكل جنوني، لأصل البيت. كانت تعرف سبب هروبي من حجارتي، تأخذ يدي وتمررهما على وجهها الساخن دائما، وتدب الحرارة في عروق يدي، وفي جسدي، وابدأ بطقس شتوي أحن إليه، أنزع عنها ملابسها برقة، نعم برقة أيها المثقف، برقة لا يفهما أحد منكم.وخشونة يدي تحولت إلى شبق لن تعرفوه. استمر الطقس ساعة كاملة، وكنت أعود الى حجارتي مغنيا، مبتهلا لتحفة فنية تخلقها يداي اللتان مرتا على جسد أم غجريتك.

وكان صمت!

لف السكين بالقماش المخملي وأعاده إلى السلة المخرمة. قبض على ممسك السلة، نظر إلى الشاهد، تبسم، نظر إلى السماء، وأطال نظره لعدة ثوان وأنا منتظر ما سيقوله بعد هذا المشهد الصامت.وأخيرا توجه إلي بسؤال لم أستطع أن أجيبه عليه: هل في السماء هناك اله؟ وأضاف: لا تجب الآن! لأن إجابتك لا تعني بالنسبة لي أي شيء. أنا أعرف أنه هنالك اله، ولكن المشكلة أين يسكن. لا بد أن يكون للإله مسكنا يأوي إليه. أليس كذلك أيها المثقف؟ وأقول لك لماذا هو يحتاج الى مسكن. لكي يهرب من شيء ما! من شيء يزعجه ويخيفه. نحن الذين خلقناه في داخلنا، وهو يهرب منا، لأن داخلنا تشوه، ونحن الذين شوهناه، لهذا السبب يهرب الإله، وقد وجد له مسكنا بعيدا عنا، هناك في السماء، حيث أنظر أنا، وأنا أستجديه لكي يعود الى داخلي حيث خلقته، ولكنه ليس مقتنعا أنني نظفت داخلي، وغفرت لابنتي. لم يتأكد بعد. ماذا علي أن أفعل؟ لا أعرف.
فجأة، توجه نظره الى شجرة الخروب اللاصقة بقبر ابنته، وهز رأسه، وكأنه يؤنب نفسه، أراح سلة البلاستيك على الأرض، تناول المقص، مقص تقنيب الشجر، أمسك بيده اليسرى فرعا صغيرا، لم يتجاوب مع سيميتريا الشجرة، مد يده اليمنى القابضة على المقص، وقص الفرع النشاز. لم يرم الفرع على الأرض.وضعه في السلة،ونظر ثانية الى الشجرة وقال: هذا هو! أريدك كبدوية خارجة من الحمام! وتوجه إلي بفرحة تشبه فرحة طفل في عيده العاشر، وقال لي: أنظر الى الشجرة، شجرة الخروب التي زرعتها قبل سنوات هنا، الى جانب قبر حبيبتي، حبيتك الغجرية أيها الكاتب! أنظر الى الماء الذي يسقط من فروعها، إنها تغتسل الآن أمامك، وأمامي، انه ليس ماء شتاء، انه ماؤها هي،إنها تغتسل بمائها،إنها تعيد دورة الشهوة. أعرف أنك لن تفهمني الآن. سأتركك، ولكن عليك أن تنتظر أنت لوحدك حتى تنهي اغتسالها، أنا تعودت على هذا المشهد الطقس، انتظر هنا لبعض الوقت. لقد أفصحت أكثر مما كان علي أن أفصح عنه الآن.

واختفى! ولا أعرف كيف أفلت مني.

هل أحاول أن أمارس الكتابة الشاعرية؟ هل أحاول الآن أن أبتعد عن الاتهام أنني ألقن شخصياتي، لئلا يكتب النقاد أنني ألقن شخصياتي؟ إذا اتهمني شخص ما أنني شاعري في كتابتي، فهذا يعني أنني استقيت الشاعرية هذه من أناس عرفتها في حياتي، من أمي وأبي، من أخوتي وأخواتي، من أحاديث المنكوبين، من أحاديث المشردين، من تجربة الجيل الأول للنكبة. من تجربتي أنا.
قالت لي عندما انتفضت من قبرها، بعد أن أفلت مني أبوها: ستطول حكايتك بهذا الشكل الذي تطرحه. ماذا تريد أن تحكي؟
أريد أن أروي! فقط أروي ما أستطيع أن أتذكره، لكي أتخلص من ماض يؤرقني، أريد أن أموت وقد بحت بكل شيء اعرفه عن نفسي، وعنك.
جلست عارية على شاهد قبرها، ومرت بإصبعها على حروف الكلمات المحفورة، الملونة بالأسود، تلك الكلمات التي يكررها أبوها كل يوم في الساعة الرابعة: غفرت لك!
حركت فخذيها بارتطام وابتعاد، عدة مرات، وأنا أراقب فتحة خليجها، اقتربت منها وقالت: ليس الآن. أنا ميتة. ستدنو من خليجي عندما أعود إلى الحياة أيها الكاتب.وسأعود. أعدك بذلك، حتى لو كان ذلك على فراش موتك! سأعود، لقد غفر لي أبي، أنا الزانية في نظرك. ها أنا أفتح لك مصراعي خليجي لكي تراه ولا تشمه إلى أن تتخلص من زعمك أنني زانية.

رياض مصاروة
السبت 26/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع