يحاول اليمين المحافظ الأمريكي منذ أكثر من ثلاثين عامًا إظهار نفسه كقوة ايديولوجية في الولايات المتحدة، وخاصة بخصوص رسم السياسة الخارجية الأمريكية.
وكما قال الصحافي والمحاضر في جامعة باريس فيليب غولب-PHILIB GOLUB، "بعد إخفاقهم (أي إخفاق المحافظين الجدد) في تحقيق ما يسمى بدولة الأمن القومي بسبب الإجراء البيروقراطية والرفض الشعبي لهذه الفكرة، فإنهم الآن يقفون على أبواب الرئاسة عام 2000 بعد ان فصل القضاء الأمريكي في نتائج الانتخابات المتنازع عليها. والثاني: أحداث الحادي عشر من أيلول 2001. وهو الحدث الذي حول جورج بوش من رئيس وصل الى البيت الأبيض بالتصديق الى قيصر أمريكي. وأصبح الرئيس جورج بوش أداة تنفيذ سياسة المحافظين الجدد المبنية على "العمل الانفرادي" والانتشار الدائم للقوات العسكرية إضافةً الى "الحرب الوقائية". ولولا أحداث الحادي عشر من أيلول لكانت الحرب والتعبئة العسكرية من المحال. وهي الأحدث التي رجحه كفة التوازن المؤسي لصالح اليمين الجديد. والى جانب الدوافع الانتهازية كاقتناص الفرصة الإستراتيجية لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط والخليج الفارسي، فان هذا الخيار يعكس طموحات امبريالية أوسع مما هو ظاهر للعيان".
"وقد تزايدت احتمالات تحقيق هذا المشروع في ظل حالة القطب الأوحد التي سادت العالم عام 1991 عندما استأثرت الولايات المتحدة باستخدام القوة في علاقاتها الدولية. إلا ان هذه الفكرة ذاتها ولدت في السبعينات عندما تشكل تحالف المتطرفين الذين يمسكون الآن بزمام السلطة في الحكومة الأمريكية". ويستمر غولب ويقول: "والهدف من هذا المشروع هو توحيد الأمة وحشد التأييد الشعبي خلف الحكومة. وتأمين الهيمنة الإستراتيجية الأمريكية في العالم. ويتم استغلال الحرب والانتشار الدائم للقوات العسكرية الأمريكية كأدوات لتحقيق هذا الهدف الأمر الذي يتطلب تحديد أعداء جدد وتأسيس دولة أمن قومي قوية منعزلة عن المجتمع".
وقد وجدت هذه السياسة دعما متحمسا من فئتين في الولايات المتحدة هما: فئة المحافظين الجدد من صانعي السياسة والمفكرين على المستوى النخبوي، وشريحة الأنانجلستم البيض في الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة على المستوى الشعبي.
كتب المؤلف الأمريكي اليهودي هيلر STANLEY HELLER في الأيام التي سبقت الهجوم العدواني العسكري على العراق يقول: "إننا مدينون للشعب الأمريكي بأن نقول لهم الحقيقة كل الحقيقة، وهي أن الدفع باتجاه الحرب ضد العراق كانت تغذية زمرة مجنونة مشبعة بالروح الحربية من إسرائيل وبالتنسيق والمؤازرة مع فرقة من اليهود الأمريكان ومؤيديهم من المسيحيين. والمقصود التحالف اليهود مسيحي اليميني في أمريكا.
وأهم اسمين من هذه المجموعة هما ريتشارد بيرل RICHARD PERLE ووليام كريستول WILLIAM KRISTOL، بحكم ما اجتمع لديهما من منصب وظيفي واتساع الروابط والدعم المالي.
وريتشارد بيرل هذا يلقب في وسائل الإعلام بأمير الظلام (وهو يهودي)، ومن أبرز النشيطين والداعمين لقضايا ومصالح إسرائيل في واشنطن، منذ السبعينات عندما كان يعمل مساعدا في طاقم موظفي السيناتور هنري جاكسون.
