الاقتصاد السياسي الرأسمالي من آدم سميث الى تأليه السوق الحرة



في انكلترا تحديدا ولدت الصيغة الأولى لفلسفة الاقتصاد السياسي الرأسمالي، وأشكال الوعي المدرك لأسسها اللا إنسانية ففي عام 1770 نشر تقرير رسمي لـ"شركة الهند" جاء فيه "أكثر من ثلث السكان صاروا الى هلاك في منطقة يورنياه التي كانت فيما مضى مزدهرة، وفي المناطق الأخرى لا يقل البؤس ضخامة".
عندما أصبحت الشركة بعهدة الدولة الانجليزية بديلا عن الإدارة السابقة، أجرى الحاكم العام لشركة الهند، اللورد كورنواليس جردا أعلن فيه "يمكنني التصريح بكل يقين بأن ثلث أراضي (الشركة) في هندوستان هي الآن مناطق غابية مهجورة ترتع فيها الحيوانات المتوحشة".
والتنظيم الإداري الدائم الصادر عنه بشأن الملكية العقارية في عام 1793 بما يخص البنغال وبيهار والذي قسم الهند الى ملكيات خاصة، وسلب من فقراء الفلاحين الأراضي الريفية المشاعية منذ القديم، والتي كانت تسمح بنشوء اقتصاد القوت (الغذاء) هو الذي كان من وراء أول مجاعة كبرى في الهند: مليون وفاة بين 1800 و 1825، ثم خمسة ملايين من 1850 الى 1875. ومن ب عدها 15 مليون من 1875 الى 1900. على هذه الصورة أجهز على اقتصاد القوت الزراعي، ثم على الحرف اليدوية للنسيج في الهند. وأصبحت تلك البلاد كباقي البلاد التي تم استعمارها في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بسبب النظام الكولونيالي الرأسمالي "الليبرالي" تستورد الأقمشة من مانشستر. ما بين عام 1814 و 1834 ارتفع رقم استيرادات الهند من مليون دولار إلى 51 مليون دولار. ان جميع من يطلق عليهم في الكتب الرسمية، اسم فلاسفة الاقتصاد السياسي الانجليزي "الرأسمالي" كانوا في البداية سياسيين مرتبطين ارتباطا وثيقا بالاقتصاد الامبريالي لزمانهم، هذا عندما لا يكونون بصورة مباشرة، منظرين مرتزقة لدى "شركة الهند الشرقية" وهذا هوبز (1588-1679) باعتباره لقوانين الرأسمالية الوليدة على أنها طبيعية، يستخلص في كتابه "عناصر القانون السياسي والطبيعي" (1640) مبدأ الاقتصاد التجاري: فردية متوحشة وتنافس لا رحمة فيه والنتيجة التي يتوصل إليها تقول بأن الحالة الطبيعية للمجتمع هي "حرب الكل ضد الكل".
وإذ رأى في إفلاس الديمقراطية الأثينية تحذيرا، فقد ارتأى بأنه ما من سبيل، من أجل فرض الوحدة على تلك الغابة (أي المجتمع) من الأطماع المتصارعة إلا اللجوء الى استبداد مطلق. وتلك هي الفكرة المركزية في كتابه "اللوياثان" (1654). إن هوبز قد كشف الغطاء على هذه الصورة المتوحشة، عن منطق الليبرالية الرأسمالية، وهو ما سوف تثبت صحته خلال القرون الأربعة التالية، فهي نظام يبدأ في غابة الأنانيات المتصارعة للأفراد والأمم على حد سواء، موفرا بذلك للأقوى التهام الأضعف. الى أن يتم الوصول إلى الديكتاتورية المطلقة لمركزية رأس المال، وخاصةً العسكري والنقدي، في عصرنا الحالي.
ويرسم هوبز في هذا المجال مسار الفردية التنافسية ونهايتها، التي هي لديه النقيض ظاهريا، لكنها تمثل وصول منطقها الداخلي الى مداه : الديكتاتورية الشمولية- (ما نراه اليوم من ديكتاتورية شمولية لرأس المال الغربي) علما بأنها تتخذ سياسيا شكلا أكثر تسترا لكنها اقتصاديا في غاية الفعالية والطغيان كمشروع عالمي متجانس تحت صيغة التأليه التوحيدي للسوق الحرة، وهيمنة شركات رأس المال العابرة للقارات.
ويأتي من بعده جون لوك (1632-1704) التي تعني العدالة له في جوهرها حماية الملكية، فتابع بلورة هذا المذهب في كتابه "دراسة حول الإدراك الإنساني" والذي بدأه اعتبارا من 1671 ونشره في عام 1683. لقد أصبح لوك آنذاك مروج الدعاية ل "البنك" رافعا آيات المديح للربا، الضروري لدول تأسست على التراكم النقدي. ومنذ ذاك أصبح الاحتكار الحقل الحر كوقاية للملكية، فالإنسان قيمته بما يكسب، والعقد الاجتماعي يتأسس على حق صاحب المال في الدخول ضمن لعبة "البنك" المتحول الى "كازينو" للقمار.
وعندما عين لوك مندوبا ملكيا لشؤون التجارة والمستعمرات قاتل بشراسة للحد من حقوق المستعمرات الانجليزية في أمريكا من أجل اخضاع اقتصادها خضوعا كبيرا لاقتصاد المتروبول، ولمنعها من إنتاج البضائع. من عام 1721 وحتى 1742 ظهر معلم جديد للاقتصاد السياسي الرأسمالي وهو ادمون والبول ومما له دلالته أن يصبح والبول الذي سجن في "برج لندن" في عام 1712 بسبب الفساد، وزيرا للمالية. في عام 1714 في كتابه "خرافة النحل" يطرح ماندفيل (1670-1733) أحد فلاسفة الاقتصاد السياسي الرأسمالي، فكرته القائلة بأن النقائص الخاصة تصب في مصلحة الخير العام.
وجيريمي بنتام (1748-1832) هو خير مثال لفلاسفة الاقتصاد السياسي الانجليزي الرأسمالي المتوحش، فقد دمج هذا "الفيلسوف" النظام الرأسمالي مع النسق الطبيعي، وبذلك اعتبر الإنسان كجنس حيواني لا يتصرف إلا من منطلق مصلحته الوحيدة القائمة على طلب اللذة وغياب الألم. ولذلك فقد تخيل "حساب اللذة" الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود قاسم مشترك لقياس اللذة. وهو حسب رأي بنتام، ثمن المواد التي توفر لنا تلك اللذة او التي تجنبنا الألم. وذلك السعر يبنى على السوق. إذا المال هو القاسم المشترك وأداة القياس. ومنذ كتابه "مدخل الى مبادئ الأخلاق والتشريع" (1789) وحتى استنتاجاته الحقوقية في كتاب "عقلانية القصاص" 1830، وجه بنتام مؤلفاته الفلسفية باتجاه المبدأ الرأسمالي القائل بأن العدالة، داخل نظام تنافسي. نقتضي وجوبا، من رجل القانون، فرض عقوبات اقتصادية متناسبة مع الجنحة.
على هذه الصورة وجد عصر الكمي أساسه! السوق هو الناظم الوحيد للعلاقات الإنسانية، ويقلص الإنسان الى (Romo Ecomomicus  الإنسان الاقتصادي) بحيث لا يعود الا منتجا ومستهلكا، وبحيث أنه يتصرف بوحي مصلحته لا غير. وهذا هو الإنسان الذي سوف يسميه ماركوز بعد ثلاثة قرون "إنسان البعد الوحيد".
لم يفرق بنتام بين الإنسان والحيوان، فكان ان لخص تفكيره بالصيغة التالية: "رسمت الطبيعة ألا تكون البشرية مسيرة إلا بسيدين: "اللذة والألم".
وفي عام 1763، أصبح اللورد شلبورن رئيس حكومة انجلترا، الذي كان يعتبر بنتنام "نيوتن العلوم الإنسانية". لقد استمر شلبورن بمساعدة "شركة الهند" و"بنك بارنغ"، برفض كل تنازل لايرلندا ولأمريكا المتحررة من الاستعمار الانجليزي، فالخط الموجه لسياسته هو: الحرية المطلقة في التجارة والإجهاز على أمريكا بالتبادل الحر. وهذا بالضبط ما تفعله أمريكا في علاقاتها مع دول العالم وخاصة أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، مع فرض الحصار الاقتصادي على كل من يعارض سياستها ككوبا وإيران وسوريا. وفي 27 شباط 1783 لدى طلبه إلى "مجلس اللوردات" التصديق على معاهدة باريس التي وضعت نهاية لاستعمار أمريكا، قدم شرحه أن بالإمكان تدمير أمريكا الغضة العود وإعادتها إلى النير الانجليزي باللعبة الحرة البسيطة، لعبة حرية التجارة: فقال "التنافس هو أساس كل تبادل حر سليم.. ليس لنا سوى أن نجعل نصب أعيننا التبادل الحر على أرض الواقع... إننا متفوقون في الصناعة، والرساميل والمشاريع على جميع الأمم الأخرى التجارية في العالم، ولذا يجب أن يكون شعارنا فتح جميع الأسواق". وهذه هي لغة أمريكا اليوم من خلال معاهدة التجارة العالمية GA.T.T (الغات) و "المنظمة العالمية للتجارة" مع وجود أهداف السيطرة العالمية ذاتها.
وطلب شلبورن هذا، الى آدم سميث 1723-1790 والذي سأذكره بتوسع لاحقا، وضع كتاب اقتصادي سياسي يخدم هذا التوجه الرأسمالي المتوحش واللا إنساني، فأكمل هذا الأخير، المدير للجمارك في ادنبرغ، عمله في عام 1776، بعنوان: "ثراء الأمم". وما يزال للكتاب حضوره حتى يومنا هذا، لأن ذاك الذي أطلقوا عليه اسم " أب الاقتصاد السياسي" أسس نظرية عن التنمية ما تزال مقررة من ذاك من طرف جميع منظري التبادل الحر، خاصةً في أمريكا النصف الثاني من القرن العشرين، من أمثال ميلتون فريدمان وغيره، بعد أن حلت أمريكا محل إنجلترا بسيطرتها الاقتصادية على العالم.
فكما يقول آدم سميث، إن محرك الاقتصاد هو الفائدة الشخصية ففي الكتاب الرابع من "ثراء الأمم" يصيغ سميث الفكرة المحورية لمنظومته كالتالي: "كل فرد بتوجيه صناعته نحو إنتاج اكبر قيمة ممكنة، لا يسعى إلا في سبيل ربحه الخاص لا غير، وهو على هذه الصورة مسيرا بيدٍ خفية، يحقق غاية لا يدركها وعية... وهو بملاحقته لمصلحته الخاصة يقدم النفع لمصلحة المجتمع بفعالية أكبر" .
آدم سميث – (1723-1790)
الكتابة الرئيسية لآدم سميث ADAM Smith متضمنه في كتابين هما "نظرية العواطف الأخلاقية" 1759 والبحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم" 1776.
عمله المهني الرئيسي هو أنه خدم، لمدن ثلاثة عشر عاما، استاذا لفلسفة الأخلاق في جامعة "جلاسجو" وتقوم شهرته على التأسيس الذي أرساه لعلم الاقتصاد.
لآدم سميث أهمية خاصة لمشاركته في انحراف الفلسفة السياسية نحو علم الاقتصاد، ولبيانه الشهير لمبادئ العمل الحر، او الرأسمالية الليبرالية والحق أنه يعرف بوصفه المهندس المعماري للنظام الرأسمالي الليبرالي الحالي. يعتبر سميث منافسا لجون لوك 1632-1704 (من كتبه رسالة عن التسامح 1689 ورسالتان عن الحكومة 1690). الذي سبق سميث بقرن كامل، فلذلك لكي نفهم الرأسمالية الحديثة بصورة كافية، لا بد ان نفهم التغيير الذي أحدثه سميث في تراث لوك ولكي نفهم أساس الارتباط بين الرأسمالية والمذاهب والفلسفة. بعد الرأسمالية لا سيما الماركسية- يجب علينا ان نفهم قضايا الرأسمالية في الصورة المعدلة التي طرحها آدم سميث الى جانب ذلك علينا ان نذكر ديفيد هيوم الصديق الأكبر ومواطن سميث. ان فلسفة سميث الأخلاقية كما يسّلم بالفعل هي تنقيه لفلسفة هيوم التي تختلف عنها في نواحي ليست حاسمة على الرغم من أنها ذات دلالة خاصة.دراسة دقيقة للعلاقة بين مذهبي سميث وهيوم تبين الارتباط بين الرأسمالية الليبرالية والمبادئ "الشكية" او "العلمية" التي اراد هيوم ان يقيم عليها كل فلسفة. ان كثيرا من تأملات سميث الأساسية متضمنة في كتابه "نظرية العواطف الأخلاقية" الذي يبين فيه فهمه للطبيعة والطبيعة البشرية. لقد فعل ذلك أثناء إجابته، عن السؤال التالي: ما الفضيلة، ما الذي يجعلها جديرة بذلك؟ان مقدمة إجابته هي انه مهما كانت الفضيلة، فإنها لا بد أن تشترك كثيرا وربما لا بد ان تتفق، ببساطة مع ذلك الذي بواسطته يستحق الناس، او أفعالهم الاستحسان. ان السؤال ما الفضيلة لا يتميز على الإطلاق عن السؤال ما الذي يستحق الاستحسان؟ ان الاستحسان والاستهجان صفتان تلحقان بالأفعال. ومنبع أي فعل هو العاطفة (أو الانفعال او الوجدان، وهي كلها مترادفات) التي تكون باعثا على القيام بالفعل ان استحسان أي فعل لا بد أن يرتفع أو يرقى إلى مستوى العاطفة التي تفسر الفعل بالحق.
أن العاطفة، أو وجدان القلب الذي يصدر منه أي فعل، والذي لا بد أن تعتمد عليه تماما كل فضيلته او رذيلته، قد ينظر إليه وفق ناحيتين مختلفتين، أو في علاقتين مختلفتين: الأولى بالنسبة إلى السبب الذي يثيره، أو الباعث الذي يحدثه، والثانية بالنسبة للغاية التي يفترضها، او الأثر الذي يميل إلى إحداثه.
في الملائمة او عدم الملائمة، في المناسبة أو عدم المناسبة، التي يبدو ان الوجدان يحملها للسبب، أو الهدف الذي يثيرها تكمن اللباقة، أو عدم اللياقة، أي كياسة أو عدم كياسة الفعل الذي ينتج. في الطبيعة المفيدة أو الضارة للآثار التي يهدف إليها الوجدان، او يميل الى إحداثها، يكمن استحقاق أو عدم استحقاق الفعل، أي الصفات التي عن طريقها يستحق الثواب او يستحق العقاب. ان اللياقة والاستحقاق هما بالتالي صفتا العاطفة اللتان يوجدان وراء كل فعل واللتان تحددان فضيلة الفعل. وتحمل هاتان الصفتان تشابها معينا بصفتي "المستحسن والمفيد" عند هيوم  " غير أن سميث يعتقد ان نظريته أصيلة من حيث أنها تتجنب الرد النهائي لكل استحسان إلى المنفعة. لقد اعتقد سميث انه يستطيع ان يقيم الأخلاق على ظاهرة العاطفة وحدها، وهو اعتقاد يشهد عليه اسم كتابه. وإذا كان الإحساس والشعور مباشرين، أعني بلا واسطة بمعنى أنه لا يوجد شيء بينهما وجذر الذات الأساسية فان ثمة قيمه ملحوظة في إنزال تحليل القيم الى قاعها الصحيح في العواطف. ان مفتاح هذا الرد هو، في نظرية سميث ظاهرة التعاطف، التي هي معيار اللياقة والاستحقاق. التعاطف كلمة استخدمها سميث بمعناها الحرفي، أعني موازيا اشتقاقيا في كتابه "نظرية العواطف الأخلاقية" يقول: "بالغا ما بلغ افتراضنا لأنانية الإنسان فمن الواضح أن هناك بعض المبادئ في طبيعته، تجعله يهتم برخاء الآخرين، وتجعل لسعادتهم ضرورية له، على الرغم من انه لا يستمد شيئا منها سوى لذة رؤيتها". إن ارتباط الخيال والتعاطف، والرغبة، في حب الآخرين واستحسانهم هو الأساس لتأكيدات سميث ان الطبيعة شكلت الإنسان من اجل المجتمع.
لا يعلمنا آدم سميث الصفة الاجتماعية الطبيعية للإنسان فحسب بل يعلمنا الطابع الطبيعي للقانون الأخلاقي أيضا. فكما يقول سميث "فإن كمال الطبيعة البشرية بالنسبة للآخرين هو ان نشعر أكثر بالآخرين، وان نشعر أقل بأنفسنا... إنه يجب علينا أن نكبح جماح الأنانية" وهذه نظرة مثالية أبعد ما يكون عن واقع المجتمع الرأسمالي وواقع مجتمع السوق ومجتمع الربح كقيمة إنسانية عليا.
" ينجم عن هذا الأمر ان تدخل الدولة الواعي قد يكون مؤذيا ويجب بالتالي تقليصه إلى الحد الأدنى. غير ان بنتام، كان من رأيه أن ليبرالية آدم سميث غير كافية. فكتب مؤلفه: "دفاع عن الربا" الذي عاب فيه على آدم سميث كونه لم يوغل بعيدا بما فيه الكفاية! إذ كان عليه أن يقول بجلاء أكبر أن الحدود المفروضة على الربا تخنق المبادرة والحرية.
وقد تلقى آدم سميث هذا الانتقاد بصدر رحب ورد على بنتام! "كتابك كتاب رجل متفوق". ان "ليبرالية" بنتام كانت في واقع الحال أكثر جذرية وأكثر ترابطا. فلم يتعرض آدم سميث في مجال وظائف الدولة (الجيش والبحرية، الإدارات والإشغال العامة) لمساعدة العاطلين عن العمل والمهمشين. وها هو بنتام يسد تلك الفجوة: ففي "كتابه "المجتمع المفتوح" (عام 1802) تنبأ للمجرمين والمعوزين ولأطفالهم، بمعسكرات حقيقية للأشغال الشاقة، واقترح أن تنقش على مدخلها: "لو كنتم عاملين يوم كنتم أحرارا ما كنا اقتدناكم الى هذا المكان كالعبيد". وهذا يذكرنا بالعبارة التي نقشها النازيون على بوابة اوشفيتز "العمل هو الحرية". (فالنازيون هم نتاج بربري للمجتمع الرأسمالي). وما يزال جثمان بنتام محفوظ في جامعة لندن ويعتبر بنتام ملهم جيمس ميل وابنه جون ستيورات ميل بحياته مؤلفاته كل التطور الذي ألت إليه تلك الأيديولوجية الرأسمالية الأوليغارخية والكولونيالية، والذي جاء من جانبه تتويجا لها... ففي عام 1822 وكان عمره 16 عاما عرض وتنبنى مذهب بنتام الذي كان مشبعا به، وقبيل نهاية حياته في عام 1865 كتب كتابه "أوغست كونت والوضعية".
في كتبه "مبادئ الاقتصاد السياسي" (1845) وكتبه حول "الحرية" (1854) وحول "النفعية" (1861)، وكتابه "المنطق الاستنباطي ولاستنتاجي" (1843)، الذي يعتبر المؤلف المركزي له، ظل نشاطه محكوما بالكامل بخدمته في "شركة الهند". لقد دخل اليها وعمره 30 عاما في عام 1836 وبقي يعمل فيها الى حين انحلالها في عام 1858.
كان يشاطر مالتوس أيديولوجيته (وهذا منظر آخر لشركة الهند)، وهذا ما جعل منه مرجعا أساسيا لكل داعية يروج للكولونيالية. وبصفته مديرا لشركة الهند، فقد اشترك بحرب الأفيون على الصين عام 1842. "وبقمع السباهية" في الهند عام 1858.
كان مالتوس (1746-1834) أستاذا للتاريخ والاقتصاد السياسي في مدرسة "شركة الهند" حين كتب "دراسات حول مبدأ السكان" حيث صاغ ما أطلق عليه اسم قانون! "يزداد عدد السكان بسلسلة هندسية وانتاج القوت بسلسلة حسابية". ولا توجد أي واقعة تثبت صحة ذلك القانون. بل بالعكس فالثورة الصناعية الانجليزية بفعل استغلال آلة الغزل من اختراع هارغريف، والآلة البخارية من اختراع واط، والنول الآلي من اختراع كارترايت وإدخال نظام "حرية السوق" توصلت الى النتيجة التالية: من 1870-1910 تزايد عدد سكان انجلترا بنسبة 58% وعلى العكس فنسبة التزايد في الهند لم تصل سوى الى 19% وهكذا فمنظر شركة الهند" والليبرالية الرأسمالية الانجليزية، الذي كان، يعطي بقانونه شهادة حسن سلوك للكولونيالية مسقطا عنها جرائمها، هو الجد الشرعي لأولئك اللذين، بدمجهم لزيادة عدد السكان مع البطالة الناتجة عن النظام الاقتصادي يريدون اليوم تبرئة المجرم الحقيقي المسؤول عن الفقر والجوع وموت الأطفال، ألا وهي الرأسمالية "الليبرالية" المتوحشة، التي تسبب موت ملايين البشر في عالم اليوم بسبب من الجوع والفقر والأمراض وتلوث المياه والبيئة. وتحويل الربح الى قيمة إنسانية عليا. فحسب مالتوس، وبرأي الكثير من سياسي الغرب، الذين منعوا توفير الأدوية رخيصة الثمن لعلاج الأمراض وخاصةً مرض الايدز مما أدى إلى انخفاض معدل عمر الإنسان الأفريقي من 50 سنة الى 40 سنة وهذا يعني وفاة ملايين الناس.
في أساس هذه السياسة، "المالتوسية" إلغاء "معونة المعوزين والفقراء" لأنها تشجع الفقراء على التكاثر. لم يكن فلاسفة الاقتصاد السياسي الرأسمالي من بنتام إلى ادم سميث إلى مالتوس وغيرهم، مكتشفي قوانين ثابتة غير متغيرة، بل منظري ومكتشفي قوانين الرأسمالية والكولونيالية، قوانين "الليبرالية" الاقتصادية، أي التنافس الوحشي حرب الكل على الكل، دون حد شرعي ولا أخلاقي بما يساعد على اختفاء الحيوان والنبات بالمليارات والمعذبين بالملايين، والفقراء بالملايين وموت الأطفال بالملايين.
كتب مالتوس بتاريخ 3 تموز 1881 ! "العرق الأدنى سوف يتم القضاء عليه سريعا على أيدي العروق الأعلى حضاريا" وهذه العنصرية، التي يفرزها ويخلقها الفكر الاقتصادي السياسي الرأسمالي "الليبرالي" والتي هي في صلب الفكر الكولونيالي الاستعماري القديم منه والجديد لم يتوقف والتعامل مع شعوب العالم الثالث وخاصة الشعوب العربية في فلسطين والعراق لم يخرج من هذا الإطار الفكري العنصرية للرأسمالية الغربية والعصابة الحاكمة (عصابة رأس المال العسكري) في البيت الأبيض بل الأسود في واشنطن. من هنا فالفلسفة الاقتصادية "الليبرالية" الرأسمالية المتوحشة من بدايات صيغتها الاولى وحتى الليبرالية المعاصرة في عصرنا الحالي ينازعها من الداخل تياران:
الاول: التيار الليبرالي اليميني (المحافظ) والذي يمكن تحديد بداياته الاولى منذ القرن السابع عشر عند هوبز ومن ثم آدم سميث، لوك ديفيد هيوم وتستمر مسيرته حتى المحافظين الجدد (فريدريك هايك وميلتون فريدمان).
الثاني: التيار الليبرالي يميني ايضا لكنه "اجتماعي"، ولذلك من الممكن تسميتها "بالليبرالية الاجتماعية" ويبدأ من جون ستيورات مل في القرن التاسع عشر، ثم توماس هل جرين هوبهاوس، ديوي، وتتوقف مسيرته المعاصرة عند الفيلسوف الأمريكي "جون رولز" وآخرين.
ولكن محتوى التياران يرمنهما هو جماع أفكار متباينة متناقضة، مثالية، ولكن هناك فكرتين أساسيتين تدور حولهما تلك الافكار الفردية والحرية، ونعني الفردية المالكة او التملكية (هوبز ولوك) المعبرة عن محتوى طبقي! الطبقة الوسطى الصاعدة حديثا الى السلم الاجتماعي والباحثة عن الثروة والسلطة في آن. وفي القرن الثامن عشر، كانت كلمة أخرى تمثل تعبيرا ليبراليا متميزا لكنه غير متقطع الصلة ببنائية هوبز العقلانية، وتجريبة لوك، في تأكيدهما على الفردية التملكية وتتمثل هذه الكلمة بصورة واضحة في تعبيرات ديفيد هيوم وآدم سميث في نظرتهما التلقائية للفعل الانساني. نبذ تدخل الدولة (النظرة الاقتصادية الخالصة او دعه يعمل... دعمه يجر) ومن خلال تحولات اجتماعية برز التيار الليبرالي الاجتماعي والذي يمثله جون ستيورات مل وتواصله عند توماس هل جرين، هوبهاوس، وقد حاول هذا التيار اخراج الليبرالية الرأسمالية من حيز الفردية التملكية الطبق الى الاطار الاجتماعي الواسع والذي يعني قدرا من المساواة او العدل الاجتماعي من منطلق النزعة الفردية. وفي مقابل "الترويض" الليبرالي الذي مارسته الرأسمالية في القرن العشرين، جاءت محاولات تصحيح المسار من قبل بعض الفلاسفة المعاصرين مثل "ديوي"، المتهم من قبل الليبراليين المحافظين بشبهة الاشتراكية والذي تحدث عن نزعة فردية جديدة في ظل الاطار الليبرالي.
وحاول "رولز" (المتهم ايضا بالاشتراكية) اقامة بنيه للعدل الاجتماعي لتصحيح المبادئ "الليبرالية" من الداخل ليطرح امكانية قيام الليبرالية السياسية. ويمكن القول ان تلك التصورات هي في معظمها بمثابة خطابات ليبرالية الى الطبقة الوسطى ولا يمكن ان تكون بديل للفكر الثوري، الذي يستند الى المادية التاريخية، وموضوعية التطور المادي الجدلي للتاريخ الذي يؤكد بأن العدالة الاجتماعية والحرية الحقيقية للانسان لا يمكن تحقيقها بدون الغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج.
الليبرالية المعاصرة تحاول عن طريق صياغات اخلاقية جديدة تبرير نفسها، وتبرير استمراريتها، من خلال منقولات أخلاقية تدعم الحرية الايجابية للفرد، لكنها من ناحية اخرى ترسم اطارا للعدل من الناحية الاجتماعية، في محاولة لتقليل الفوارق الاجتماعية والطبقية، ولكن ثبت فشل هذا الطرح في عالمنا المعاصر عندما أصبح تركيز رأس المال في أيدي بعض العائلات الغنية وأفراد يكون رأس مالهم أكثر بكثير من دول في أفريقيا وامريكا اللاتينية وآسيا التي تعاني من الفقر، والامراض ووفيات الاطفال وحتى نقص مياه الشرب. فهندسة السوق الحرة بشكلها الأصولي العمودية في أمريكا والعالم الغربي هي أوهام تسعى بالحداثة ولكن في واقع الأمر تعتبر "شرعنه" للرأسمالية المتوحشة لقد اعتاد الفرنسيون ان يقولوا: إن مائتي عائلة تتحكم في مصير فرنسا، واليوم تستطيع أن تقول بأن مائتي عائلة أو شركة عابرة للقادات تتحكم بالعالم ككل وتحولت الدولة الى اطار للسمسرة يمارس من قبل أفراد لا دخل لهم في عملية الانتاج ولكن يحددون نحو أو حدوث ازمة اقتصادية في هذا البلد او ذاك.
وهذا ما جعل شخص مثل جورج سوروس بوصفه أكبر مضارب في البورصة، في الاقتصاد العالمي الى الدرجة التي تجعله يحدث أزمة عميقة في بلدان جنوب شرق آسيا ويحلو لسوروس أن يتحدث كمفكر اقتصادي -  أهم مؤلفاته "أزمة الرأسمالية العالمية": يقول" ان انهيار السوق العالمية سيكون حدثا مؤلما يسفر عن نتائج يتعذر تصورها، ومع ذلك أجد ان تصور هذا الانهيار أيسر من تصور النظام الراهن" ولذلك لا تستطيع الليبرالية الجديدة ان تقول بأنها تنتمي الى لوك فقد أصبح "سودوس" المضارب في البورصة، كازينو الفاسدين والمفسدين، هو المنظر والفيلسوف وليس جيمس لوك. فكل الشعارات حول حرية الفرد والمساواة الاجتماعية أصبحت مادة اقتصادية في ايدي أصحاب رؤوس الاموال او رجال الاعمال وهكذا أصبح المال هو أداة الفكر، ولذلك أصبحت الحرية والعدالة الاجتماعية شعارات أبعد ما يكون عن واقع الحياة، وأصبحت هذه المفاهيم عبارة عن سراب. ولكن الفهم المادي للتاريخ، الأساس النظري العام، الفلسفي للنظرية الماركسية يعالج تطور المجتمع على أساس علمي متكامل فحسب المادية الفلسفية والديالكتيك ونظرية التطور الاجتماعي، وإثباتهما بان إنتاج وتجديد إنتاج الحياة المادية هما أساس الحياة الاجتماعية والعملية التاريخية. ترفض وتلغي كل هذه الطروحات الغير علمية والمثالية والعنصرية والتي تخدم طبقة رأس المال العسكري والمالي في عصرنا الحالي. فالماركسية تقول بأن التاريخ هو عملية محتمة للتطور المتواصل ولتعاقب التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية. وحركة الأشكال الاجتماعية تتوقف في آخر المطاف على تطور القوى المنتجة التي يجب ان تتكيف علاقات الإنتاج وعلاقات الملكية حتما حسب مستواها. وهكذا تشكل علاقات الإنتاج البناء التحتي للمجتمع، الذي ينتصب فوقه البناء الفوقي- أي العلاقات السياسية والحقوقية وخلافها، والمؤسسات المناسبة لها. وأشكال الوعي الاجتماعي والأيديولوجية والخ....
ان التناقض الموضوعي بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، بين أسلوب الإنتاج في مجتمع معين وأشكاله،  يؤدي في درجة معينة من التطور، الى تغيرات جذرية في حياة المجتمع الى انعطاف اجتماعي، الى ثورة اجتماعية. وهذا التناقض يشكل أساس الثورة المادي. والثورة تنجز عملية نضوج مقدمات النظام الجديد تدريجيا في أحشاء النظام القديم وتحل التناقض بين القوى المنتجة الجديدة وعلاقات الإنتاج القديمة، وتحطم علاقات الإنتاج البائدة، والبناء الفوقي السياسي الذي يدعم هذه العلاقات، وتفسح المجال لزيادة نمو القوى المنتجة. ويجد القارئ في مقدمة ماركس لمؤلفه "المساهمة في نقد الاقتصادي السياسي". الصيغة الكلاسيكية لجوهر الفهم المادي للتاريخ، حيث يشير ماركس في هذا الكتاب إلى أن جوهر الثورة الاجتماعية يكمن في حل النزاع بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج وفي الانتقال من نظام اجتماعي اقتصادي إلى نظام آخر.
وتبرز الماركسية، بخلاف مفهوم الاقتصاد السياسي الرأسمالي الليبرالي، الطابع الموضوعي للعملية التاريخية وأهمية الأعمال الواعية التي تقوم بها الطبقات والأحزاب والجماعات والأفراد. وتنوه بدور النظرية الثورية الطليعية الهائل. ولقد صاغ ماركس وانجلز في مؤلفهما "العائلة المقدسة"، وهو أول مؤلفاتها المشتركة أسس المذهب الخاص بخصوص دور الجماهير الشعبية في التاريخ. والاعتراف بالدور الحاسم للجماهير الشعبية يعتبر من أهم موضوعات الفهم المادي للتاريخ. فالذي يقوم بالثورة ليس حزب بمفرده بل الشعب بأكمله. ومع دراسة سنن الإنتاج المادي، وديالكتيك القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، أثبت ماركس وانجلز ان النضال الطبقي هو مصدر التطور، القوة المحركة لجميع المجتمعات المنقسمة إلى طبقات. وقد سمى ماركس الثورات في مؤلفه "النضال الطبقي في فرنسا" "بقاطرات التاريخ". وقال انها تعجل مجرى التطور بسرعة عاصفة وتطلق القوى الخلاقة الجبارة للجماهير الشعبية. فعكس الاقتصاد السياسي الرأسمالي الليبرالي والتي ترى بهذا النظام كقانون طبيعي دائم، لا بديل له، ترى الماركسية بالرأسمالية كمرحلة تاريخية محتمة، ضرورية في تطور البشرية، وتقدميه بالنسبة للاقطاعية، ولكنها مرحلة عابرة تاريخيا، والمجتمع البرجوازي الذي خلق قوى منتجة عملاقة، أعد بالتالي هلاكه بالذات، وولد حفارة قبره ايضا ،والطبقة العاملة -البروليتاريا، حيث يتحول شكل الإنتاج إلى إنتاج اجتماعي عام وهذا يتناقص موضوعيا مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. ففي كتاب "رأس المال" مؤلف ماركس الرئيسي كتب يقول: "وبقدر ما يتناقص باستمرار عدد دهاقنه الرأسمال.... (وهذا ما يجري في عصرنا الحالي) بقدر ما يشتد ويستثري البؤس والظلم والاستعباد والانحطاط والاستثمار، وبقدر ما يزداد ايضا باستمرار تمرد الطبقة العاملة التي تزداد على الدوام عددا وتثقف وتتحد وتتنظم بفعل اليه عملية الإنتاج الرأسمالي نفسها. وهكذا يصبح احتكار الرأسمال قيدا لأسلوب الإنتاج الذي نشأ مع هذا الاحتكار وفي ظله".
ان تمركز وسائل الإنتاج، وجعل العمل اجتماعيا ينتهيان الى حد أنهما لا يعودان يتطابقان مع إطارهما الرأسمالي، فينفجر. ان الساعة الأخيرة للملكية الرأسمالية تدق. ان مغتصبي الملكية تنزع منهم ملكيتهم". والماركسية تؤكد بأن الثورة الاجتماعية ستكون في جميع الظروف وفي جميع الأحوال عاقبة محتمة للعلاقات الاجتماعية القائمة في المجتمع الرأسمالي، فهذه الثورة الاجتماعية ستكون حرب سافرة ونضال مرير سيشنه الفقراء ضد الأغنياء. وهذه الثورة الاجتماعية لا تدمر الحياة الإنسانية بل بالعكس ستسعى بجميع الوسائل إلى تأمين هذه الحياة للجميع، وحماية الإنسانية من استغلال وحوش الغابة من رأس المال العسكري والمالي الذي يهدد الحياة الإنسانية ويهدد بقاء حياة الإنسان على الأرض.
تطور القوى المنتجة في عالمنا المعاصر بلغت في تطورها درجة تنبثق فيها قوى منتجة ووسائل معاشرة لا تجلب معها في ظل العلاقات القائمة، ليس فقط الايجابيات، بل ايضا السلبيات منها قوة مدمرة كالإنتاج العسكري والسلاح الذري، والغازات التي تؤثر على البيئة وغيرها، ومن خلال تطور أدوات الإنتاج هذه تنبثق طبقة تضطر الى تحمل جميع أعباء المجتمع، دون أن نستفيد من خيراته، وأصبحت الآن، بعد إزاحتها من المجتمع في تناقض حاد للغاية مع جميع الطبقات الأخرى ان هذه الطبقة العاملة والتي تحمل جميع أعباء المجتمع، منها ينطلق الوعي الجماعي بضرورة الثورة الجذرية.
وبما ان الظروف السائدة في المجتمع الرأسمالي حيث تستخدم القوى المنتجة وهنا لا بد ان نؤكد بأن النزعة العسكرية هي خاصية ملازمه للرأسمالية الاحتكارية ومبعثها الصراع الامبريالي في سبيل إعادة تقسيم العالم وقمع الحركة العمالية العالمية، والديمقراطية وحركات التحرر الوطني، وهذه النزعة تظهر بشكل حاد وقرينه دائما للرأسمالية، خاصة في فترة سيطرة ما يسمى السوق الحرة العالمية، وعولمة الاقتصاد وهنا لا بد من التأكيد بأن عسكرة الاقتصاد بشكلها الأكثر تطورا كما في الولايات المتحدة، وهذا يحدث لان الاحتكارات، وطغمه رأس المال تستخدم جهاز الدولة لاعادة توزيع الدخل القومي (الضرائب المباشرة وغير المباشرة وسندات الدولة والبث والاعلام وتوزيع الخامات) من اجل انشاء جهاز عسكري هائل. "ان الازمة تبين ان المجتمع المعاصر باستطاعته ان ينتج منتجات اكبر بما لا يقاس، منتجات تكرس تحسين حياة الشعب الكادح كله، لو لم تستول على الارض والمعامل والالات وغيرها (أي وسائل الانتاج) حفنة من المالكين الخاصين الذين يبتزون الملايين من بؤس الشعب" (لينين المؤلفات الكاملة المجلد الخامس صفحة 84). وفي الفترة الاخيرة تزداد التناقضات الداخلية للامبريالية، بين الدول الامبريالية نفسها، وينشب صراع طاحن من اجل توسيع أسواق التصريف ومن اجل الميادين الاكثر نفعا لتوظيف الرأسمال واستخدام المنجزات العلمية التكنيكية ومن اجل السيطرة في ميدان رأس المال المالي والبورصة. ما يجري في عصرنا الحالي بالإضافة الى عولمة السوق الحرة، تجري عملية تنسخ وتحلل للنظام الرأسمالي العالمي، كنيجه للصراع داخل النظام نفسه ولتضارب المصالح بين الكتلة الرأسمالية وباقي شعوب العالم.
ان الرأسمالية الحديثة تتميز بتوحيد قوة الاحتكارات مع القوة الهائلة لجهاز الدولة. فقد بين لينين ان الامبريالية ليست فقط عصر الاحتكارات الرأسمالية العملاقة، بل هي الى جانب ذلك":... "عصر صيرورة الرأسمالية الاحتكارية الى رأسمالية الدولة الاحتكارية...) وأحد أبرز مظاهر هذه الظاهرة إعادة توزيع الدخل القومي لصالح الاحتكارات. وهذه سمه ملازمة لتجديد الإنتاج الرأسمالي، وهي من الأساليب الهامة لإثراء الاحتكارات. بالإضافة الى ذلك ما يميز الرأسمالية المعاصرة وخاصةً الولايات المتحدة نقص تشغيل القدرات الإنتاجية لوسائل الإنتاج. وتعميق سيادة الطبقة الرأسمالية وزيادة ومركزة سيادتها في المجتمع. وتعبير سلطتها المثالي عمليا شكل الدول الرأسمالية التي تسخر كل مؤسساتها لخدمة وزيادة سيطرة هذه الطبقة وزيادة ثراءها، ولذلك كل ثورة اجتماعية مستقبلية وكل نضال تراكمي، ثوري اجتماعي اقتصادي سياسي ثقافي سيكون ضد هذه الطبقة، التي تكون نسبة ضئيلة جدا من المجتمع. في بعض الدول كأمريكا واسرائيل وكوريا الجنوبية وغيرها بعض العشرات من العائلات الغنية. ولذلك سيكون النضال ضد هذه الطبقة من اجل الغاء سيطرتها وهيمنتها على سلطة الدولة وكيان المجتمع من اجل الغاء سيادة هذه الطبقة، وهذا سيحدث فقط عند حدوث تغيير للناس على نطاق واسع من خلال الحركة العملية النضالية اليومية للناس للجماهير الواسعة وعندها ستكون الثورة ضرورية ليس فقط لانه يستحيل بأي أسلوب آخر أطاحه الطبقة السائدة، بل أيضا لأن الطبقة المطيحة لا تستطيع إلا في الثورة أن تخلع عنها كل خساستها القديمة وتصبح قادرة على بناء اساس جديد للمجتمع. من هنا ما يجري اليوم في عالمنا المعاصر من عولمة وتحويل التاريخ الى تاريخ عالمي يخص البشرية، جمعاء حيث تحول المجتمع الانساني الى قرية صغيرة، هذا التحول من ناحية استنتاجه الفهم المادي للتاريخ يعتبر ضرورة تاريخية للثورة الاجتماعية في المستقبل، الثورة الشيوعية. فنوايا الشيوعيين واضحة ومحددة وهي الذوذ عن مصالح البروليتارية على النقيض من مصالح البرجوازيين، وتحقيق ذلك بالغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج الكبرى والاستعانة عن ذلك بوحدة الاموال والملكية الجماعية، وأخيرا عدم الاعتراف بأي وسيلة لتحقيق هذه الأهداف غير الثورة الديمقراطية، واللذوذ عنها اذا اقتضت الحاجة بالعنف.
ان البروليتاريا تنفذ الحكم الذي تتصدره الملكية الخاصة التي تلد البروليتاريا على نفسها بنفسها، مثلما تنفذ الحكم الذي يصدره العمل المأجور على نفسه بنفسه بانتاجه الثروة للغير والبؤس لنفسه. ان البروليتاريا، اذ تحرز النصر، لا تصبح في أي حال من الاحوال الجانب المطلق من المجتمع، لانها لا تحرز النصر الا بالغاء ذاتها بذاتها والغاء ضدها. ومع انتصار البروليتاريا تزول سواء البروليتاريا ذاتها أمام الضد الذي يشترطها، أي الملكية الخاصة. هذه هي العلاقة الجدلية بين الطبقة المالكة والطبقة البروليتارية بين الملكية الخاصة والطبقة العاملة وبين العمل المأجور والقيمة الزائدة وانتاج الثروة.
وبما ان جميع ظروف الحياة في المجتمع المعاصر قد بلغت في ظروف حياة البروليتاريا أعلى ذرى اللا إنسانية، وبما ان الانسان فقد نفسه بالذات في البروليتاريا، ولكنه لم يكتسب في الوقت نفسه الوعي النظري لهذه الحضارة وحسب بل اضطر مباشرةً الى الاستياء من هذه اللا انسانية بحكم العوز الذي لا مرد له، والذي اصبح من المستحيل تماما تمويهه، والمتسلط تسلطا مطلقا، بحكم هذا التعبير العملي عن الضرورة، فان البروليتاريا نظرا لكل ذلك، تستطيع ويجب عليها ان تحرر نفسها بنفسها. ولكنها لا تستطيع ان تحرر نفسها دون ان تقضي على ظروف حياتها بالذات. انها لا تستطيع ان تقضي على ظروف حياتها، دون ان تقضي على جميع ظروف الحياة، اللا انسانية في المجتمع المعاصر.
ان الثورة الاجتماعية ستكون ضرورة موضوعية تحتمها ماهية البروليتاريا بالفعل وهي مضطرة تاريخيا الى فعله وفقا لوجودها الجدلي هذا، وهي عاقبة محتمة للعلاقات الاجتماعية الرأسمالية القائمة في المجتمعات الرأسمالية وخاصةً المتطورة منها كأمريكا واوروبا. فالثورة الاجتماعية هي حرب سافرة يشنها الفقراء على الاغنياء.
ويطرح السؤال هل من الممكن ان تتوقف انتفاضة الفقراء، يا ترى، قبل القضاء على الفقر وأسبابه؟؟ هذا مستحيل.
فالثورة الاجتماعية العتيدة لن تحدث بمعزل عن الاسباب الحقيقية للعوز والفقر، والجهل والجريمة، وأنها ستحقق بالتالي التحويل الاجتماعي، الثورة الاجتماعية بمعنى الكلمة الحقيقي. وهذه الثورة الاجتماعية العتيدة ستنتهي تاريخيا بتحقيق المبدأ الشيوعي، ولا تكاد تجيز أي امكانية اخرى. فالثورة الاجتماعية هي عاقبة ضرورية للعلاقات القائمة في المجتمع الرأسمالي. وهذه الثورة لا تريد تدمير الحياة الانسانية، بل بالعكس فانها تسعى بجميع الوسائل الى تأمين هذه الحياة. 

د. خليل اندراوس
السبت 26/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع