في منعطفات التّعارك الإنتخابي، تكوِّنُ بعضُ التشكّلاتِ، حزبيّةً كانت أو فئويّة أو عائليّة، نوعاً من الصورة البيانية الرؤيوية تعبيراً عن رغبة طبيعية في اقتراح الجديد (سياسيّاً وخدماتيّاً الخ..)، وما يميّز معطيات هذه الصورة أو تلك، وجود أحكام قيمة (مُسبقة) على مصداقيّة هذا الطرح أو ذاك وهذه الرؤية أو التجربة أو تلك. غير أن في مثل هذا النُّزوع تعبيرٌ عفوي، عن تحولات المفاهيم والأفكار داخل الصورة البيانية العامة للمدينة.
"المُعاركات" الإنتخابيّة لا ترتقي عادةً الى مستوى "الجدليّات" في طرح تصور ما أو رؤية تتعامل مع واقع هذه المدينة بوصفه امتدادا لتاريخٍ معقّد ومركب على أصعدة كثيرة، كما أنّه مُنطلَقٌ الى طموحاتٍ وآمالٍ متشابكة تشابك الحياة نفسها. وهذا اللاإرتقاء يُستدلُّ عليه من غياب الهمّ الجدليّ في مساحة الحياة الطويلة اليوميّة الممتدّة بين معركة انتخابيّة وأخرى، اللهمّ إلاّ جدليّة المُعاشِ اليوميّ التي يخوضها كل فرد وفرد على حِدة. فالجدليّات سيرورة ومُراكمة، لا طفرة وتبدّد. والمعركة الإنتخابية قد تؤجج هذه الجدليّات وتزيدها اشتعالاً بمقدار أو آخر، لكن لا يمكنها أن تخافظ على معناها فيما تكون مجرد حالة طارئة أو نزوة عابرة.
من هنا تفتقد "معاركنا" الإنتخابية القيمة الملازمة للجدليّات وتفتقد المعنى. يمكن القول إن "فُقدان المعنى" هو ما يلازم هذه المعارك التي تُنهك المدينة. وبدلاً من أن تتحول هذه المعارك الى جدليّات تؤسس لثقافة تمنح المعنى لهذه المدينة وحياة مواطنيها، بدلاً من ذلك، تكاد تكون هي المؤسَّسة المؤسِّسة لثقافة فقدان المعنى!
* * *
من جانب آخر، وفي سبيل استكمال الصورة، فإن الأجندة، الصّائتة منها والصّامتة، للتشكلات المتعاركة إنما تصبّ في خاناتٍ أيديولوجيّة وفكرية وطائفيّة تستوجب التوقف عندها مليّاً، ومراقبتها نقدياً من منظار دورها وتداعياته السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية الخ...
ومن هنا، ربما علينا أن نبحث عن الأسئلة المناسبة للموضوع كي نخوض فيه.
* * *
وفي سياق التاريخ الإنتخابي الحديث لمدينة الناصرة، شكلت بعض الطروحات منعطفات مؤثرة على غير صعيد، بات معظمها يشكل اليوم علامات يجدر الرجوع إليها ودراستها لفهم بعض جوانب التجربة في سبيل التأكيد عليها وترسيخها وتطويرها من جهة أو تفاديها ونقدها من جهة ثانية. تتراوح هذه الطروحات بين المُعلن وغير المُعلن؛ تتراوح بين المُفصَح عنه وبين ما يمكن فهمه بالحفر في طبيعة التركيبات التي تشكل هذه الفئة وتلك، أو الإعتبارات التي تؤدي الى تشكيلاتٍ لا تعبّر أحياناً عن حقيقة الفكرة من وراء هذه التشكيلة أو غيرها، مما يؤدي الى تداعياتٍ دراماتيكيّة لا تنحصر في التأثير على مُستقبل الحركة المعيّنة بل على المدينة ومجتمعها بأسره.
ولعل في التفاوت المذهل (الذي يصل أحياناً إلى حد التناقض والمفارقات) بين بيان هذه الطروحات ونزوعاتها قياساً للسياقات الزمنية التي تشير إليها هذه الطروحات، يجعلنا نتأكد من أهمية دراسة القلق الراهن الذي يشوب التحركات الإنتخابية الراهنة بين وداخل الفئات والحركات المتعددة، ومحاولة فهم طبيعة التحولات الجذرية في مفاهيم الطروحات على ضوء المشهد الواقعي للمدينة.
هذه المفارقات وهذا القلق يجعلاننا، نستجيب لإحساسنا بضرورة التعرّض لـ"الحالة الإنتخابية" بوصفها هستيريا متكرّرة تعكس الهستيريا الكامنة المُزمنة في العلاقات الحزبية والطائفية والحمائلية داخل المدينة، بما يمكن أن يُسهم في درس "المعنى" في ومن العملية الإنتخابية بمكونات جديدة بعيدا عن الانفعال العابر.
* * *
ربما، وضمن أسئلة كثيرة هامة يجدر طرحها، يبقى السؤال الأول والأهم في هذا السياق هو ما يُعنى بمعنى هذه المدينة وكيف نرى إليها من خلاله؟ ولكي نضع صيغةً أبسط للسؤال ربما نطرحه على شكل "كيف نريد لهذه المدينة أن تكون؟" ولكن، وعلى أرض واقع هذه المدينة، علينا أن نتدارك ونقول بأن الطريق الى السؤال ومنه الى الإجابة يمر بكل أطياف هذه البلدة، فإما البحث عن القواسم المشتركة بجديّة والتكافل حولها، وإما الصّراع الذي يستوجب حسماً ساحقاً يفرض فيه الغالب رأيه على الآخر.
ولكن، يبدو أن فكرة "الفوز الساحق" قد تراجعت في قاموس هذه المدينة، وبالتالي فإنّ فكرة "فرض الرأي والمنهج" قد توارت كذلك وتوارى معها أسلوب الصراع العنجهيّ و"الزّعبرجيّ" الواثق.
ليس مهماً اليوم أن تكون صادقاً بمقدار ما تكون قادراً على تضييق الهوّة بين التيارات المختلفة وتغليب الوفاق، في سبيل العمل من أجل برنامج موحّد، على الفُرقة التي ساهمت في تحجيم المشاريع وتعطيل القرارات وتهميش والأفكار الناجعة تحت سطوة "النكاية" ووسوسات "النقمة" وغيرها من الإعتبارات الضيّقة.
وعودٌ على بدء، "كيف نريد لهذه المدينة أن تكون؟"
في لجّة الأصوات التي تئزّ طائفيّةً وتطفح بالخطاب الديني العنصريّ الغيبي يتراجع صوت المثقف، وفي ضوضاء الإعتبارات الفئوية الضيّقة والحمائلية والحزبية يتوارى موقف المثقف، وفي أوحال اللُّهاث المنفعيّ والمصلحيّ الضيّق يتردّد المثقف ويُجري الحسابات!...
أين هم مثقفوا الناصرة، أكاديميوها، فنَانوها، موظّفوها وعمالها وأبناؤها الغيورون عليها وعلى مستقبلها كمدينة ذات معنى وقيمة؟ كيف نجحت الطائفية والحمائليّة وغيرها من الإعتبارات والذرائع الضيّقة من توزيعهم على قوائم وتيارات وحركات متنازعة، بدلاً من أن يصطفّوا معاً تحت مصلحة المدينة بوصفها أفقاً معيشياً بكلّ أبعاده الماديّة والروحانيّة؟
وهنا لا بد من مجموعةٍ من الأسئلة:
1. هل من رؤية واضحة ذات قيمة عملية تنفيذيّة تضع مدينة الناصرة على خارطة المدن في العالم، خاصّةً أن للناصرة بعداً رمزياً تاريخياً له تداعياته العالمية؟
2. هل من خطة تجعل من مدينة الناصرة مدينة أكثر استقلالية من الناحية الإقتصادية، بما يحيلها من مدينة منفّرة للقوى العاملة وللإستثمارات الى مدينة جاذبة؟
3. هل من برنامج ينهض بالناصرة ثقافياً بحيث نتدارك سقوط الأجيال القادمة في فخ الطائفيّة والثقافات الغيبية التي تتغذى على الجهل والقطيعيّة والنعرات الملازمة للإنغلاق والعصبيات على أنواعها؟
4. هل من أفق لتمكين المثقف والأديب والفنان من البقاء في بلده ومحاورة الفكر والفن العالمي انطلاقاً من الناصرة وبإسمها، دون الخضوع الى مؤسساتٍ تحكمها عقولٌ متعفّنة، ضيّقة ومربّعة، تتشبّث بالبيروقراطيّة والتكنوقراطيّة بأسلوبٍ غرائزيٍّ مريض، عالقة في قاموسٍ لغويٍّ سياسيٍّ عاجز عن التعامل مع تعقيدات الحاضر وبعيد عن أيّ استشرافٍ للمستقبل؟
5. هل من تصور جمالي بيئي يرتقي بهذه المدينة الى مصافي مدن المجتمعات النظيفة والحضارية؟
6. هل من ترتيبات تجنب الناصرة من أن تُستلب بوصفها عاصمة العرب في البلاد، ووُجدانُ فلسطين بأكملها، بكل ما لهذه التسمية من معاني وتداعيات، أن تُستلبَ أكثر مما حصل حتى الآن؟
7. هل من رؤيةٍ ورؤيا لتفادي الخصخصات الرأسماليّة التي لا تأخذ بعين الإعتبار التركيبة الإقتصاديّة والإجتماعيّة لأهل المدينة، وبالطبع تتجاهل مصالحهم الحيوية المطلوبة لبناء الإنسان. فبناء فندق باذخ الثمن أو مجمّع تجاري لا يحتاج الى شعاراتٍ كاذبة تغطّي عليه كما هو الحال مع "قصر الثقافة" الوهميّ الذي نسمع عنه منذ سنين، شاب فيها شَعرُنا وآملنا في آنٍ معاً!
هذه الأسئلة وغيرها تستدعي جهوداً كبيرة وجماعية لوضع برامج عملية قابلة للتنفيذ تحت مظلة من الوفاق والإتفاق، فهذه المدينة وهذا المجتمع الفلسطيني لن يحتمل مزيداً من الفُرقة والخصام والإنفصام، كما أنه لن يحتمل المزيد من الشعارات الفُقاعيّة الفارغة المُتعاركة؟
* * *
اليوم، نحن بحاجةٍ الى حوار عام عميق وحقيقي وجذري تصير معه المعركة الإنتخابية مجرد إجراء شكلي لا يؤثر على مصلحة وفاقية عامة للمدينة، بل يحسم لصالح آليات تنفيذ كهذه أو كتلك وأساليب عمل، أما في الجوهر فتكون القواسم المشتركة في الحوار هي البوصلة للجميع.
ما زال في الناصرة أصواتٌ صامتة وآفاقٌ صامتة، والآمال قد تتكشّف في خزائن هذا الصّمت حين يُفصح عن نفسه داخل العمل الجماعي المؤسس على المحبة والمصلحة الواحدة، وحين يتغلّب الثّقافيّ على السياسيّ، وبدلاً من أن نقول "نحن مُسَيّسون" نقول "نحن مثقّفون".
الناصرة، تموز 2008
بقلم د. وسام م. جبران
السبت 19/7/2008