وكان جاكسون هذا يتصدر أعضاء مجلس الشيوخ الداعمين والمؤيدين لإسرائيل وخلال تلك الفترة، خضع بيرل للتحقيق بشأن اتهامات وجهت إليه بالقيام بنشاطات تجسس لصالح إسرائيل. وعقب ذلك تحول بيرل للعمل في اللوبي الذي يمثل المصالح العسكرية الإسرائيلية إلى أن عينه رونالد ريغان في منصب رفيع في وزارة الدفاع. وبعد ان أنهى عمله في حكومة كرس طاقاته حصرا لتدعيم وتعزيز المصالح الإسرائيلية وبالذات تلك الخاصة بحزب الليكود حينها بزعامة أرئيل شارون. وبعد ذلك عمل بيرل هذا في المعهد المعروف باسم أمريكان انتربراز انستيتون AMERICAN ENTERPRISE INSTTUTE وهو أحد أبرز مؤسسات المحافظين الجدد.
وعندما تسلم جورج دبليو بوش دفة الرئاسة الأمريكية، عهد الى بيرل بمنصب رئاسة مجلس الدفاع ومن هذا المصب استطاع ان يرشح عددا من رفاقه القدامى من المحافظين الجدد وعصابة اليمين اليهو- مسيحي في مناصب مهمة داخل حكومة بوش، ومن ذلك الموقع بدأ جهوده في إشعال نار الحرب على العراق.
وفي عام 1986 التقى بيرل هذا رئيس حزب العمال البريطاني حينذاك دينيس هيلي DENIS HWALY حيث قُدّم في ذلك اللقاء على أنه "الشخص المسؤول عن الحرب العالمية الثالثة". ويعلق النقاد على هذه الحادثة بالقول بأن من المؤكد ان الشخص الذي نطق تلك العبارات يتمتع بقدرات غير عادية في التنبؤ، وذلك بالنظر الى الدور الذي لعبه بيرل في تأجيج نيران الحرب ضد العراق.
أما وليام كريستول (وهو أيضا يهودي) فهو أيضا يتمتع بدور مماثل ولكن في نطاق مختلف. ونظرا لكونه إبنا لأب من ذوي النفوذ والتأثير هو ايرفنغ كريستول الذي وصف ذات مرة بأنه "الأب الروحي لحركة المحافظين الجدد"، استطاع كريستول الشاب تولي منصب كبير موظفي نائب الرئيس الأمريكي السابق دان كويل، مستغلا صلات أبيه.
وبعد ذلك أصبح محرر مجلة ويكلي ستاندرد WEEKLY STANDARD وهي مجلة أسبوعية تصدر في الولايات المتحدة، ويملكها روبرت مرادخ صاحب شبكة فوكس نيوز. قام كريستول هذا بتأسيس منظمته الخاصة التي أطلق عليها "بروجكت فور ذي نيو أمريكان سنتشري وتعرف اختصارا PNAC وتعني "مشروع العهد الأمريكي الجديد" ونشاطات وعمليات كريستول تناغمت وتطابقت مع نشاطات وأفكار ريتشارد بيرل.
ومع ارتفاع الأصوات الداعية للحرب على العراق، وخاصة بعد نجاح بوش "الصغير" قيصر إمبراطورية الشر، شرع بيرل وكريستول بالعمل معا ودمج نشاطهما وشبكتيهما لدرجة أصبحت الفلسفة اليمينية اليهو- مسيحية المحافظة الجديدة لأرباب رأس المال العسكري النفطي في أمريكا، هي القوة المحركة وراء كافة أجهز صناعة السياسة الخارجية الأمريكية.
وظهر بعد ذلك ويليام كريستول الى جانب رفيقه روبرت كيفيان كأبرز مروجي الفلسفة المحافظة الجديدة الإمبريالية العدوانية.
ويشكل الكتاب الذي اشتركا في تأليفه والمنشور عام 2000، بعنوان: "الخطر المحدق: الأزمات والفرص في سياسة الدفاع والسياسة الخارجية الأمريكية"، بيانا شاملا لوجهة نظر المحافظين الجدد. واشتمل الكتاب على عدد من المقالات لبيرل بالطبع، وعدد من "نجوم" المحافظين الجدد من شبكة بيرل وكريستول (سأتطرق لبعض الأسماء في مقال آخر عن المحافظين الجدد).
وفي معرض تعليقه على هذا الكتاب كتب الدبلوماسي البريطاني جوناثان كلارك قائلا:
"إذا أرادت الحكومة الأمريكية تنفيذ التوصيات التي جاءت في الكتاب مرة واحدة فإن الولايات المتحدة ستخاطر بخوض حرب منفردة على خمس جبهات على الأقل والضغط على إسرائيل في الوقت ذاته من أجل التخلي عن عملية السلاح لصالح مواجهة شاملة مع الفلسطينيين".
وكما يشير مايكل ليند أحد أبرز ناقدي المحافظين الجدد فإن تلك التوقعات أصبحت بالفعل هي ذات السياسات التي تبنتها إدارة الرئيس بوش بعد سنتين".
ويضيف ليند "إن اليمين الصهيوني المتطرف الذي ينتمي إليه كل من بيرل وكريستول على صغر حجمه، قد أصبح القوة الفعالة في دوائر صناعة السياسة في الحزب الجمهوري".
وفي كتاب جديد لمايكل ليند من أكبر المناهضين للمحافظين الجدد في أملايكا كتب يقول: "في عهد حكم بوش اندمج الجهاز التنفيذي في الحكومة الأمريكية الإسرائيلية الى درجة غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي.. وهذا الوضع على شدة غرابته وشذوذه يعود الفضل فيه الى تأثير النموذج الإسرائيلي على المحافظين الجدد في حكومة جورج بوش، فأصبحت الولايات المتحدة القوة الوحيدة في العالم تتصرف وكأنها دولة محاصرة، منبوذة، وغير آمنة، تماما مثل إسرائيل في ظل قيادة حزب الليكود".
ويعلق الصحفي تشارلز كروتهامر وهو من أبرز مؤيدي المحافظين الجدد في الإعلام الأمريكي في مقالة مجلة التايم TIME في 17 شباط 2003 حول الحرب ضد العراق قائلا: " ليست فقط أسلحة صدام بل هي لإعادة إصلاح ذلك الجزء من العالم.. إن ما تحتاجه الولايات المتحدة ليس إستراتيجية خروج بل إستراتيجية دخول. والعراق هو البوابة". وبكل صراحة سمى كروتهامر أهداف سياسة حرب المحافظين الجدد:"إيران ، المملكة العربية السعودية، سوريا وغيرها".
وفي شباط 2003 نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن رئيس الوزراء الإسرائيلي أريئيل شارون كان يحث الولايات المتحدة على التحرك تجاه إيران وليبيا وسوريا بعد افتراض نجاح الولايات المتحدة في تدمير العراق.
وبعد اشتعال الحرب ضد العراق مباشرةً أصدرت منظمة مكافحة التشهير، والتي توصف بأنها بوق الدعاية لجهاز الموساد الإسرائيلي في أمريكا بيانا قالت فيه إننا نعبر دعمنا لحكومة الولايات المتحدة في جهودها للتخلص من الرئيس العراقي صدام حسين والخطر الذي يشكله على استقرار وأمن المنطقة. ان التخلص من صدام حسين هو أمر ضروري وواضح".
من هنا ترابط مصالح رأس المال العالمي ودور إسرائيل في خدمة السياسة الامبريالية العامية خدمةً لرأس المال العالمي واليهودي أوجدت وخلقت تماثل متكامل في المصالح دعمتها وساعدت في سيطرتها على مجريات الأمور في الولايات المتحدة عصابة المحافظين الجدد بفلسفتهم البرجوازية العنصرية، مع اليمين الإسرائيلي بكل أطيافه وساعد في إلغاء كل إمكانيات السلام في المنطقة في السنوات الأخيرة.
ويطرح السؤال هل العصابة الحاكمة في واشنطن "وسفينة الأغبياء" حكومة إسرائيل، يستطيعان السير والتقدم في عملية سلام جادة وبناءة تنهي احتلال وتبني السلام العادل في المنطقة. برأي هذا حلم بعيد بعيد المنال لأن ما تخطط له إسرائيل وأمريكا ليس إقامة دولة فلسطينية مستقلة قادرة على البقاء وعلى كامل مساحة الأراضي الفلسطينية المحتلة بل إقامة إدارة فلسطينية على أجزاء غير مترابطة في الضفة، على شكل كانتونات، تسهل على إسرائيل التعامل الإداري مع الفلسطينيين لتخفيف حدة الصدام القومي وليس حل جذري للقضية القومية الفلسطينية، واستمرار إسرائيل في بناء المستوطنات، أكبر دليل على ذلك وتفاؤل رئيس السلطة الوطنية محمود عباس حول إبرام اتفاق مع إسرائيل حتى نهاية هذا العام ما هو إلا سراب وعلى المفاوض الفلسطيني أن يخرج من المربع الإسرائيلي الأمريكي ويعود للنضال من أجل كسب الرأي العالمي، وممارسة النضال الجماهيري الشعبي.
د. خليل اندراوس
السبت 19/7/2008