دلال والعدل المقلوب



تصادف اليوم الذكرى الستون لمجزرة دهمش، يومها ذبح عناصر الهجاناة والمنظمات الصهيونية الإرهابية زهاء 80 فلسطينيا معظمهم من الشيوخ والأطفال والنساء. في الحادي عشر من تموز 1948 دخلت القوات اليهودية بقيادة يغئال ألون مدينة اللد وما لبثت أن بدأت بالتطهير العرقي. التهجير كلمة مروعة لكنها لا تتسع لكل دلالات وتداعيات " التطهير العرقي" المصطلح الأصح لتوصيف نكبة اللد.
داخل مسجد دهمش حيث احتمى المدنيون العزل لم ينج شيخ ولم يشفع لسيدة مذعورة طفلتاها التوأمان وهما تبكيان بين ذراعيها فقتلن لكن الموت لم يفرقهن كما أكد شهود العيان. ولا تتسع صفحات الصحيفة هذه وغيرها للوقوف على حدود بحر الدماء والدموع الفلسطينية جراء جرائم الحركة الصهيونية. هذه الحركة التي أدانتها الأمم المتحدة بالعنصرية ذات مرة تواصل صناعة الأساطير ضمن مساعيها لنسج الرواية وخلق شعب وضمان ما يوحد بين كسوره ويكرس عليائه وبنفس الآن لا تتوقف عن شيطنة الآخر العربي. تحدثت الأسطورة  الصهيونية عن غلبة الأقلية على الأكثرية( بخلاف حقائق التاريخ) وما فتئت تتحدث عن طهارة السلاح والمعايير الأخلاقية العالية وترمي أعدائها بعكسها.
في كل مرة ينشأ الحديث عن صفقات التبادل يتشدقون بالمنظومة القيمّية وبتوصيفات ومعايير وضعت لاستثناء من " لطخت أياديهم بدماء الإسرائيليين". أوساط واسعة في الرأي العام الإسرائيلي تتحدث بمصطلحات الأخلاقية العالية وسط تجاهل التاريخ الأسود للصهيونية ولإسرائيل والمكتوب بدماء الفلسطينيين والعرب مدنيين وجنود أسرى كما جرى في سيناء وسواها وكأن أيادي الإسرائيليين مدهنة بعبق المسك والعنبر. فيما جرت مذبحة دير ياسين قبل استقلالهم على يد عصابات فإن مجزرة دهمش وقبلها مذبحة الطنطورة وغيرهما وقعت بعد إعلان الدولة وعلى يدها ويقر المؤرخون الإسرائيليون الجدد بوقوع نحو 70 مذبحة بحق الفلسطينيين.
أن يأتي دافيد بن غوريون من بولندا ويخطط كيف يتم ترحيل السكان العرب وبناء دولة لشعب بلا أرض على حساب شعب آخر فهو أمر مشروع أما أن تأتي الصبية الجميلة دلال المغربي ابنة يافا لتضحي بذاتها من أجل الثأر وإجبار إسرائيل على صفقة تبادل فهي جريمة كبرى لا تبرير لها . وقتها رفضت إسرائيل خاصة بمستواها العسكري التجاوب مع دعوة دلال المغربي لإنهاء خطف الحافلة في "الكانتري كلاب" مقابل إطلاق أسرى فلسطينيين ففجرتها على من فيها.
 مثل هذه الموازين المختلة بعصر العدل المقلوب تجسد نموذجا مما عناه جبران حينما قال في مواكبه " وقتل إمرء في غابة جريمة لا تغتفر ..وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر".
دلال وهي الابنة  المدللة التي تفوقت بمدرسة حيفا الثانوية في بيروت لم تولد لتموت في العشرين من عمرها وهي تقطر جمالا وذكاء وشهامة لكن الصهيونية دفعتها للموت المبكر من أجل حياة شعبها. لولا خراب مدينتها على يد الصهيونية لكانت دلال المغربي اليوم والمولودة عام 1958 أما في الخمسين من عمرها تنشغل في يوم عطلتها الجمعة في اصطحاب أحفادها لبحر يافا الجميل بدلا من أن تكون رفاة ضمن ضريح مجهول تعتليه أشواك براري الجليل منذ ثلاثة عقود.
وما أشبه اليوم بالبارحة فالعدل الأبكم والأخرس في زماننا هو استمرار لاختلال في موازين القيم الأوروبية. حينها صوت لجانب قيام إسرائيل والاعتراف بها دولة لليهود كافة معظم الغرب بل كافتها وربما عكس ذلك رغبته بالتعويض عن جرائم النازية ومسؤولية أوروبا برمتها. ولكن وبعد ستة عقود تواصل أوروبا المتحضرة الإنسانية الكيل بمكيالين وتشارك في الجريمة المرتكبة بحق دلال ودمائها حقوق شعبها. ستة عقود من التهجير واللجوء وأربعة عقود من احتلال الضفة والقطاع لم تمنع ساسة الغرب من المشاركة باحتفالات ستينية الدولة اليهودية حتى بدا بعضهم أعضاء في الليكود وكاديما والحديث لا يقتصر على جورج بوش.
دلال جاءت لعروس البحر لا لتقتل بل لتثور على حرمان أسرتها من منزل وأرض في يافا استولى عليها قادم جديد من بلغاريا أو رومانيا  ولمساندة زملائها داخل السجون. دلال ركبت البحر وحملت دمها على كفها ثأرا لدماء كمال عدون وكمال ناصر وأبو يوسف النجار الذين قتلهم رصاص الكوماندوز بقيادة إيهود براك داخل منازلهم وهم في ثياب النوم أمام عيون زوجاتهم وأطفالهم عام 1973. قصة دلال ورفاقها هي قصة الثورة الفلسطينية التي اضطرت إسرائيل لمفاوضتها بعد "حملات صليبية " متتابعة عليها.
إسرائيل التي رفضت الإفراج عن سمير القنطار بخلاف الاتفاق مع حزب الله عام 2004 شنت عدوانها على لبنان عام 2006 وتسببت بمقتل وجرح الآلاف من الطرفين وهي تعود لما أكده حسن نصر الله قبيل الوعد الصادق بأن الجنديين الأسيرين لن يعودا إلا بمفاوضات غير مباشرة. بذلك تؤكد إسرائيل من جديد أنها لا تفهم سوى منطق القوة ولا تتورع عن التمثيل بأنصار السلام من الساسة الفلسطينيين المعتدلين أمثال الرئيس عباس وزملائه في السلطة الوطنية التي قالت أمس إنها تدرس إمكانية وقف المفاوضات جراء المماطلة والتسويف والأكاذيب الإسرائيلية. ما جرى ويجري يعزز ما سبق وقالته الوزيرة السابقة شولميت ألوني من أن إسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة وإن بوسع  موسيليني لو كان حيا تعلم دروس جديدة في الفاشية وهي بعيدة عن موقع الوعظ والتغني بالأخلاق العالية بعد صفد عن خان يونس.
وديع عواودة
الخميس 17/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع