ولسَّه.. ولسَّه!!



"الذكرى الخمسون، أم الخمسين؟"، هذا هو السؤال المركزي، وفيما بعد يأتي المحرر مبتسما، ليؤكد جواز الحالتين: "خمسون" على أساس أنها بدل، و"خمسين" على أساس "أخص الخمسين". ويسود شعور مريح في هيئة التحرير أننا تجاوزنا "المطب اللغوي" بسلام.. ولاحقا يتضح أن الحديث يجري عن الذكرى الستين.. وفي جلسة أدبية رائعة وأنت تحاول أن تتمتع بما يُقال فيها من شعر وأدب وفكر وفلسفة، يكون الجالس بجانبك قد أخذه الغضب الشديد وضرب كفا بكف: "لازم يقول الحمارَ، بالفتحة، مش بالضمة.. مش حمارُ.. بل حمارَ" ويردد الحركة حتى لا يترك مكانا لسوء الفهم: "رَ..رَ..رَ.. مش رُ..رُ..رُ".
أما أن يقرر العم بيرم في لحظة تجلي تكسير كل اللغة العربية من الخليج الهادر إلى المحيط الثائر، فمعلهش، يحق للشاعر ما لا يحق لغيره: "لم فتُّكم" يقول بيرم التونسي.. جملة مطبّشة لا تستسيغها الأذن لا بالفصحى ولا بالعامية.. لو أن شاعرا عاديا كتب هذه الأبيات لقامت الدنيا ولم تقعد:

 

"فى البحــــــر لم فتــــكم فى البر فتــــــونى
بالتبـــــــر لم بعتــــكم بالتبــن بعتـــــونى

 

الله يرحمك يا عم بيرم، من أعظم شعراء العصر الحديث، كان يمكن أن تكتب: "ما فتُكوش"، "ما بعتكوش".. ولكُــنّا أنهينا سنوات من المماحكة اللغوية.
هل الشعوب الأخرى مشغولة مثلنا بكسر الحمار أو وبرفعه؟ هل يقضون السهرة وواحد هناك يضع يديه على أذنيه لئلا يخدشهما مس بالقواعد. حدثني أحد الضالعين بالانجليزية، أن الأمريكيين أصبحوا يحذفون حرف ""u" في الكلمات التي لا يُلفظ فيها هذا الحرف.
لماذا فقط قلائل منا يتقنون اللغة تمام الإتقان؟ وبالتالي هل جاءت اللغة لخدمتنا أم جئنا لنخدمها؟ ألم يحن الوقت لكي نُغنى الفصحى بالمفردات العامية.. هل تشاهدون الدعاية عن جباية  الضرائب في مصر، حين تقف مجموعة رجال تقفز وهي تهتف "ولسّه..ولسّه". وقبل ذلك غنت أم كلثوم قصيدتها الساحرة: "لسّه فاكر.. كان زمان". إذا أردنا استبدال كلمة "لسه" للفصحى، فنحن بحاجة إلى كلمتين على الأقل: فجملة "لسه ما وصل"، تترجم للفصحى "حتى الآن لم يصل". وفي موقع آخر حين يسأل أحدهم مثلاً: "أبكل هذه الخيرات تبرع فلان؟!" فيجيبه الآخر: "ولسّه".. هنا كل ترجمة لكلمة "لسّه" تبقى ناقصة وغير معبرة كأن نقول مثلاً: "وما زال هنالك المزيد". حتى في اللغات الأخرى لا يوجد مرادف مطابق لكلمة "لسه".
أنا اقترح أن تضاف كلمة "لسه" إلى اللغة الفصحى. فيسأل أحدهم، مثلاً، بكل هيبة اللغة الفصحى:
- وهل حضرت جحافل قواتنا المسلحة؟
فيجب المكلف بالإجابة:
- لسّه.
ويمكن في سياق التحديث إضافة: "عجقة" و"جلجقة"، "ومالو" (بمفهوم: "وما العيب فيه"؟)..

**

هنالك أبحاث تقول أن اللغة العربية آخذة في الانقراض.. لست خبير لغات، ولكن جربوا أن تتصلوا بفندق في القاهرة أو في عمان.. "هاو كان آي هيلب يو، بليز؟" يجيبك بسرعة البرق، لا تفهم شيئاً، يهتز بدنك ذعراً، فتغلق الخط، تعتقد أنك وصلت البنتاغون.. وليس "حارة الدقي".
ليس الناس العاديون، بل هي النخب التي تخجل من لغتها، وتعتقد أن هذا الذي يرفض خلط حديثه بالعبرية هو وطني أصيل، فلا يطول وقت تقديرك، حتى يقول إن هذا الموقف لا يلائم "المين ستريم" السائد في الشارع الإسرائيلي. وهكذا فإن "خلطة العبرية" هي للغلابة اللي زينا، بينما "خلطة الانجليزي" هي للوطنيين الأفذاذ.
المشكلة هي عندما يصبح القائمون على سلامة اللغة في حالة اغتراب مع المجتمع: هو ينفّض يديه غضباً: "حماراً وليس حمارٌ"، وفي المقعد المجاور يصيح أحدهم:  "بليز كمان درينك"..
آن الأوان أن تُقلّص الفوارق بين العامية والفصحى، في لغات العالم السائدة توجد عامية وفصحى، ولكن لدينا توجد لغتان، لا يمكن أن تكتب بالعامية فهي كتابة غير مفهومة، وعندما تتحدث بالفصحى في سوق الخضار ستثير السخرية..
هنالك حاجة لعمل واعي بهذا الاتجاه، وحتى لا يبقى كلامنا شعارات، يمكن القول أن لدى هذا الجزء الحي من شعبنا الفلسطيني، الباقي في وطنه، القدرة على التصدي لهذا التحدي.. عندما بدأ اليهود بعث لغتهم في بداية القرن الماضي، لم يكونوا، عدديا وثقافة وإمكانيات، بأفضل من وضعنا اليوم.

عودة بشارات *
الأربعاء 23/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع