*ربطتنا علاقات خاصة ومميزة مع الرفاق من الحزب الشيوعي الأردني خاصة وأن أغلب من تواجدوا في هذا المعهد كانوا ما أصل فلسطيني* كانت للدراسة السياسية في هذا المعهد الهام اهمية كبرى بالنسبة لكل رواده وبالنسبة لي شخصيا* يجب أن يكون واضحًا دائما أن "الاشتراكية العلمية" هي فلسفة الواقع الموضوعي وليست آيات من الكتب المقدّسة* كان هذا المعهد احدى المحطات الهامة والأساسية لقادة الاحزاب الشيوعية في العالم*
في هذا المعهد (المعهد على اسم لينين) كان يدرس رفاق من مختلف الأحزاب الشيوعية في العالم الرأسمالي ومن جميع القارات ومن العالم العربي، حيث كان هناك رفاق من الأردن وسوريا والعراق ولبنان والسودان ومراكش. ومن بين جميع هذه الأحزاب العربية والأجنبية المتواجدة في هذا المعهد، كانت لنا مع الجميع علاقات رفاقيه طيبة جدا، ولكن في الحقيقة كانت قد ربطتنا علاقات خاصة ومميزة مع الرفاق من الحزب الشيوعي الأردني خاصة وأن أغلب من تواجدوا في هذا المعهد كانوا ما أصل فلسطيني. وحتى السكرتير العام للحزب الشيوعي الاردني في ذالك الوقت كان الرفيق فؤاد نصار ابن الناصرة البار الذي كان قبل ذلك أحد قادة عصبة التحرر الوطني في فلسطين (التنظيم الشيوعي للشيوعيين العرب قبل حلول نكبة شعبنا العربي الفلسطيني)، وكان من بين هؤلاء الرفاق الذين يدرسون في المعهد في ذلك الوقت أيضا الرفيق بشير البرغوثي، والذي أصبح فيما بعد أمينًا عامًّا لحزب الشعب الفلسطيني وكذلك الشاب تيسير العاروري والذي أصبح أيضا أحد قادة حزب الشعب الفلسطيني وهو اليوم أستاذ محاضر في جامعة بير زيت في الضفة الغربية المحتلة.
لا شك ان الدراسة السياسية في هذا المعهد الهام كانت لها اهمية كبرى بالنسبة لكل رواده وبالنسبة لي شخصيا، حيث انها عمقت معرفتنا الفكرية بالنظرية الماركسية- الينينية وفي عملية توسيع افاقنا في فهم التطور التاريخي في عالمنا وتطور العالم المادي والروحي الذي حدث خلال مراحل تطوره وكيفية التعامل مع هذا التطور وكيف على كل منا يجب ان يفهم بشكل علمي وواقعي النظرية الاشتراكية العلمية التي كانت وما زالت أكثر النظريات انسانية وتطورا في عالمنا هذا، وفي الوقت نفسه كيف يجب التعامل مع هذه النظرية على انها نظرية فكرية متجددة وقابلة للتطور والتجديد باستمرار وليست نظرية جامدة ولا آيات منزله لا تحول ولا تزول، بل هي في الواقع الفعلي اتجاه للتفكير الصحيح، من اجل معرفة الواقع المتطور الذي نعيشه وكيفية التعامل معه ضمن أية مرحلة تاريخية معينة من مراحل التطور الانساني التي يعيشها عالمنا.
في أحد الايام وخلال دراستنا موضوع تاريخ الحركة الشيوعية العالمية أعطاني الاستاذ الذي كان يعلمنا موضوع تاريخ الحركة الشيوعية العالمية وظيفة بيتيه بمعنى ان احضر محاضرة خاصة حول الثورة والوضع الثوري. وبناء على ذلك وتنفيذا لطلب الاستاذ المحاضر قمت بتحضير المحاضرة المطلوبة حول هذا الموضوع الهام. وفي اليوم التالي جئت وانا معتز بتحضيري لاني تعبت كثيرا من اجل ان اقوم بالواجب كما يجب، وعندما طلب مني الاستاذ البدء في تقديم المحاضرة داخل الصف، بدأت بثقة كبيرة في النفس وخلال استرسالي في الحديث حيث بدأت في حديث فيه اقتباس عن لينين، قاطعني الاستاذ وقال لي يا رفيق توفيق هل انت واثق مما تقوله من هذا الاقتباس الذي اخذته عن لينين، فأجبته بلغة الواثق من نفسه والمتأكد من قوله "نعم يا رفيق ان هذا اقتباس حرفي عن لينين لا يوجد فيه زيادة ولا نقصان" بمعنى ان هذا حديث لينين عن الموضوع وليس حديثي الشخصي. فأجابني بهدوء ورفاقية طيبة، صحيح ان هذا الكلام هو كلام لينين وأنا اعرف هذا جيدا، ولكن لينين قال هذا الكلام سنة 1914 وأنت اليوم تتحدث في سنة 1967، يعني انه بفارق أكثر من خمسين عاما، والمطلوب منك ان تأخذ بعين الاعتبار هذا الفارق الزمني وأن تلائم هذه المقولات التي قالها لينين في ذلك الوقت مع المرحلة التي نعيشها وأن نأخذ تطور العصر الذي حدث بعين الاعتبار لأن لينين رأى الوضع كما هو في تلك المرحلة التي عاشها، وأنت يجب ان تراه في هذه المرحلة التي تعيشها اليوم مع كل تطورها وأبعادها.
لا شك أن هذا الدرس وهذه الملاحظة الرفاقية الهامة كانت بالنسبة لي نقطة تحول كبرى وهامة في اتجاه التفكير والتعامل مع دراسة الواقع الموضوعي وبأي الأساليب يجب ان نتعامل وأن نفكر ونطرح الحلول الصحيحة وفعلاً أعطاني هذا الدرس أيضا ضوءا خاصا من اجل اعادة التفكير في كل ما يقرأه الانسان بشكل واعٍ وموضوعي وبشكل خاص المقولات الماركسية اللينينية، وعليه ملاءمتها مع العصر الذي نعيشه وكذلك يجب أن يكون واضحًا دائما أن "الاشتراكية العلمية" هي فلسفة الواقع الموضوعي وليست آيات من التوراة او الانجيل او القرآن، بل هي نظرية علمية متطورة مع تطور العصر الذي نعيش فيه، وعلى الشيوعي المحلل او الدارس لها ان يتعامل مع هذه النظرية بتعمق وفي الوقت نفسه بانفتاح فكري وعلمي متطور وليس بفوضوية ولا انتهازية، أو كما يحاول أعداؤها تشويهها بمغالطات فكرية ملتوية.
معهد العلوم الاجتماعية على اسم "لينين" من المعاهد القديمة في الاتحاد السوفييتي حيث اقيم منذ ثلاثينيات القرن العشرين وقد درس فيه عدد من قادة الاحزاب الشيوعية العالمية من امثال خالد بكداش الذي شغل منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي السوري سنوات طويلة وكذلك من عندنا درس فيه عدد من قادة الحزب من امثال توفيق زياد وساشا حنين وعوزي بورشطاين وسليم القاسم واسعد يوسف كنانة وغيرهم من الرفاق قادة حزبنا الشيوعي وفي الوقت نفسه كان هذا المعهد احدى المحطات الهامة والأساسية لقادة الاحزاب الشيوعية في العالم الذين كانوا يأتون الى موسكو لمحادثات مع الحزب الشيوعي السوفييتي او للنقاهة، حيث كان يرتب لهم موعد لزيارة المعهد لإلقاء محاضرات هناك لطلاب المعهد حول الاحداث العالمية وعن الوضع في اقطارهم. وكان من بين هؤلاء القادة الذين حضروا في تلك الفترة قادة تاريخيون في الحركة الشيوعية العالمية (في تلك المرحلة) من امثال فالدك روشية السكرتير العام للحزب الشيوعي الفرنسي في تلك المرحلة وكذلك الرفيق غاس هول السكرتير العام للحزب الشيوعي في الولايات المتحدة الامريكية والرفيق ماير فلنر السكرتير العام للحزب الشيوعي الإسرائيلي والسكرتير العام للحزب الشيوعي الكندي كشتان وغيرهم من قادة الاحزاب الشيوعية العالمية. ولا شك ان هذه المحاضرات التي كان هؤلاء الرفاق يقدمونها كانت تغني معلوماتنا حول اشياء كثيرة هامة في دولهم وعن اساليب عمل احزابهم في تلك الدول وبشكل خاص القادة الذين تعمل أحزابهم بشكل سري في بلادهم. هذا بالإضافة الى حضور عدد من قادة الحزب الشيوعي السوفييتي لهذا المعهد للقاء طلاب المعهد وتقديم بيانات ومحاضرات حول الوضع في الاتحاد السوفييتي وتطوره الصناعي والزراعي وفي مجال علم الفضاء، حيث كان يأتي ايضا بعض رواد الفضاء السوفييت الى هذا المعهد، وفي احد الايام جاءت الى المعهد لالقاء محاضرة عن رحلتها الفضائية رائدة الفضاء الاولى فلنتينا ترشكوفا وبعد انتهائها من المحاضرة صعدت الى مكتب مدير المعهد وذهبنا خلفها أنا والرفيق سالم جبران الذي حضر ايضا الى موسكو للدراسة السياسية في نفس المعهد لمدة سنة ولكن بعد وجودي هناك اكثر من سنة، وطلبنا الاذن للدخول فرحب بنا مدير المعهد وعرفها علينا وعندها طلبنا اجراء مقابلة خاصة معها لمجلة "الغد" مجلة الشبيبة الشيوعية ورحبت بهذا اللقاء وبالفعل كان هذا اللقاء بالنسبة لنا لقاءً هاما ومميزا حيث اننا حظينا في مقابلة مثل هذه الشخصية المميزة في ذلك الوقت وقد نشرت هذه المقابلة في مجلة "الغد" ربما في اوائل سنة 1968. وكان قد حضر مع الرفيق سالم جبران للدراسة عدد من الرفاق الشباب في ذلك الوقت مثل الرفيق محمد عبد الكريم منصور من الطيرة والرفيق عادل ابو الهيجاء من طمرة والرفيق حسن مصطفى بكري من البعنة وكان ذلك في اواخر العام 1967.
لقد فاتني ان اذكر انه في الفترة التي سافر فيها وفدنا الى موسكو كان قد تواجد قبلنا هناك بفترة الرفيق طيب الذكر والقائد الشيوعي الكبير الرفيق اميل توما والذي جاء الى موسكو في مهمة خاصة من اجل العمل في تحضير دراسة الدكتوراه في موضوع تاريخ الشرق الأوسط. ان الرفيق اميل توما هو احد القادة الأوائل للشيوعين العرب في فلسطين، وكان في بداية اقامة عصبة التحرر الوطني السكرتير العام لها. لقد عرفت هذا الرفيق اولا عن طريق مقالاته في صحيفة "الاتحاد" منذ اوائل خمسينيات القرن الماضي وعرفت فيه عمق تحليلاته السياسية والفكرية، وكنت قد التقيت فيه عدة مرات في البلاد خلال الاجتماعات الحزبية. وخلال رحلتنا المشتركة الى مهرجان الشباب العالمي في مدينة هلسنكي عاصمة فنلندا عرفته اكثر عن قرب ولكن معرفتي به في موسكو كانت معرفة مميزة وعن قرب أكثر حيث كان يتردد بشكل متواصل علينا في المعهد الذي كنا نتعلم فيه وكذلك انا بدوري كنت اتردد عليه في بيته الذي يعيش فيه في موسكو مع زوجته حايا لها طول العمر. ومن خلال هذه العلاقة الرفاقية الخاصة وهذه الزيارات التي كنت اقوم بها الى بيته هناك، عرفت هذا الرفيق عن قرب، وعرفت فيه الانسان الخلوق وعرفت فيه القائد الحكيم والهادئ وعرفت فيه ايضا دماثة اخلاقه وفي الوقت نفسه عمق معرفته الفكرية والسياسية والاجتماعية، وكذلك صفة احترام وتقدير الغير. ومن خلال هذه المعرفة الواعية وبدون مجاملات كان وما زال بالنسبة لي المثل الاعلى هو وامثاله من الرفاق الاوائل الذين ربطتني بهم علاقات رفاقية حميمة.
(يتبع)
توفيق كناعنة
السبت 26/7/2008