شخصية أبهرتني ليس لجمالها الخارق وحسب إنما أيضا لما قيل عنها من صفات أخلاقية ونتف إخبارية جمعتها من هنا وهناك طويلا وتراكميا في ذهني، وقد آن الأوان للكتابة عنها وعن ذلك الجانب الآخر في شخصيتها القوية.
زينب كانت الزوجة الأولى لوالدي. عقد عليها العقد في السنوات الأولى للقرن العشرين، لا قيود ولا مستندات بذلك الوقت. أستطيع التخمين أن ذلك كان سنة 1900 لسببين؛ الأول هو أنها كانت عمة والدتي زوجة والدي الثالثة وأن أمي جايلت بكرها وكانت قد ولدت في حدود هذا التاريخ. والسبب الثاني هو أن الدار التي اسكن فيها حاليا هي الدار التي ولدت فيها وقد أضيف لها القرميد سنة 1901 كما علمت من أخي حسني، وكانت هذه الإضافة على حسابها وليس على حساب والدي- رب البيت.. فقد كان هو بتلك السنوات يعمل مستنطقا، وكان ذلك في العهد العثماني بعيد إنهائه للمرحلة الثانوية في الأسيتانة باسطنبول. والمستنطق هو عبارة عن محقق صاحب معاش، يعدد المهرة ويشدّ عليها متنقلا بين المدن والقرى القريبة من الناصرة حين حدوث جريمة قتل أو اعتداء على الطرش والحلال وما إلى ذلك من مشاكل الفلاحين. من هنا بدأت علاقته مع محيط البلدة تتقوى.. ومن هنا أيضا كان كثير الغياب عن منزله وأهله. ومن هنا أيضا كانت لزوجته ميول إقتصادية ودخل خاص بها من ريع الدكان الذي كانت تملكه بسوق الناصرة ويديره احد مواطنيها المسيحيين فشاركها فيه. لماذا مسيحيا؟ أهو التحدي؟ في تلك الفترة كان المسلم يقول للمسيحي: إشمل يا كافر... وكان العثمانيون يغذون تلك النعرة. وكانت النزعة القومية التي تضم المسلم والمسيحي لا تزال في المهد. إذًا زينب تشارك مواطنا مسيحيا. بهذا الفعل كان الوعي هو السيد. لم لا ووالدها الشيخ يوسف مفتي الناصرة في حينه وفي أواسط القرن التاسع عشر استخدم فنانا لبنانيا هو صليبا يوحنا لرسم سقف منزله بشروط ذلك الفنان؛ ليرة ذهب يوميا وبطحة عرق.
كانت خطوتها هذه من اجرأ السلوكيات المجتمعية بذلك الوقت. كان يعتبر بلغة اليوم تمردا على العادات والتقاليد.. زينب الشيخ تشارك مسيحيا... كان هذا التمرد مدعوما من قبل الزوج الوالد، ربما لنزعته التحررية و لنوعية شخصيته أو حاجته أو غيابه عن البيت باستمرار أو تعلمه في اسطنبول حين كان شابا. وكانت هذه العاصمة المتروبوليتية بوابة الشرق على أوروبا...
زينب هي ابنة الشيخ يوسف أغنى أغنياء الناصرة. وبعد وفاته أرادت أن تقاسم إخوتها في أراضي الملك والميري. ولم تكن الناس بتلك الفترة على مثل هذه العادة. فماذا سيقولون؟ إبراهيم الفاهوم يقبل تلك المشاركة.. فرفض الفكرة من أساسها. حاول إقناعها لكنه فشل، أقام الدنيا في البيت ولم يجد ذلك نفعا. تمردت زينب مرة أخرى وأرادت أن تكسر العادات والتقاليد. فما كان منه إلا أن ذهب لإحدى قريباته وكان اسمها سخيلة وكانت أمي تدعوها "عمتي سخيلة" وطلب إليها أن تلبس حبرتها وكابها أو تتقبع بعباءتها وترافقه إلى طبريا... هناك عرضها على مأمور الطابو أنها زينب.. تنازلت "زينب" عن حصصها في أملاك والدها لصالح إخوتها سعيد وتوفيق ومحمد علي وعمر بالتساوي. ثم عاد إلى الناصرة قائلا لزينب: مبروك! سألته: على ماذا؟ قال: تنازلك... فلا مجال لديك إلا أن تتهميني بالتزوير.. ويكون مصيري السجن! شطّت... ونطّت لكن بدون فائدة فقد سبق السيف العذل.
كما قلت؛ سنة 1901 أنقذت زينب زوجها- والدي فيما بعد- من الدلف. بنت القرميد وأضافت غرفة الضيوف ذات الرسومات وأعمدة الرخام.
ثمة حادثة أخرى ذكرتها لي والدتي وذكرتها في إحدى كتاباتي، لما كان لها من عظيم الأثر علي.. كانت علاقة زينب بأخيها الشقيق محمد علي عجيبة غريبة. كانت تهابه وتحبه بنفس الوقت وتميزه عن باقي إخوتها. في سنة الجراد.. ربما كان ذلك سنة 1916، أثناء الحرب العالمية الأولى غزا البلاد الجراد وقضى على الأخضر واليابس. الوقت صيف والشمس بمنتصف السماء تقدح، وأثناء مكافحة الجراد وتجميعه وحرقه أصيب محمد علي بضربة شمس توفي في أعقابها... وكان عمره 33 سنة. فحزنت عليه زينب حزنا شديدا. وتعبيرا عن ذلك قصت جديلتها الشقراء ووضعتها في تابوته، قيل أن الجديلة كانت على طول التابوت. اقشعر بدني واغرورقت عيناي بالدموع عندما حدثتني أمي عن هذا الحدث... مسحت دمعتي وسألتها: ماذا كان لون عينيها. قالت: لا اذكر بالضبط، ربما بين الأخضر والأزرق شُهُلاً على الغالب.. كان الناظر يحتار عندما يخطفه البريق. كانت بيضاء البشرة مشرّبة بالحمرة. كانت والدتي تعشقها فانتقل ذلك العشق لي حتى بعد مرور كل تلك السنين. انا أتحدث الآن عن فترة ما قبل مائة عام ونيف وكأنني أتحدث عن الأمس.. فالعشق لا تقتله السنون. وقد بلغ بي الإعجاب أحيانا أنني فكرت باستبدال أمي بها- وأمي هي زوجة أبي الثالثة.. شيء من المستحيل لكنني هكذا كنت أشعر بين الحين والأخر. ربما كان ذلك بتأثير والدتي وعلاقتي الحميمة جدا بها. وربما أيضا لأنني أريد نموذجا أموميا قويا... اعتقد أن زينب كانت الأصل.. أمي تحمل ذات الجينات، كانت بارعة الجمال، فتصوروا كيف يكون الأصل! جاذبية أمي كانت موصوفة، فكيف يكون الأصل؟
عندما ماتت زينب بحمى النفاس وبعد أن خلفت ثلاثة ذكور واثنتين من الإناث.. حزن والدي حزنا شديدا. كان وضعه صعبا.. لم تكن له جديلة ليقصها. أرمل مع خمسة أطفال.. فمن يرعاهم؟
كان جدي لوالدتي قد توفي بداء السكري عن عمر ناهز الخامسة والخمسين.. وكان عضوا بمجلس المبعوثين- البرلمان التركي- متزوجا من اثنتين. وكان والدي مسؤولا عن عائلته أثناء سجنه عندما احتل الانجليز البلاد في نهاية الحرب في حدود سنة 1917.. كان ذلك بحكم القرابة والصداقة.
بعدما ماتت زينب في سنوات العشرين من القرن الماضي كان عمر والدتي يقارب الثالثة عشرة.. هل أراد والدي أن يحتفظ برائحة زينب وجيناتها؟ ذهب لجدتي وطلب يد أمي. لم يكن جدي على قيد الحياة. قالت له: هذا غير معقول.. يا إبراهيم البنت صغيرة. ماذا!؟ هل أعطيك إياها حتى تلعب مع أولادك "القالات"؟ وكانت تلفظ القاف "أ". والقالات لعبة من عظام الحيوانات التي تفصل ما بين المفاصل.
اخذ والدي على خاطره.. زعل وسافر للشام.. ثم عاد متزوجا من شامية. عاشت هذه الزوجة الثانية معه فترة.. فيها خلفت منه ذكرين وثلاث إناث و.. ماتت بحمى النفاس أيضا. وهنا كنا دخلنا في السنوات الأخيرة من ثلاثينات القرن الماضي. وكانت والدتي في الأثناء قد تزوجت من ناجي عبد الفتاح السعدي في عكا. عبد الفتاح هذا كان صديقا لجدي ذاك ويوازيه من حيث الغنى والمركز الإجتماعي. ذات يوم حدثت مشادة بين الولد وأبيه وكان جدي عندهم ضيفا فاعتبرها إهانة له فقام وأمر ابنته- فيما بعد أمي- أن تلبس الكاب والحبرة وتغطي وجهها وتأتي معه إلى الناصرة مع ابنها وبنتها القاصرين. منذ ذلك الوقت لم تعد إلى عكا.. أمر جدي بالطلاق رغما عنها وعن زوجها. لم يكن بوسعها أن تتمرد فعانت كثيرا من ظلم والدها. بعد أن ماتت الشامية عاد والدي إلى جدتي لأمي وطلب للمرة الثانية يد أمي... كانت ما زالت نفسه فيها! وقد مضى وقت طويل وكبر اخو الكرشة وكبرت معه أختي.. فلم تقبل أمي الزواج من أبي إلا بعد أن زوجت ابنتها هذه. ثم قالت لامها: على خمسة لم تقبلي بتزوجي وعلى عشرة أولاد قبلت! كان والدي قد شارف على السبعين ووالدتي في الأربعين.
وشو بدك بالطويلة يا طويل العمر كنت أنا ثمرة هذا الزواج... وها أنذا اكتب وأسترجع أحداث فترة لم أكن فيها ولم أعشها. ترى لماذا أكتب عنها؟ وما جدوى هذه الكتابة؟ ترى هل اكتب عن الماضي السحيق هذا من اجل المستقبل؟ أم تراني أكتب لأن هذا الماضي هو جزء من حاضري؟ وإلاّ لماذا هذا التعلق بزينب الشيخ؟ ربما أكتب سيرتي الفكرية، أعني أنني أعود إلى الأصل وأنقب فيه بحثا عني وعن تركيبتي النفسية على أساس إعرف نفسك. ربما يكون الدافع هو البحث عن الذات والبحث عن بيئة هذه الذات وجذورها، ربما هو الخوف من النسيان... ومن أجل مقاومة النسيان والموت، فيه يختلط الخاص بالعام والذاتي بالموضوعي.
وبعد علي أن أعرف هل أكتب عمن أكتب كما هم أم أنني أكتب عنهم كما أريد لهم أن يكونوا؟ سؤال كبير وصعب لكنني سأحاول الإجابة عليه. أنجح أو لا أنجح.. ذاك سؤال آخر. ويكفيني شرف المحاولة. أما الصحيح فهو أن الأموات يصبحون أقوى من الأحياء أحيانا. يلاحظ فرويد أن الأب الميت يصبح أقوى منا بحسب الإجراء السيكولوجي المألوف جدا في التحليلات النفسية تحت إسم "الطاعة المؤجلة"، لكن وبما أنني أعتبر نفسي أمومي النزعة وأنّ أمي في شراييني تعيش حتى بعد موتها فإن لها علي واجب تلك الطاعة المؤجلة. ربما! وهذه الطاعة المؤجلة تولد الإنقيادية المؤجلة لها وللنموذج الأصل زينب! ربما!!! ولأجل ذالك تسكنني هي وزينب. وربما أيضا الغرف من أكثر من مصدر سوف يساعدني في حل إشكالاتي، لأن أكثر من ذات وبالتراكم الكمي سوف يحول الذاتي إلى موضوعي وذاك من قوانين الطبيعة.. تراكم الكم يتحول إلى نوع.
لقد تعلمت الكثير من جاك دريدا ومن كتابه حمى الأرشيف الفرويدي (ترجمة عدنان حسن- دار الحوار، اللاذقية سوريا 2003) وها أنا ذا اليوم أختمه بتاريخ 7.7.2008. لم أفهم من تلك المحاضرة الكثير... لكنني استفدت الكثير.
لقد لعبت أمي دورا أساسيا في حياتي، خصوصا بعد موت والدي وأنا في الحادية عشرة من عمري، أدت دور الأم والأب في عملية القمع والكبت. أذكر أنني سألتها مرة عن تصرفات والدي وهو في سني، فانتفضت وزجرتني بحدّة. ربما سألتها بخبث لأنني أردت أن أبرر مراهقتي وحماقاتي وغباواتي وتقلباتي. أتساءل الآن لماذا زجرتني؟ هل لأنها أرادت أن تدافع عن الجانب الأبوي الذي فيها؟ وهل فعلاً لم يمر أبي بتلك المرحلة؟ أم أن حماقاته كانت اكبر من حماقاتي وقد أرادت أن تغطي عليها؟ هل كان هو نموذجها الأبوي؟ وفارق السن بينهما يقارب الثلاثين عاما؟ هل خافت أن تؤذي ذكراه؟
إن هذه الكتابة لا تشكل علاجا لي ولا هي تاريخا شخصيا وحسب إنما هي عن تاريخ الغير وتاريخ المحيط الذي أثر في وفي مسار حياتي بالماضي والحاضر. أنا لا أكتب أوتوبيوغرافي وحسب إنما أيضا الترابيوغرافي.. ليس من أجل الخلاص، فلا فائدة من الخلاص من الماضي.. لا خلاص من الماضي. هذه الكتابة بعد أن تكتب تصبح من الماضي... وشخوص الماضي تصبح أطياف وأشباح. أستحضرهم.. أتحدث معهم أستنطقهم كما لو كان الماضي حاضرا. هم أشباح في ذهني موجودين وغير موجودين.. لكن مع هذا كله أقوم بعملية أرشفة خاصة عامة ضرورية لي ولهم. لماذا وما هي الجدوى؟ سؤال دوّخني.
وليد الفاهوم
السبت 19/7/2008