نفاق على حساب الطبيعة



الأحد مساءً. القناة العاشرة (على الإنترنت). بعد التقارير عن الفساد الحكومي وبعض الثرثرات، يقول المذيع إن أمامنا صورًا نادرة. فقد نشرت مؤسسة "بتسيلم" لحقوق الإنسان شريط فيديو يظهر فيه جنديّ إسرائيليّ وهو يطلق رصاصة فولاذية مغطاة بالمطاط على قدم شاب فلسطينيّ مقيّد، معصوب العينين، بحضور ضابط كبير برتبة "لفتنانت كولونيل".
الشاب هو أشرف أبو رحمة، 29 عامًا، من قرية نعالين قضاء رام الله. إعتقله الجنود، ضربوه، ثم قادوه نحو سيارة جيب عسكرية. يظهر في شريط الفيديو كيف يطلق الجندي الرصاصة عليه عن بعد نحو متر. كانت لهجة تغطية الحادثة/الجريمة جافة، تقريريّة، مقتضبة ومنضبطة. تم إيراد الحقائق دون تعليق ومن غير إبداء أيّ موقف. ليست سياسة هذه القناة أو غيرها هي القضيّة المركزية، بل مجمل الثقافة السياسية الاسرائيلية. التلفزيون مجرّد مرآة ملوثة لانحطاط سياسي-اجتماعي مُزكِم.
هذا الشريط الذي يبيّن مجددًا الوجه الهمجي (الحقيقي) للاحتلال الاسرائيلي صوّرته فتاة فلسطينية عمرها 14 عامًا، من شبّاك بيتها. ما أروعها.  لاحقًا تبيّن أن جيش الاحتلال اعتقل والدها. ما هي تهمته؟ لا أحد يعلم. ربما هي أنه والد لفتاة فلسطينية بطلة. الإحتلال الاسرائيلي خبير بل يشكّل مرجعية في النذالة، نذالة الأقوياء عديمة النُّبل. تذكروه وهو يقتحم مخيمات لاجئين من داخل دبابات لا تتّسع لها الأزقة. وها هو الآن يحارب كاميرا بأيدي فتاة عبر أدوات القمع والاحتجاز. هذه هي المعادلة. أسطورة جولييت وداوود مقلوبة، تنكشف على حقيقتها في الراهن السياسي.
في التقرير التلفزيوني، جاء على لسان الناطق العسكري أن الجيش أمر بفتح تحقيق فوريّ. ماشي الحال، سننتظر النتيجة، خصوصًا أن شهود عيان أكّدوا أنهم شاهدوا نفس الجندي الذي أطلق النار على الشاب المقيّد وهو "يواصل القيام بمهامه" (الحقيرة) في اليوم التالي. لاحقًا تمّ احتجازه لأقلّ من يوم واحد، بعد أن أعلن الجنرال إيهود براك أن هذا "منافٍ لأخلاقيات جيش اسرائيل". بوسعكم أن تقهقهوا سخرية وأن تطلقوا شتيمة. أصلا فقد تم إطلاق سراح الجندي لاحقًا. وقال في التحقيق إنه أطلق النار بأمر من الضابط. الضابط لم يُحتجز طبعًا. أخلاق لا؟! طُزّ.
ونتابع نشرة الأخبار.. بعد ذلك عُرض تقرير تم تقديمه بلهجة مليئة بالإنفعال والتأثّر واللوعة، موضوعه قيام عمّال أجانب باصطياد حيوانات بريّة لأكلها. تمّ عرض أنواع الفخاخ والمصائد التي يستعملونها، وأرقام تقديرية لعدد الغزلان والخنازير والثعالب والشياهم (الشيهم: النّيص) التي قُتلت. إشتمل التقرير على مقابلات مع مسؤولين وناشطين لحماية الطبيعة. جميعهم تحدثوا بغضب وقلق عن قتل الحيوانات، ولم يخلُ صوتهم من استعلاء على العمّال. كذلك، أورد معدّو التقرير أرقامًا تقريبيّة لعدد الحيوانات التي قتلها، حسب الزعم، عمال أجانب في العام الأخير.
