الفضائيّات الدينيّة والدعاة الجدد… و«علمنة» التديّن!
ثمة تلازم وثيق لا تنفصل فيه ظاهرة الدعاة الجدد عن ظاهرة انتشار الفضائيات الدينية وتعاظم حضورها وتأثيرها في الفضاء الديني، وهو تلازم يمكن رصده وتتبعه عبر مستويات عدة تتبادل فيها المواقع أحيانا ويقف الاثنان على قدم المساواة فيها أحيانا أخرى. وكلها تتضافر- وهذه هي المفارقة- على الاتجاه بالفضاء الديني نحو مزيد من العلمنة! أتصور أنه مهما تكلمنا عن خصوصية الإسلام كدين، فإن أي دراسة جادة لمسار الظاهرة الدينية الإسلامية وتحولاتها لا يمكن أن تتم بمعزل عن الظاهرة الدينية في العالم عموما، وما طال حالة التدين من تغيرات وتحولات تبدو كونية في كثير من مظاهرها. بل إنّ الصعود الديني الأخير وما صاحبه من تعاظم حضور الدين في الفضاء العام، كما يبدو جليّا في ظاهرتي الفضائيات الدينية والدعاة الجدد، لا ينبغي فصله عمّا جرى في العالم في العقود الأخيرة من تحولات كونية كان من أهمها ما صار يُعرَف بنهاية الإيديولوجيا وسقوط الروايات الكبرى وما تبع ذلك أو ترتب عليه من تعاظم حضور الدين في الفضاء العام الذي كان قد صار علمانيا صرفا مع تأسيس الدولة الحديثة. لقد أدى سقوط الإيديولوجيات الكبرى التي كانت تلهم العالم رؤاه وأفكاره ومشروعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى تصاعد الطلب على الدين كمصدر رئيس (صار لاحقا مصدرا وحيدا) للمعاني والرموز والطقوس التي يحتاجها الفضاء العام ومجالاته المختلفة مما لم يكن حاضرا فيه من قبل في العصر الحديث. ومن تصاعد الطلب على الدين ليس في السياسة والاقتصاد فقط، بل في وسائل الإعلام التي بدت أكثر حساسية وتأثرا بهذا التحول، كما كانت الأكثر قدرة على تلبية هذا الطلب الديني المتعاظم، وخاصة مع احتدام الجدل الدائر والمتصاعد حول الدين وسؤال الهوية وموقع الدين فيها، وهو جدل يدور معظمه عبر الفضائيات أو البرامج الدينية ويشارك فيه الدعاة الجدد بقسط وافر. ولم تقف التحولات الكونية عند حدود علاقة الدين بالفضاء العام، رموزه وطقوسه ومعانيه، بل امتدت أيضا وفي العمق لتطال الدين نفسه مفهوما وممارسة، لتسير باتجاه مزيد من «علمنة» التدين، وهو ما تشارك فيه ظواهر مثل الفضائيات الدينية والدعاة الجدد بامتياز. تتم «علمنة» التدين عبر تحويله من رؤية مؤسسية إلى أخرى فردانية تتأسس فيها علاقة فردية صرفة بين الإنسان والمعاني الدينية. وتأخذ هذه العلاقة الفردانية شرعية وقبولا اجتماعيا يؤدي في النهاية إلى القطع مع المؤسسية الدينية أو الرؤية المؤسسية للدين. وهذا عين ما تقوم به الفضائيات الدينية بعدما صنعت نجومها من الدعاة الجدد. فعلاقة المشاهد (جمهور الفضائيات) بالمعاني الدينية تتحول إلى علاقة اختيار، ومن ثم مقارنة وتفضيل، أساسها القناعة والقرار الفردي. كما يتعامل المشاهد مع التدفق الديني على هذه الفضائيات، من دروس ومواعظ، بمنطق فرداني بحت، فيما ينفصل ما يقدمه الدعاة الجدد المستقلون تدريجا عن أي رؤية مؤسسية، بحيث تقوم علاقة عرض وطلب بينهم وبين الجمهور، يقدمون فيه عرضا دينيا يناسب ويلائم ويلبي الطلب الديني للجمهور ونوعيته! ومرة أخرى تتم «علمنة» التدين عبر نقل النقاش حول الدين إلى الفضاء العام لا إلى دوائر العلماء والمختصّين. والفضاء العام هو عادة فضاء علماني بامتياز، يقوم على الحوار والنقاش فيما يُسمّى الديموقراطية الاتصالية التي تؤدي فيها «الميديا» دورا محوريا، حيث تسرع الميديا- وفق منطق المنافسة- وتيرة النقاشات الدينية على أساس من الحوار والاختلاف وتزايد الخيارات الفردية... وشيئا فشيئا، تتلاشى فكرة الحفاظ على رؤية أو تفسير ثابت أو وحيد أو حتى متفق عليه للنص الديني. وهذا هو جوهر علمنة الدين. بتعدّد المراجع الدينية التي تساهم في خلق الفضائيات الدينية ودعاتها الجدد، تتعدد بدورها الفتاوى الدينية بعدما تحوّل الدين إلى المجال الفرداني غير الجماعي (الذي هو أصل الإسلام). وتدار تلك التعددية وفق منطق الاختيار والعرض والطلب الذي هو منطق السوق. إن قراءة معمقة لظواهر مثل الفضائيات الدينية والدعاة الجدد لا يمكن أن تبعد بهما عن كونهما نتاجا لمنطق السوق، سواء في تعامله مع الدين من خلال تعددية تفرض منطق الاختيار ومن ثم العرض والطلب كما أسلفنا، أو من خلال كونهما يقومان على إدخال «الدعوة» نفسها ضمن منطق السوق من حيث قوانين العرض والطلب وما يتبعها من مفردات، أهمها ما صار يعرف- ربما لأول مرة في تاريخ الإسلام- بحقوق الملكية الفكرية للدعاة! وهي حقوق توفر لصاحبها (الداعية) حجة ملاحقة كل من لا يقر له بالملكية الفكرية للمنتج الدعوي ويؤدي له مقابلا ماديا عنه! كما صار يفعل داعية مثل عمرو خالد الذي طالب في آخر قضاياه بشأن حقوقه الفكرية بتعويض قيمته مليون جنيه! كما يمكن أن نرصد في هذا الصدد أنماطا من علاقة «السوق» بين هؤلاء الدعاة وبين أرباب هذه القنوات من توظيف واحتكار وتنافس، حيث يوقّع الداعية مع القناة حق احتكار حصري يمنع بموجبه من تقديم دروس الوعظ الديني (الدعوة!) في أى قناة أخرى (منافس آخر). وهو نمط من العلاقات يؤثر في جوهر المضمون الديني المقدم. وفي هذا يمكن التوقف كثيرا عند علاقة الداعية عمرو خالد بالمستثمر ورجل الأعمال السعودي صالح كامل صاحب قناة «اقرأ» (التي كانت تبث برامج عمرو) وباقة قنوات «أيه آر تي» التي تعمل بنظام الشفرة ويؤدي عنها اشتراكات مالية. ففي ضوء هذا النمط من علاقة «السوق»، أفتى عمرو خالد (رغم أنه دائم التأكيد على أنه داعية وليس مفتيا!) بحرمة وصْلات الساتلايت التي انتشرت في معظم البلاد العربية الفقيرة للتحايل على المنع الهادف إلى توفير خدمة المشاهدة الحصرية لبعض البرامج والمباريات لمشتركي هذه القنوات التي احتكرت القناة حق بثها حصريا! إذا تؤسس الفضائيات الدينية ونجومها من الدعاة الجدد لما يمكن اعتباره علاقة استهلاكية بالدين وفق تسمية الفيلسوف الفرنسي باتريك ميشيل، وهي علاقة يتعامل فيها المشاهد مع الدين بشكل استهلاكي، فيختار منه العرض الديني المناسب له من خلال مقاييسه الخاصة، بحيث ينتقي من الدين المساحة أو الفضاء والحيّز المريح وغير الإجباري، بعيدا عن أي نظام قيمي يحمل في طياته الإجبار. ووفق هذه العلاقة الاستهلاكية بالدين سيكون للفرد/ المشاهد إمكان رفض عرض ديني في حال عدم تناسبه مع توقعاته، ليبحث (لدى داعية آخر في فضائية أخرى) عن عرض ديني أكثر قبولا! إن علاقة المشاهد بالفضائية الدينية لن تختلف كثيرا عن علاقته بمغني الفيديو كليب الذي يمكن أن يختاره من بين آخرين كثر تكتظ بهم القنوات الفضائية. فالمعيار واحد: استهلاك لما فيه راحة الفرد! تصنع الفضائيات دعاتها الذين يكونون على شاكلتها، يتشابهون في ما بينهم حدّ التنميط، حتى يصح القول إنّ ما يجمع بين الدعاة التلفزيونيين عبر العالم أكثر مما يفرّقهم أيا كانت دياناتهم. ومن ثمّ فلم يكن غريبا هذا التشابه الكبير بين الدعاة الجدد في العالم الإسلامي، وخاصة عمرو خالد، وبين نظرائهم الإنجيليين في الولايات المتحدة الذين كانوا الأسبق ظهورا. والتيمة الأساس التي تجمع بينهم هي «النجم»: الداعية النجم أو النجم الداعية، وما تقوم عليه من منطق دعائي تسويقي أساسه صناعة النجم الذي «يتأيقن» أي يصير أيقونة تحمل قيمتها في ذاتها، ليتحول لاحقا إلى ماركة تجارية! لم تكن فكرة الداعية «النجم» يوما أصيلة في الدعوة الإسلامية، بل هي وليدة منطق السوق وزمن الدعوة في الفضائيات، وقد أشاعها الدعاة الجدد في الحقل الدعوي رغم أنه- يفترض- أن يختلف تقليديا حد التناقض مع فكرة النجومية. فـ«الحق لا يعرف بالرجال، ولكن يعرف الرجال بالحق، واعرف الحق تعرف أهله»، وحيث ثقافة راسخة في رفض الشهرة والحذر منها والتحذير من عواقبها. * باحث في شؤون الحركات الإسلاميّةالسبت 26/7/2008 |