كان جُنَّ بعروسٍ جليليّة، ولم يبنِ لها، جنونئذٍ، تاجَ محلِّ أو سديرًا وخورنق، بل بيتًا يؤاخي الشّمس والثّلج والجرمق. ومنذ ذيّاك الجنون، صار اسم هذا البيت هنا "بيت جنّ". شكرًا لكم، لإقامة هذا العرس الثّقافيّ الباذخ، "تمّوزيّات"، على مدار خمسِ ليالٍ فاغمات من رزنامتنا العربيّة الفلسطينيّة الثّمانيأربعينيّة، عا راس السّطح وعلى سطوح الجيران وما بعد الجيران وما بعد بعد الجيران.
****
أمّا بعد، وقبل الحديث عن ابنُ صفّي اللّزم، الصّديق الشّاعر مالك صلالحة، أراني راغبًا، لا راهبًا، في فضفضة خجولة على ضفاف عباءة سماحة الأمين العامّ للحزب الشّيوعي، الرّفيق الأعلى والأغلى، الأخ الأكبر والكاتب الكبير محمّد نفّاع (قدّس الله حبرَه وحزبَه). وكأنّي به يقول: إمامِي الحبرُ، قبلتُهُ ارتحالٌ/ إلى حيثُ الأمامُ بلا وراءِ/ ورائي ألفُ ميلٍ مِن أمامٍ/ أمامي صارَ مِن زَمَنٍ ورائي.
****
محمّد نفّاع، أنموذج نادر لزواج كاثوليكيّ، لا فكاك منه، بين الثّقافيّ والسّياسيّ. برغم ما وصل إليه من مواصيل، في حقول الحبر والورق وفي صفوف الحزب والقلق، ظلّ هذا المحمّد النّفّاع متواضعًا كالعشب. لم أرَ إليه، لا بين سطور مكتوبات ولا في ما وراء سطور مكبوتات، إلاّ كافرًا بالانتماء إلى آل نرجس، وكافرًا بالارتماء في أحضان غيمة مارقة من هنا أو ريح سارقة للنّار من هناك. محمّد نفّاع، حريّ بالأحرار في كلّ الأصقاع، أن يرفعوا لكم قبّعة الرّوح وطبّة القلم، لِما عِثتم في دفاتر أيّامنا وملفّات أحلامنا من رائحةٍ بيضاء تعانق القمم. واسمحوا لي أن أنهي أدخولتي عن محمّد نفّاع بما يلي: صرلُه عُمِر مش عَ السّطِر يعرق/ مجنون لاَ مْعلَّق وَلا مْطلَّق/ ياما قالولُه عَ السّطِر إمشي/ قَلُّن أنا صَحّ، السّطِر إلْوَق.
****
بين التّكريم والتّأبين، شَبَهٌ ما: بصرف النّظر عن علاقته بالمتوفّى أو بالمحتفى به، لا يستطيع المتحدّث إلاّ أن يتجاوز عن السّيّئات. هناك نطلب شهادة أهل الدّين، وهنا شهادة أهل القلم. ولكن، فضلاً عن المصداقيّة والموضوعيّة، من شروط الشّهادة: ألاّ تكون خُطبة تنتسب إلى آل مطّاط أو إنشاءً يثرثر ولا يقول. فلتأذنوا لي، إذن، بشهادة، أرجو أن تكون صالحة، عن مالك صلالحة، هذا الماثل أمامكم سكَّرًا في كوب أيّامنا المالحة. لا تتوقّعوا ورقة أكاديميّة أو دراسة نقديّة، لأنّي لست باحثًا ولا يبحثون ولست ناقدًا ولا ينقدون.
****
قبل أبحّ من ستّين عامًا تختار عمّة لأبي مالك أن تتقمّص شقيقة لي. ويصير بين البيتين خبزٌ وملح وزيت وريحان. وقبل سنوات قليلات تختار والدة مالك أن تتقمّص حفيدة لأخي. وتندلع القرابة من جديد. وكي أسدّ هذا الدّين الثّقيل، العابر للأدوار والأكوار، فلا أطلب إلى مالك الأرض والسّماوات إلاّ أن أتقمّص حفيدًا لمالك، ولكن بشرط واحد أحد: أن يسمّوني "مالكًا" روحي وجسمي ومالي وولدي من بعدي. وبتعرفوا؟! عندي كمان شرط: أن أكون أطول بسنتمترٍ واحد فقط لإقناع جموع المؤمنين أنّ الدّيالكتيكَ حيٌّ لا يموت.
****
مالك صلالحة، شاعرًا وكاتبًا وباحثًا، أصدر، على انفلاش أربعة وعشرين عامًا، اثني عشر كتابًا (سبعة منها شعرية). في معظم قصائد مالك صلالحة، نَفَسٌ ثوريّ يتحدّى الظّلم والظّلام، ويستشرف العدلَ والسّلام. إنّه، بكلمة، شاعر متفائل، يحبّ الحياة ويكره الموت، يقول "نعم للحبّ" ويقول "لا للحرب". يتمرّد على الصّمت ليشقّ طريقًا للصّوت. ففي قصائده ما يبعث على الفرح والأمل، رغم مرارة الحاضر وضبابيّة القادم: "ها هو التّاريخُ يشهدْ/ أنّني ما زلتُ حيًّا/ رغمَ أنفِ الحقدِ واللّيلِ الطّويل".
****
وليس آخرًا، مبروك، من أقصى أقاصي الرّوح، للصّديقين المبدعين، الكاتب محمّد نفّاع والشّاعر مالك صلالحة، لهذا التّكريم الحقّ. وألف شكرٍ، من قبلُ ومن بعد، لكوكبة جميلة من مثقّفين بادروا إلى مثل هذا التّكريم، وباسم أبي هشام وأبي حسين أقول للمكرِّمين: من كرّمني حيًّا صِرْتُ لهُ خَيًّا.
حرفيش، الجليل، تمّوز 2008
(*) مقاطع من مداخلة الشّاعر تركي عامر في تكريم الكاتب محمّد نفّاع والشّاعر مالك صلالحة في قرية "بيت جنّ" الجليليّة (9 تمّوز 2008).
بقلم: تركي عامر
الجمعة 18/7/2008