لكن التقرير الأول، عن جنديّ إسرائيليّ يطلق رصاصة عن بُعد صفر في قدم شاب مقيّد ومعصوب العينين بحضور وربما بأمر مباشر من لفتنانت كولونيل، لم يبثّ غضبًا ولا قلقًا. كان ما يسمّى حياديًا وكأن الجريمة وقعت على كوكب المشتري. لم تورَد أية أرقام، لا دقيقة ولا جزئيّة ولا تقريبيّة ولا غيرها، عن عدد الفلسطينيين الذي اخترقت أجسادهم رصاصات جنود إسرائيل في السنة الأخيرة فقتلت بعضهم وجرحت آخرين، بينهم من سيظلّ يعيش مع ألم إعاقته الجسدية حتى آخر العمر.
لا تعني هذه المقارنة استخفافًا بالاهتمام (المطلوب) ببقاء كائنات الطبيعة جميعها، من حيوان ونبات، محميّة وآمنة. لكن الشعور ينتفض أمام مؤسسات وشخصيات تتحدّث عن انتهاك سلامة الإنسان لو كان عربيًا بجفافٍ أشبه برمال الصحارى في قيظ الصيف، بينما تذرف دموعًا، لا أدري لماذا أشكّ بحرارتها، على انتهاك سلامة الحيوان.
من تهمّه الطبيعة وجميع قيمها يجب أن تهمّه بالضرورة سلامة الإنسان وكرامته. فلا يُعقل أن تغضّ الطرف والضمير أمام مشهد يقوم فيه أحد أفراد "جيشك" باقتراف جريمة حرب، بينما تحاول إقناعي أن الطبيعة تشغل عقلك وقلبك. أصلا، مَن يشغله هذا لا يُفترض فيه البقاء صامتًا كصنم صلد لعقود إزاء تدمير تلال وهضاب وجبال وطبيعة الضفة الغربية المحتلة ببشاعات المعسكرات والمستوطنات. فالقيم لا يُمكن أن تتجزّأ. ومن يجزّئها فهو منافق. نقطة.
ذكّرني هذا بلغطٍ وهرجٍ ومرج ثار قبل نحو سنة. فقد أرادت المؤسسة العسكرية (الحاكمة فعليًا) استكمال إقامة جدار الفصل الاحتلالي التوسّعي جنوب الخليل. هنا خرجت أصوات معارضة، غير تلك المناهضة مبدئيًا لجريمة الحرب هذه. مرة أخرى كان أولئك متحدّثين باسم حماية الطبيعة. وقد عبّروا عن قلقهم من أن مسار الجدار يهدّد "السلاسل الغذائية الطبيعية"، لأنه سيقطع حركة الحيوان والزاحف. بعدها بفترة تفتّق عقل الجيش عن أفكار وحلول منها الإبقاء على أنفاق ضيّقة تحت الجدار كي تتمكّن الحيوانات من التحرّك. لكن أحدًا من هؤلاء "المتخاصمين"، حماة الطبيعة والجيش، لم يخصّص دقيقة واحدة للتمعّن في آثار الجدار على الفلسطيني، على الإنسان.
في كلّ مرة أقرأ عن حيوان أو نبات مهدّد بالإنقراض يجتاحني الغضب ويسكنني الحزن. أشعر أن الدمار يحيق ببيتي، بي شخصيًا. ولكن حين أسمع منافقين يثرثرون عن قلقهم على الطبيعة وهم يواصلون الصمت على قتل وقمع البشر بأيدي جيشهم هم، لا يعود فيّ متّسع لغضب ولا لحزن. فما يملؤني هو شعور عارم بالقرف.

هشام نفاع
السبت 26/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع